درست الطب باللغة الانجليزية, المراجع كلها أجنبية, ليس فيها مرجع مصري واحد, رغم أن المصريين أول من اكتشف علم الطب, وعلم التحنيط المصري ظل سرا لآلاف السنين. لماذا تخلف العقل المصري؟ ولماذا عجزت الحضارة الحديثة عن تحقيق العدالة والسلام والحرية والكرامة للشعوب بصرف النظر عن الجنس أو الطبقة أو الدين؟ بل اشتد الفقر والقهر علي النساء والأطفال والكادحين, وتضاعفت مخاطر أسلحة الدمار الشامل والحروب الاستعمارية, وعمليات التجسس المعلنة والسرية, والتجارة الرابحة بالأسلحة والأجساد والمخدرات والأديان, وتكنولوجيا الإعلام القائم علي العنف والجريمة وترويج الشائعات وقلب الحقائق, ولا تختلف بلادنا عن غيرها كثيرا.. لجنة الخمسين تلاعبت بكلمتي الهوية وشرع الله لوضع دستور يميز القلة علي الأغلبية الساحقة, وفشلت الديمقراطية عالميا في تحقيق التمثيل النيابي العادل للشعوب, كما أن البرلمان المصري تسلل إليه في السابق أصحاب الأعمال ولواءات البوليس تحت اسم العمال والفلاحين, وفي لجنة الخمسين ينوب أربعون رجلا عن أربعين مليون امرأة مصرية, وفي الانتخابات الأوروبية نجحت نساء تتكلم بأصوات اشرس الرجال( ثاتشر وميركل وآشتون) وصعد إلي الحكم في أمريكا رجال بشرتهم سوداء( بارك أوباما) يتكلمون بصوت الأثرياء ذوي البشرة البيضاء. الحضارة الحديثة تطورت تاريخيا عن النظام العبودي دون أن تفقد قيمه وأفكاره وعقليته وتقوم أساسا علي القوة أو قانون الغابة, لقد أصبح النساء والفقراء والمهاجرون عبيد القرن الحادي والعشرين.. أجساد مختونة شبه مخصية, عقول مسلوبة شبه عمياء, المهن الحرة أصبحت تجارة تقوم علي الغش, منها الطب والمحاماة والقضاء والتشريع والسياسة, الانتخابات ساحة قتال, لا يفوز فيها إلا أصحاب السلطة والإعلام والأموال. وكانت الحضارة المصرية القديمة أكثر ديمقراطية وإنسانية, أعلي المناصب( ومنها الألوهة) لم تكن حكرا علي الرجال, كانت ايزيس الهة الحكمة والمعرفة, معات إلهة العدل ورئيسة القضاة, سخمت الهة الطب ونقيبة الأطباء, والمرأة المصرية هي التي اكتشفت الكتابة, وأبدعت الفنون والعلوم والنحت والموسيقي, امتدت فلسفة ايزيس لأوروبا حتي القرن السادس الميلادي, فكيف تحرم النساء المصريات اليوم من المشاركة في تغيير الدستور والقوانين والقيم والدين؟ كيف أصبح رأس المرأة المصرية عورة, وكان تاج العلم المعرفة؟ كيف أصبح اسم الأم عارا, وكانت الأمومة شرفا ينسب لها الأطفال؟ الدراسات المتطورة الأخيرة( ومنها علوم المرأة) بدأت تتبع منهجا علميا جديدا, يربط الجسد بالعقل, والمادة بالروح, والتاريخ بالطب, والاقتصاد بالكيمياء, والبيولوجيا بالديمقراطية والسياسة, بدأت البحوث الجديدة تتجاوز القيم الدينية والقوانين الأكاديمية, وتكشف عن جذور القهر الطبقي الابوي في التاريخ ومخاطره المدمرة للبشرية. ولم تعد أسباب الفقر غباء الفقراء أو كسلهم, بل القوانين الاقتصادية السياسية المزدوجة الجائرة, الرجل لم يحكم المرأة لتفوقه العقلي أو سمو جنسه, بل بسبب القمع السياسي الديني لأجساد النساء وعقولهن؟. لم يلعب التقدم العلمي دورا في تحقيق العدالة والحرية والمساواة, بل أصبح العلماء والأطباء والفنانون جزءا من الطبقات الحاكمة غربا وشرقا, يعملون علي قهر المبدعين الثائرين نساء ورجالا وشبابا, ولم تستخدم الطاقة الذرية والنووية لتوفير الخدمات الصحية والاحتياجات الضرورية للشعوب, بل لمزيد من قتلهم في الحروب المتقنة. ولم يكسب الشعب المصري من حفر قناة السويس ومشاريع التنمية والديمقراطية والشراكة إلا المزيد من الفقر والاستبداد والتبعية.. ولم تكسب الشعوب العربية من اكتشاف البترول وثرواته الهائلة إلا المزيد من الاستعمار والنهب والحروب, ولم يحصل علي جائزة نوبل أبطال السلام, بل زعماء القتل والخداع مثل مناحم بيجن وبارك أوباما, ولم تخدم الاكتشافات الطبية( في البيولوجيا والكيمياء الحيوية) مطالب التقدم الصحي والفكري, بل أنتجت الأسلحة الكيماوية والبيولوجية, وأجهزة التجسس والقمع الجنسي والعرقي. ولم تعد الثورات الشعبية( من وول ستريت وسان بول إلي شوارع القاهرة) طريقا لتحرير النساء والفقراء والعاطلين, بل أصبحت نزيفا لدمائهم وصعودا علي جثثهم لمناصب الحكم, إنها الحضارة الطبقية الأبوية, لها عين واحدة ونصف عقل, فهل يغلبنا اليأس؟ أبدا فالأمل قوة والثورة المقبلة تبدأ في العقل. لمزيد من مقالات د.نوال السعداوى