عندما ظهرت تجربة الدستور الأولي كانت الأولي بين الجرائد المصرية من حيث التوزيع في لندن د. عمرو عبد السميع سمعت اسم الأستاذ إبراهيم عيسي للمرة الأولي في العقد الأخير من القرن الماضي، حين حدثني عنه بعض زملائه في «روز اليوسف» باعتباره أحد نجوم المستقبل القادمين لا محالة. ومن وقتها أتابع كل نتاجه الصحفي والأدبي شأن متابعاتي لكل نجوم ورموز الأجيال التي تلتني، أنا أكبر من إبراهيم بعشر سنوات - بالتمام والكمال - إذ ولد في نوفمبر شهر مصر القديس عام 1965 فيما ولدت في نفس الشهر عام 1955. وأذكر أن الأستاذ إبراهيم عيسي أثار دهشتي وإعجابي إلي نقطة الحد الأقصي بروايته «العراة» التي حملها لي أحد زملائه في روز اليوسف العاملين معي - وقتها - في مكتب جريدة «الحياة» الدولية في القاهرة وكان اتفاقي معهم - جميعاً - أن ينصحوني بقراءة ما يرونه جديراً بالقراءة من أعمال إبداعية إذ انغمست - بالكامل - في شواغل ومتابعات سياسية منعتني إعطاء ما تعودت من وقت للمطالعات النقدية والأدبية، وصار المتاح بالنسبة لي هو قراءة المهم من الأعمال الأدبية أو المثير الضجة فقط لكي لا أتخلف في مسار خطوت عليه بهمة منذ سنوات. التهمت رواية إبراهيم المفعمة بأفكار ومشاعر طازجة التي استولدت في نفسي رغبة متواصلة في التأمل والتفكير. قرأتها مرتين وهو - بالنسبة لي - أمر استثنائي نادر، ومازلت أذكر بعضا من كلمات الناقد الكبير الأستاذ رجاء النقاش التي قدم بها لتلك الرواية: «منذ فرانز كافكا لم يعرف الأدب رواية مثل «العراة»، وفي أول مناسبة التقيت الأستاذ رجاء «حلت حين دعاني إلي غداء في مطعم فيش ماركت بالجيزة» تناقشت معه - طويلاً - في أمر الأستاذ إبراهيم عيسي وروايته «العراة» وساءلت الأستاذ رجاء ما إذا كان يري عمل إبراهيم فلتة نادرة كبيضة الديك «كما يحدث عند بعض الأدباء وبالذات شبابهم»، أم أنه فقرة من سياق قابل للنمو والتطور؟!.. فأجابني الأستاذ رجاء بنفس الحماس الذي قدم به للرواية أن الأستاذ إبراهيم عيسي هو مشروع أديب كبير ولكنه يخشي عليه من نداهة الصحافة. نهايته.. ظل الأستاذ إبراهيم عيسي بنداً ثابتاً علي جدول أعمال متابعاتي من وقتها، وقرأت عدداً من مؤلفاته «بعضها أرسله أو حمله لي أصدقاء وقت عملي في بريطانيا والولايات المتحدة» ومنها: «مريم التجلي الأخير» و«مقتل الحسين» و«الإسلام الديمقراطي» و«أشباح وطنية» و«عندما كنا نحب» و«رجال بعد الرسول» و«في وصف من يمكن تسميتها الحبيبة»، وعشرات العشرات من مقالاته. وأذكر حين انطلق الإصدار الأول من الدستور أن أرسلت لإبراهيم من لندن - من دون معرفة شخصية -برقية أهنئه فيها بتلك الصحافة الجديدة التي هندسها ابتكرها كما أخبرته أن الدستور صارت الأولي بين الجرائد المصرية من حيث التوزيع في لندن كان الأهرام التي رأست مكتبه هو الذي يقوم بتوزيع كل المطبوعات المصرية». لم أر إبراهيم «وجهاً لوجه» أبداً إلا - بشكل عابر - في عشاء عند صديق سابق بعد عودي من واشنطن ولكنني قرأت كل ما يكتب، وتابعت ظهوراته التليفزيونية «ضيفاً ومقدماً» بإعجاب تزايد علي نحو مضطرد ولم أسمح - أبداً - لاختلاف مواقع أقدام كل منا في هذا المربع السياسي أو ذاك، أن يحاصر أو يقمع اعترافي الكامل به كاتباً ومبدعاً ساطع الموهبة.. إذ اعتبر أن تكييف أو «تقييف» الرأي المهني، بحسب الاتفاق أو الاختلاف السياسي أو الشخصي، خيانة متكاملة الأركان لأصول المهنة وأصول السياسة معاً. ينبغي أن نتيح لهذا البلد أن يستريح من الإنهاك الذي يعانيه جراء الاحتراب الشخصي «أولاً»، والسياسي «ثانياً» والمرض الذي تدفع إليه رغبات الاستعلاء وعلو الكعب والتضاغط والميل إلي الإزاحة «ثالثاً». ينبغي أن نسمح لمصر باحتضان الموهوبين من أبنائها لأنهم قيمة مضاعفة إلي قوتها الصحفية والسياسية والإبداعية «كما في حالة إبراهيم عيسي»، كنت أختلف مع بعض ما تنشره الدستور لكنني احترمت مهنية نجومها الرائعين: الأستاذ وائل عبدالفتاح، الأستاذ إبراهيم منصور، والأستاذ جمال فهمي، والأستاذ أكرم السعدني، والأستاذ خالد السرجاني، الأستاذ أحمد عبدالتواب، والأستاذ أسامة خليل، الأستاذة دعاء سلطان، والأستاذة نجلاء بدير، والأستاذ عمر طاهر، والأستاذ محمد علي خير والأستاذ بلال فضل «قبل أن يترك الدستور إلي مكان آخر»، وأشرت - غير مرة - وقت كتابتي مقال «هؤلاء» اليومي في جريدة «روز اليوسف» إلي بعض تميزات مهنية للدستور». كنت أري في نجومها اندفاع وتمرد الشباب الطبيعي عند الموهوبين المشغولين بتجريب التجارب استطعام الطعوم والذهاب المندفع إلي أقصي الآماد.. ولكنني - بيقين - كنت أري فيهم - أيضاً - نفس توتر الجيل القديم الذي صنع التغيير في صحافة الخمسينيات وما بعدها في مصر وفي «روز اليوسف» بالذات. الموهوبون من أبناء مصر - حتي لو اختلف بعضنا معهم - هم جزء من الأصول الوطنية التي لا ينبغي لأحد تبديدها أو حصارها أو سحب الاعتراف الواجب بها.. هم - ببساطة - جزء من مقومات القوة السياسية والحالة الديمقراطية في مصر.. وبهم - وبآخرين - نباهي غيرنا من مجتمعات سياسية - وصحفية وإعلامية عربية ودولية. ينبغي أن نتوقف عن الاحتراب ونفرح قليلاً بما نملكه من أدوات تميز. نهايته.. مرة أخري. أقمع نفسي من الاسترسال لأن غرض هذه السطور هو الاحتفال ببرنامج الأستاذ إبراهيم عيسي «الفاروق عمر.. أميراً» الذي أذيع في رمضان علي قناة «دريم» وهو ما اعتبرته - في أول مقالاتي عن المواد التليفزيونية الرمضانية أفضل البرامج في التليفزيونات الخاصة والحكومية «لا تعنيني - هنا - ترهلات الحديث عن نسب الإعلانات أو صراخ بعض المذيعين والمذيعات - كبائعي أسواق الجمع والثلاثاء في الأرياف - مدعين أنهم الأكثر حيازة لنسب المشاهدة والأكثر قبضاًعلي أعلي الأجور». أنا أتكلم عن القيمة الفكرية والإعلامية وهي القادرة علي تطوير مستوي ذائقة الجمهور والنهوض به وإقالته من مستنقعات التسطيح والتفاهة والادعاء والتمصلح والخداع التي أغرقه فيها أداء القائمين بالاتصال الجدد «مذيعين ومذيعات علي نحو انخفض بمستوي ذلك المشاهد وأسهم في تصنيع منتج «بفتح التاء» بشري لا يليق بمصر أو تاريخها ووزنها وقيمتها. برنامج الأستاذ إبراهيم عيسي يعلم - من شاء أن يتعلم - مهارة تصميم وبناء الرسالة السياسية والفكرية والفقهية عبر صياغات راقية وهادئة ليس فيها إملاء أو رغبة في إقحام ذات مقدم البرنامج علي أحداث يتعرض لها، بحيث يبدو - كما يفعل البعض - صانعاً للتاريخ وليس مشتبكاً مع حقائقه بالقراءة والتحليل. طريقة الأستاذ إبراهيم عيسي البسيطة والعميقة في مخاطبة الناس سمحت له أن يورطهم معه - علي نحو رائع - في الإبداع وفي مناقشة قضايا من طراز: «الأمة مصدر السلطات» و«محاسبية المحكوم للحاكم» و«العدل الاجتماعي» وغيرها. مستوي أداء الأستاذ إبراهيم عيسي في «دريم» يطرح تساؤلاً عن سبب عدم ظهوره علي شاشة التليفزيون الحكومي، رغم أنه رجل مسئول يعرف كيف يتحدث في وسط إعلامي أو صحفي مستخدماً المساحة التقليدية السياسية التي يوفرها هذا الوسيط. ودليلي علي ذلك أن جريدته - علي كل معارضتها وتمردها - هي أهم مصدر «من وجهة نظري» طوال العام الماضي لأخبار مؤسسات سيادية كبري في هذا البلد، يعني الرجل يعرف كيف يدير لعبته، ولا معني - والحال كذلك - أن نكون ملكيين أكثر من الملك في التعامل معه. .............. أحيي الأستاذ إبراهيم عيسي علي برنامجه الرائع، وأرجو أن نجد طريقة للاحتفال بمثل ذلك العمل، إذ لا ينبغي أن نقصر جوائز التقدير في المهرجانات علي كبار موظفي اتحاد الإذاعة والتليفزيون أو المذيعين والمذيعات الذين تدللهم وكالات الإعلان وتهشتكهم خالقة منهم نجوماً يسهمون في تدمير وعي الناس وخلق وإفشاء ثقافة إعلامية وسياسية واجتماعية متخلفة بما لا يقاس. نقلا عن مجلة «الإذاعة والتليفزيون». 2 أكتوبر 2010