أفتتح هذه الكلمة بتهنئة الأهرام بهذه الصفحة التي تميزه عن سائر الصحف القومية والخاصة, فهي تعكس وعيا متقدما بأهمية الفكر خاصة في المرحلة التاريخية التي نمر بها الآن. فدون تأسيس منهجي واع لقراراتنا السياسية لا يمكن لنا أن نحقق أي تقدم حقيقي. كما لا يفوتني أن أهنئ الأهرام وقراءه بالأستاذ صلاح سالم مشرفا علي هذه الصفحة, ففي فكره الجاد والطموح ما يجعلنا نستشرف المستقبل بكثير من الأمل. وبهذه المناسبة أود أن أعقب علي مقالة دسمة للأستاذ صلاح عنوانها: الإخوانية والصهيونية: تشابه المنطلقات رغم اختلاف السياقات( الأهرام بتاريخ10 نوفمبر الجاري). وما كلماتي التالية سوي هوامش علي هذا المقال الممتع بكل المقاييس. يري الأستاذ صلاح أن منطلقات الفكر الصهيوني والإخواني تتشابه في عدة نقاط علي النحو التالي: أولها الاختزال التاريخي للواقع التاريخي الحالي إلي حقبة جد قصيرة في التاريخ القديم للمجتمع اليهودي فيما يدعي' أرض الميعاد', وإلي فترة حكم الخلفاء الراشدين عند الإخوان. وأضيف بدوري أن علة استدعاء ذلك التبرير التاريخي القديم ترجع في الحالة الأولي لما مر به اليهود في المجتمعات الأوربية من تناقضات خاضوها منذ العصور الوسطي نظرا لاشتغالهم بالنقود وارتباطهم باستغلال الشعوب الأوربية خاصة في فترات الأزمات التاريخية الطاحنة كنهايات العشرينات وأوائل الثلاثينات من القرن الماضي, مما أدي لكره الشعوب الأوربية لهم, واستغلال النازي لذلك بملاحقته لليهود. من هنا تنامت فكرة الخلاص من هذا التناقض الحاد بالبحث عن موطن يجمع اليهود بعيدا عن البلاد الأوربية. ولم يكن ذلك حلما يهوديا وحسب, وإنما' حلا' أوروبيا بالمثل في عصر الاستعمار الأوربي للبلاد العربية, فلم يكن' بلفور' وحده الذي شجع اليهود بوعده لهم علي التوطن في فلسطين, وإنما كان النازي يسعي بدوره ل' تهجيرهم' إلي فلسطين حسبما جاء في خطب هتلر نفسه. وقد تلازم موقف النازي بإزاء اليهود مع حله الاقتصادي' الكينزي' بتوظيف الغالبية العظمي من الألمان الذين عانوا الأمرين في أزمة نهايات العشرينات وأوائل الثلاثينات في مشروعات قومية عامة, مع استغلاله لكره الشعب الألماني لليهود لارتباطهم باستغلال بؤسه في سنوات الأزمة الطاحنة بالسعي لإبادتهم مع سائر المعارضين له فيما يدعي الهولوكوست. وهنا لا ننسي أن من بين أولئك اليهود الذين لاحقهم النازي ثمة أطباء عالجوا مواطنيهم من الفقراء الألمان بلا مقابل, وأن طبييا مصريا كان يعمل في برلين آنذاك تستر هو نفسه علي يهود ملاحقين معرضا نفسه للهلاك, حتي أن الكيان الصهيوني في إسرائيل حاول أن' يكرمه' علي ذلك ولكنه رفض ذلك التكريم المرائي عن حق. لأن ما تفعله إسرائيل اليوم مع العرب يقارب في بشاعته ما فعله النازي باليهود إذ تحولت' الضحية' إلي وحش معتد علي من لم يكن أبدا طرفا في الاعتداء عليها. هكذا تحولت إبادة اليهود في ظل النازي إلي مذبحة دير ياسين, وغيرها من المجازر التي اقترفها الصهاينة في حق الشعب الفلسطيني لتطفيشه من أرضه وأرض وأجداده علي مدي آلاف الأعوام.. ومن هنا صار وجود' إسرائيل' استمرارا بغيضا للاستعمار الأوربي في المنطقة العربية, لكن علي نحو استيطاني تدعمه القوي الغربية ماليا وعسكريا في مرحلة هيمنتها علي عالم اليوم.. ومع هذا نجد أن اليهود النازحين من البلاد العربية إلي الكيان الصهيوني علي أرض فلسطين التاريخية يرزحون تحت العنصرية ذاتها التي يعاني منها عرب48 مما أدي إلي تلاحم الكثير منهم مع غير اليهود من العرب في تلك الدولة التي تكرس العنصرية الغربية في سياساتها العامة. من هنا فمسعي الكيان الصهيوني المغتصب لأرض فلسطين بأن يدعي' دولة يهودية' لا يرتكز علي الأسطورة التوراتية القديمة وحدها, وإنما يمثل' حلا' في الأساس لمشكلة اليهود وتناقضهم مع الشعوب الأوربية علي حساب الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة العربية. ويحيل الأستاذ صلاح في مقاله المكثف التوجه الاختزالي المشترك بين الصهيونية والنزعة الإخوانية لاستحضار كل منهما لاستثناء' تاريخي بعيد' يتجاهل الواقع القريب ويبرر موقفهما الأيديولوجي. وإذا كان الدافع الحقيقي وراء الأسطورة الصهيونية عن دولة' يهودية' دامت لبضعة عقود منذ آلاف الأعوام علي أرض فلسطين, هو البحث عن مخرج لارتباط اليهود تاريخيا باستغلال الشعوب الغربية, ومن ثم لفظ تلك المجتمعات لهم, فإن نشأة الإخوان ودعوتهم لإحياء دولة' الخلفاء الراشدين' كانت رد فعل في1928 لسقوط الخلافة في1924 وسعيهم المحموم لاستعادة' عالمية' قديمة همشها صعود وهيمنة رأس المال علي الصعيد العالمي. وإن كان وجه الاختلاف البين هنا بين الصهيونية والنزعة الإخوانية أن الأولي حركة دولية النشاط تنحو لدعم دولة إقليمية فرضت عنوة علي شعوب المنطقة العربية. أما في الحالة الثانية فتتناقض الدعوة الإخوانية بعالمية توجهها مع الولاء الوطني للدولة القومية التي نشأت في مصر وترعرعت منذ أوائل القرن التاسع عشر. أما عن المشترك بين مسلكي التنظيمين الصهيوني والإخواني فقد أشار الأستاذ صلاح بذكاء واضح إلي أن ثمة منطلق جامع بينهما, وهو ما دعاه في مقاله الهام' البرجماتية المفرطة', ولعلها تسمية جد مهذبة للانتهازية الخالصة القائمة علي الصراع المفتوح مع' الآخر'. فالكيان الصهيوني يحرص في دعايته الغربية علي تصوير المنطقة العربية علي أنها' فراغ' عليه أن' يملأه'!. أما مشكلة الإخوان في تناقضها الحالي مع الدولة الوطنية في مصر فترجع في رأييي لتنكب الحكومات المتعاقبة منذ ثورة يناير عن حشد المواطنين في مشروعات قومية عامة تستوعب العمالة المعطلة وعلي رأسها تعمير أرض سيناء. فبذلك, وبذلك فقط يمكنها أن تتجاوز المشروع الإخواني وسعيه الدائب لإحتواء الدولة الوطنية في عالميته الموهومة. لمزيد من مقالات د. مجدى يوسف