علي مدي أزمنة شتي وهناك مسافة شاسعة بين الإبداع الحقيقي نصا مكتوبا كان أو لوحة مرسومة, وبين صور الإبداع الباهتة التي تصل إلي سمع وبصر عامة الجماهير, جاعلة إياهم يتفاعلون معها, وأحيانا يحفظونها عن ظهر قلب, ويرددونها في حركاتهم وسكناتهم. ولا أرجع ذلك إلي أن الإبداع, كما يحلو للبعض أن ينظر, هو فن الصفوة وخاصتهم, ولا صلة للعامة به, كلا. وهذا لأن الإبداع هو غذاء المشاعر, والمشاعر ليست حكرا علي أحد دون أحد, إنما هي شيء يولد الإنسان به. لكني أري أن السبب في هذا يرجع في المقام الأول إلي درجة الثقافة التي يمتلكها الفرد ومدي ارتفاع مؤشر معرفته أو انخفاضه. ففي الوقت الذي لا يفهم فيه الكثيرون نصا شعريا لأدونيس أو لمحمد الماغوط أو لمحمود درويش, أو لغيرهم من أساطين الإبداع الحقيقي, ولا يتفاعلون معه ولا يتأثرون به, نجد الجماهير الغفيرة وهي تردد دواوين كاملة لمتشاعرين لا قيمة لهم أضحوا نجوما وأقمارا ساطعة في نظر العامة..!. لهذا لا يبدو غريبا أو مثيرا للدهشة, أن يهلل العامة لنصوص لا إبداع فيها, في الوقت الذي لا يقدرون نصوصا أخري ملأي بالإبداع. وما يقال عن الأدب والفن التشكيلي, يقال كذلك عن الغناء الذي يقف العامة في طوابير طويلة, دافعين مئات الجنيهات ليسمعوا أو يشاهدوا أشخاصا جعلوهم نجوما, لا لشيء سوي لأنهم يتصفون في أغلب الأحيان بالتفاهة والسطحية التي تمسح أدمغتهم وتنقلها لتعيش في عالم آخر كله زيف وخداع, في الوقت الذي اختبأت فيه قمم غنائية بسبب عزوف العامة عنهم لأنهم ما يزالون يتمسكون بكل ما هو هادف وأصيل. ربما يتسبب هذا في إصابة بعض المبدعين الحقيقيين بإحباط مزمن وهم يرون بأعينهم ويسمعون بآذانهم عن نجوم مزيفة, لا تمتلك سوي بريق كاذب, صاروا يتربعون علي العرش فيما تزيح الأزمنة الغابرة بأهلها النجوم الحقيقية عن شاشة العرش الجماهيري. أليس محزنا أن يري الأسد نفسه وقد أقصي عن مكانه الطبيعي, في الوقت الذي يحتل فأر كهل عرشا لم يخلق له أبدا؟ أذكر في هذا الصدد ما قاله الشاعر الراحل عبد الوهاب البياتي, إجابة عن سؤال( هل القصيدة الجماهيرية هي عبارة عن أكذوبة كبيرة): طبعا طبعا. القصيدة الجماهيرية لا يقصد بها القصيدة السياسية فقط. قد تكون قصيدة حب ومع ذلك فهي جماهيرية. الآن عندما نأتي لدراسة القصائد التي غناها المغنون في نصف قرن نجد معظم هذه الكلمات سخيفة وسقيمة.. وذلك هابط ونجده في أسفل السافلين وذلك لأن معظم المغنين ليس لديهم ثقافة كافية. هم شبه جهلة وأميين يختارون أي كلام سهل ويغنونه. من هنا ثمة طريقان يمكن للمبدع أن يختار أحدهما.. إما أن يمضي في طريق الإبداع الحقيقي دون أن ينتظر شكرا أو تشجيعا من أحد, ناهيك عن جعله نجما جماهيريا يشار إليه بالبنان ويرتمي المعجبون والمعجبات في أحضانه وتهرول إليه الآلاف ليوقع لهم في( أوتوغرافاتهم).. كما لا ينتظر أن تقترب الجوائز منه ولا حتي أن تلقي إليه بالتحية! وإما أن يفضل درب السطحية والضحالة لتجتمع حوله الجماهير مصفقة له, لا لشيء إلا لأنه يذكرهم دائما بتفاهتهم وخوائهم المعرفي.. ثم ينسونه بعد لحظات قلائل. لكن ورغم كل شيء أيهما أحق بالاختيار: إبداع يكتب له الخلود رغم تجاهله والتعتيم المتعمد عليه وعلي صاحبه مؤقتا.. أم تفاهة تختفي أسرع من اختفاء فقاعات الصابون, وتتواري معها ضجتها الإعلامية والجماهيرية ولا يبقي منها سوي سراب؟! هذا لا يعني أن الإبداع الحقيقي لا يصل دائما إلي الجماهير.. بل يصل ويأخذ مكانه في عقل وذاكرة الجماهير. لكنه يعاني الأمرين خلال رحلة وصوله, كمن يحفر في صخر أو في جبل معدني صلب لا سبيل إلي النفاذ منه أبدا. حقيقة يعاني حواريو الإبداع الحقيقي معاناة لا سبيل لوصفها, وكأنهم أنصار نبي ليس مرغوبا في رسالته مطلقا.فهل هذا هو قدر الإبداع الحقيقي ونصيب أهليه.. أم أن الموازين حين تنقلب معاييرها تؤدي إلي نتيجة كهذي؟ أتذكر هنا الروائي البرازيلي باولو كويلهو الذي يصفه النقاد بأنه كاتب جماهيري فقط وهو يقول: لكي تؤمن بأن طريقك هو الطريق الصحيح لا حاجة بك إلي أن تثبت أن الطريق الذي اختاره غيرك ليس صحيحا. فلتختر أيها المبدع طريقك كما يحلو لك لكن عليك أن تتأكد تماما من أنك لن تأخذ كل شيء.. فإما ألا يلتفت أحد في حياتك إلي إبداعك ثم تكتشف عبقريتك الإبداعية الفذة بعد وقت متأخر من حياتك أو بعد رحيلك بقرون, وإما أن تنال حظك الجماهيري وبريقك الإعلامي ثم تنسي بمجرد اختفائك عن الأنظار. لكن ونظرا إلي أن كل الأمور قلبت معاييرها, يصير حلما أن يحصل كل ذي حق علي حقه, خاصة في عصر كثر فيه اللصوص الذين يسطون علي ما لغيرهم. نحن الآن في عصر يوصف المبدع الحقيقي فيه بالقابض علي الجمر.. عصر ليس للموهوبين فيه من نصيب سوي حرق الدم. عصر هو للفارغة جيوبهم من نقود الإبداع والموهبة, لكنها ملأي بأشياء أخري تبيح لهم خنق الزهور الجميلة وشنق العصافير التي تشدو فيسعد الجميع بصوتها العذب. يفعلون ذلك بكل وقاحة لصالح ثلة من الغربان الناعقة لكن ليس للمبدع الحقيقي أن ييأس, بل عليه أن يقاوم حتي يحتل مكانه الذي خلق من أجله.. عليه ألا يفقد الأمل في غد سيكون أفضل حالا, يناصر أصحاب الموهبة ضد المحرومين من ضئيلها. لمزيد من مقالات عاطف محمد عبدالمجيد