انهار كثير من الأشياء في حياتنا يوم بدأ التعليم في مصر طريق الانهيار. قد يبدو وصف الانهيار ثقيلا موجعا لكنه يعبر عن واقع التعليم في مصراليوم. لا توجد في مصر مشكلة واحدة ليس التعليم سببها أو أحد أسبابها علي الأقل. اخفاقنا الاقتصادي سببه التعليم, مأزقنا الديموقراطي سببه التعليم, ثقافتنا المتردية سببها التعليم, كسلنا, خوفنا, تعصبنا, جهلنا, تسلطنا, كذبنا, فسادنا, فهلوتنا, كل هذه الآفات السلوكية سببها التعليم. هل ثمة مبالغة في استخدام كلمة الانهيار بدلا من التدهور أو التراجع مثلا ؟ الانهيار لغة هو سقوط ما كان قائما. وقد كان لدينا في مصر منذ نحو مائة وأربعين عاما دار للأوبرا, ومجلس لشوري القوانين, وحريات للرأي والتعبير, ونساء حصلن علي حق التصويت والترشح في الانتخابات العامة قبل نساء فرنسا, وحياة برلمانية, ودستور ليبرالي ومتطور عام1923 أصبحنا بعد تسعين عاما نتطلع لمثله. كانت لدينا صحافة حرة, وملك ينتقد علنا, وقبطي يمثل الأمة في البرلمان منتخبا عن دائرة أكثريتها من المسلمين. كانت لدينا موسيقي وثقافة وسينما رائدة مصنفة تاريخيا علي مستوي العالم. كان لدينا رواد أسسوا في البلدان العربية الشقيقة نهضات تعليمية وثقافية وصاغوا الدساتير والقوانين وأسسوا صروحا قضائية. كانت لدينا شوارع نظيفة وبيوت بسيطة لكن مرتبة وملهمة واليوم أصبحت لدينا شوارع قذرة يتحدث عنها العالم كله تملؤها القمامة لكنها تزدحم بأفخم انواع السيارات دون أن نشعر بالعار أو الحرج. أعلنت دول كنا نسبقها خالية من الأمية مثل كوريا وكوبا ونحن اليوم ما زلنا نرسف في أغلال الأمية بنسبة لا تقل عن27%. كان لدينا تعليم قدم للوطن والعالم برغم الصعاب وتواضع الامكانات مفكرين وعلماء أفذاذا آخر عنقودهم الذهبي أحمد زويل ومجدي يعقوب وفاروق الباز ومصطفي السيد وآخرون غيرهم. كانت لدينا مدارس تعلم في رحابها غير المصريين ممن أصبحوا ملوكا وأمراء عربا وأوربيين وحكاما ورؤساء وزارات ومشاهير.. بعض هذه المدارس التي كانت درة جبين التعليم المصري أصبحت اليوم أشبه بالخرابات التي تثير الأسي.. بعد كل هذا هل ثمة مبالغة في وصف ما جري بالانهيار ؟ ما الذي أوصلنا الي هذا الدرك؟ سيقدم كل منا تفسيرا, ومعظم هذه التفسيرات مقنع وصحيح علي اختلافها. لكن التفسير المشترك الوحيد الذي لا أظن أننا سنختلف عليه هو التعليم. نعم ابحث عن التعليم ستجده كامنا بصورة أو بأخري وراء كل هذه الانهيارات. لم تعد الكلمات في قاموسنا تحتمل مساحيق التجميل. فالشواهد والوقائع ناطقة بتفاصيل ربما لا يعرفها الكثيرون عما آل اليه نظام التعليم في مصر. أصبحت المؤشرات والأرقام كاشفة عن أن مصر قد أصبحت دولة عربية من الدرجة الثانية, ناهيك عن ترتيبها في ذيل القائمة العالمية. فمصر التي أسس روادها التعليميون الأوائل نهضات تعليمية وتربوية في دول عربية شقيقة هي نفسها مصر التي أصبحت ضمن دول التصنيف الثاني وربما الثالث علي المستوي العربي. من كان بوسعه أن يصدق هذا منذ خمسين عاما مضت؟ كل المؤشرات التي سيلي ذكرها والصادرة عن مؤسسات متخصصة وموثوق بها هي انعكاس لمستوي وواقع حال المنظومة التعليمية في مصر. كل مؤشر منها يكشف عن( انهيار) جانب ما في هذه المنظومة: الجودة التعليمية, كفاءات ومهارات الخريجين, المناهج والمقررات, تعليم العلوم والرياضيات, القيم والسلوكيات... هذا هو الحصاد المر لانهيار التعليم في مصر. لكي نكتشف( الانهيار) الذي أصاب مؤشر جودة النظام التعليمي في مصر الوارد في تقرير التنافسية العالمي للعام2014/2013 يكفي أن نعرف أن مصر قد جاءت في المرتبة145 عالميا من بين148 دولة علي مستوي العالم. المفاجأة الثقيلة ان مصر تحتل أيضا المرتبة12 علي المستوي العربي. وفي مؤشر جودة تعليم الرياضيات والعلوم وهما أساس أي تقدم علمي وتقني تقبع مصر في نفس الترتيب المتأخر145 في ذيل القائمة العالمية. تسبق مصر في الترتيب وتتفوق عليها دول عربية مثل اليمن وموريتانيا وعمان والأردن والبحرين. كما سبقت مصر أيضا في مستوي تعليم العلوم والرياضيات دول أخري مثل الجابون وتشاد وبنجلاديش ومالاوي وبوروندي وبوركينا فاسو ورواندا ودول أخري لم تكن قد اكتسبت اسمها ووجودها القانوني كدول وقت أن كانت النهضة التعليمية في مصر تشع النور لمجتمعات أخري في المنطقة. علي الرغم من الكلام الكثير الذي نسمعه عن دخول الانترنت في مدارس مصر فان الأرقام تخذلنا مرة أخري اذ تحتل مصر المرتبة125 من بين145 دولة علي مستوي العالم. والأعجب انه تسبق مصر وتتقدم عليها في هذا الخصوص دول مثل أثيوبيا ومالاوي وأوغندا ومالي وبنجلاديش وتنزانيا وزامبيا وكينيا. فهل كان الكلام الذي نسمعه عن تقدمنا في اتاحة الانترنت لطلاب المدارس غير حقيقي؟ أم ان أجهزة الكومبيوتر لدينا توجد في المخازن فقط؟ ام ان طلابنا لم يعودوا في حاجة اليها بحكم الدروس الخصوصية؟ ما الذي أوصلنا الي هذا الانهيار التعليمي؟ هل هو الفقر؟ لكن هناك دولا عربية أخري أكثر فقرا منا مثل اليمن وموريتانيا وأكثر من ثلاثين دولة أفريقية وكلها تسبق مصر وتتقدم عليها في هذه المؤشرات التعليمية. هل السبب هو الانفجار السكاني ؟ لكن هذا العامل نفسه قائم في دول أخري مثل أندونيسيا والهند وبنجلاديش وأثيوبيا والكونغو والمغرب.. فلماذا كانت مؤشرات هذه الدول المكتظة سكانيا والفقيرة أيضا أفضل من مؤشرات النظام التعليمي في مصر؟ بالطبع ثمة أسباب وعوامل كثيرة ومتنوعة أوصلتنا لما نحن فيه. لكن اذا كنا نريد حقا ان نسمي الأشياء بمسمياتها فان هناك هناك ثلاثة أسباب سيبقي الانهيار متواصلا ما لم نغيرها ونفتح ملفاتها.(للحديث بقية).. لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم