الزهد, التفاني الشديد, التواضع الجم, الجدية الصارمة, أربع خصال ميزت ونسجت بخيوطها الرقيقة الدقيقة المتقنة ملامح ومعالم شخصية أستاذ جليل فقدته الصحافة المصرية وصحيفة الأهرام الاثنين الماضي, هو محمد عيسي الشرقاوي. وحينما نرثي الرجل, فإننا في واقع الأمر ننعي قامة من قامات جيل عظيم مؤثر من الكبار الذين كانوا يشكلون رمانة ميزان لمهنة وأخلاقيات عالم الكلمة المكتوبة وحرصوا علي نقل خبراتهم ومعارفهم لأجيال متعاقبة. هذا الجيل حمل علي عاتقه مسئولية وأمانة الكلمة عن طيب خاطر بدون تفضل ولا تكبر, ومن المحزن أن هؤلاء العمالقة ينقرضون وينفرط عقدهم مع تساقط أفرع شجرتهم المثمرة اليانعة, وبغيابهم تحرم المهن المؤسسة للوعي العام من نماذج رائعة في زمان لا يقدر القدوة. وبالتأكيد فإنه يشق علي المرء كتابة كلمات يرثي فيها عزيز عليه تتلمذ علي يده وكان علي مسافة قريبة منه واستفاد من علمه وأسهم بقسط وافر في تأسيسه مهنيا وفكريا, لكن الحديث عن جوانب تتعلق بالراحل العزيز وسجاياه ربما تكون نقطة ضوء تنير لنا الطريق المظلم في زمن طفت فيه علي السطح الطفيليات والمتسلقين وأشباه المبدعين الذين يملأون الدنيا ضجيجا وصخبا صباح مساء بدون إنتاج حقيقي يشار إليه ويستحق التوقف عنده ودراسته والاسترشاد به في كل الأوقات. فالأستاذ عيسي كان زاهدا لدرجة تبعث علي الاندهاش, لم يسع لشهرة ولا صيت زائف ولم يشغل وقته بمد جسور وقنوات العلاقات العامة مع هذا وذاك لتسليط الأضواء عليه, بل إنه كان يشعر بالحرج إذا سمع عبارات ثناء بكتاباته العميقة من زملائه ومتخصصين وأساتذة جامعات, وظل يردد أنه يؤدي عمله وحسب ولا يرغب فيما هو أزيد, وأنهم يعطونه أكثر من حقه من التقدير والإشادة. الأغرب أنه عندما طلبت منه بعض دور النشر الكبري تجميع مقالاته لنشرها في كتب تردد في التجاوب وفوت الفرصة التي يلهث خلفها الكثيرون, لخشيته من أن يؤثر انشغاله في الإعداد لها علي عمله, مكتفيا بما ينجزه علي صفحات أقدم جريدة في الشرق الأوسط. فعل هذا برغم نجاحه في رسم خط متفرد متميز لكتاباته عبر زاويته حكاية سياسية التي بدأها قبل22 عاما, وكانت حكاياته السياسية جرعة ثقافية مكثفة قلما تعثر عليها في مكان آخر, حيث مزج فيها بين التاريخ والسياسية والأدب والفلسفة والعلوم الحديثة والأديان, وتفوق ببراعة في صياغة البورترية الصحفي. كما كان من المبدعين القلائل الذين حافظوا علي نقائهم الفكري والمهني والاخلاقي فلم يضبط يوما متلونا بحسب لون الطيف والهوي السياسي الغالب, وكيف يفعل هذا وكانت الحرية والديمقراطية أنشودته الأثيرة؟ فمن يرجع لأرشيفه سيجده يصرخ في سطوره مطالبا بالحرية لهذا الشعب الحرية وليس الانفلات والتخريب , حتي في عز وعنفوان نظامي مبارك والإخوان, وبرع في توجيه الأنظار نحو مناطق ونماذج مجهولة في تاريخنا المصري القديم والحديث وأيضا الاسلامي واستغلالها في الإسقاط علي واقعنا المعاش بما فيه من سقطات وانحرافات وعثرات وخطايا وأخطاء. فالانتماء للوطن ولجريدته كان حاضرا دائما في ذهنه وفي حواراته ومناقشاته, وسمعته مرات عديدة يتحدث بفخر عن انتمائه لمؤسسة عريقة كالأهرام الذي أفني بين جدرانها ما يزيد عن أربعين عاما جسد فيها عمليا مجموعة من القيم والمبادئ والمعاني السامية الراقية التي شح الطلب عليها في أسواق المدينة. لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقي