يجسد الخلاف الدائر حاليا حول إنشاء جهة قضائية تتخصص في القضاء التأديبي, الصراع الحقيقي في المجتمع المصري, والمتمثل في صراع بين ارادتين, إرادة التطوير التي تؤمن ان للثورة استحقاقات يجب الوفاء بها حتي يجني الشعب ثمار ثورته, وإدارة الجمود التي تريد ان تفقد الثورة معناها, وان تظل الاحوال كما هي دون ثمة تغيير. فالتوصيف الصحيح لهذا الصراع, هو انه صراع بين ارادة التغيير التي تحلم بإصلاح المرافق العامة واعادة الانضباط الوظيفي اليها, وبضرورة القضاء علي الاهمال الوظيفي, وتري أن هذه الاهداف مشروعة يجب تحقيقها اليوم قبل الغد, ويترسخ في وجدانها ان تحقيق ذلك فرض عين علي كل وطني مخلص يريد الصالح العام, وهي تدرك بيقين ان السبيل لتحقيق هذه الأهداف هو تطوير نظام التأديب القضائي, وذلك في مقابل إرادة اخري ترفض فكرة التطوير من اساسها, و تستنكر مجرد التفكير فيها, وتعتصم في مواجهتها بالسلطة الفعلية المستمدة من نظام قانوني قديم, يكرس مفهوم أن قيمة كل جهاز من أجهزة الدولة تقاس بمقدار هيمنته واتساع نطاق اختصاصه, باعتبار ان ذلك معيار القوة والاهمية في المجتمع, بغض النظر عن اتفاق ذلك التكريس مع الصالح العام. لقد تناسي المعترضون علي انشاء جهة القضاء التأديبي ان لجنة الخمسين تضع دستورا جديدا للبلاد, وبالتالي لها مطلق الحرية في تحديد اختصاص الهيئات القضائية, وانه لا يجوز تقييدها في ذلك بما هو كائن من قواعد قانونية قائمة, فهي ليست قواعد قرآنية منزلة من السماء لايجوز المساس بها ولا الاقتراب منها, انما هي قواعد قانونية وضعية من صنع المشرع الدستوري وحده والذي عليه واجب اعادة النظر فيها, للتحقق من مدي وفائها بمتطلبات وجودها, والمتمثلة في أن تحقق جملة اهداف علي رأسها سرعة الفصل في الدعاوي التأديبية بأحكام رادعة تكافح الاهمال والفساد الوظيفي. ان الحقيقة التي يجب ان يعلمها الشعب والتي يحاول البعض اخفاءها تحت صخب الاعتراضات غير الموضوعية, هي ان انشاء جهة القضاء التأديبي, لايمس اختصاص مجلس الدولة الاصيل في نظر طعون الموظفين علي قرارات الجزاء, وهو اختصاص منبت الصلة بما ستتولاه الجهة القضائية الجديدة من منازعات مختلفة موضوعها الدعاوي التأديبية التي يهتم فيها الموظف العام في اي نظام قانوني مقارن علي النحو المعمول به في مصر, ولا يقتصر نظرها في مصر علي اعضاء مجلس الدولة فقط اذ يجلس مجلس القضاء فيها حتي يومنا هذا موظفون اداريون في مجالس التأديب المختلفة, ورغم ذلك يحرمون ذلك علي اعضاء النيابة الادارية, فضلا عن انها دعاوي مماثلة للدعاوي الجنائية, ومن ثم يكون من المنطقي ان يتم تنظيم الكيان القضائي الذي يتولاها علي غرار القضاء الجنائي, بأن يتم اعداد القاضي الذي يفصل فيها علي ذات نسق اعداد القاضي الجنائي, بأن يتم اختياره بعد ان يكون قد امضي سنوات في مجال التحقيق و الادعاء بالنيابة الادارية اكتسب خلالها خبرة كبيرة, مثل التي يكتسبها القاضي الجنائي الذي يتم اختياره من اعضاء النيابة العامة. لقد اشاع المعترضون ان النص الجديد سيؤدي الي ان تجمع النيابة الادارية بين سلطة التحقيق و سلطة الحكم في الدعوي التأديبية, رغم مخالفة ذلك للحقيقة, فالطبيعي انه سيكون هناك فصل بين جهة التحقيق, وجهة الحكم في الدعاوي التأديبية, اذ سيتم اختيار القضاة الذين يحكمون في الدعاوي التأديبية ممن لم يسبق لهم مباشرة أي عمل من اعمال التحقيق او الاتهام فيها, اي يتم التبادل بين اعضاء النيابة الادارية وقضاة المحاكم التأديبية, وفق ذات القواعد التي تتبع في التبادل بين النيابة العامة والقضاء الجنائي, والنيابة العسكرية والقضاء العسكري, اذ لا توجد نيابة في مصر لا ينقل اعضاؤها للعمل بالقضاء إلا النيابة الادارية, وهو وضع خاطئ, لا يوجد اي مبرر موضوعي لاستمراره. ان انشاء جهة قضائية مستقلة جديدة تضم المحاكم التأديبية, والنيابة الادارية باعتبارهما كيانا واحدا, يحقق المصلحة العامة المتمثلة في القضاء علي بطء التقاضي, اذ يمكن اعضاء مجلس الدولة من التفرغ للمنازعات الادارية, و يؤدي إلي زيادة عدد دوائر المحاكم التأديبية بما يقضي علي تأخر الحكم في الدعاوي التأديبية لمدد طويلة, رغم ان القانون حدد مدة شهرين فقط للحكم فيها, وهو ما لا يحدث علي الاطلاق, فتحقيق العدالة الناجزة من سمات التأديب الذي يقتضي سرعة البت في المسئوليات التأديبية و توقيع الجزاء حتي يؤتي ثماره في تحقيق الردع المطلوب. وسط هذا الصراع نجد ان النخبة التي يفترض انحيازها لارادة التطوير, تقف موقف المتفرج رغم انها تخوض اختبارا حقيقيا, نتيجته ستجردها من كل ما تتخفي وراءه من العبارات المنمقة و الشعارات البراقة والمبادئ الرائعة للتجمل لتظهر بوجه مخادع غير حقيقي, صراع سيكشف بوضوح ما اذا كان من يرددون شعارات المساواة وحماية الحقوق والحريات يؤمنون بها حقا, ام يرددونها فقط بأقلامهم وألسنتهم دون ان توقر في عقيدتهم. لمزيد من مقالات المستشار اسلام احسان