أوضحت في مقالي الأسبق الفرق الجوهري بين المؤامرة ونظريتها, فالمؤامرة حقيقة موجودة, مادامت المصالح موجودة, بينما النظرية مرض اجتماعي يأخذ من مؤامرة هنا أو هناك ذريعة لتبرير الفشل في ردع المؤامرة بالمؤامرة, التي تتطلب الكثير والكثير من الفن واللعب والهندسة. دور المؤامرة في حراسة الامتيازات والمصالح قد يكون أمرا مفروغا منه, بينما القدرة علي استخدامها أمر مشكوك به, فليس الأمر هينا, خاصة في العصر الحديث, الذي باتت فيه المؤامرة تحاك جهارا, ولم تعد السرية حصنا وحيدا أو كاملا, فالمؤامرة تستخدم أدوات علمية وثقافية متعددة, فتحتاج إلي هندسة الأدوات المتاحة لتحقيق الأهداف المحددة بإتقان, وتحتاج إلي فن لإقناع الأطراف الصديقة والمعادية, بمشروعية وأحقية وربما أخلاقية هذه الأهداف, وأيضا تحتاج إلي اللعب أحيانا, باستخدام المزاج النفسي العام للدفع في اتجاهات معينة, تحقق هذه الأهداف, فلا تمانع ضخ شعارات رنانة, وألفاظ جزلة, وحوادث تاريخية, وشخصيات كاريزمية دينية وفنية, وغير ذلك من أدوات اللعب علي المزاج النفسي للشعوب, وهي تتطلب دراسات في علم النفس الاجتماعي, والتاريخ, والمعتقدات, حتي تحقق هدفها, وليست لعبا علي غرار الاجتماع الشهير لنخبة الغبرة التي اجتمعت علي الهواء لحل مشكلة سد النهضة في منابع نهر النيل, الذي كان لعب في لعب, ولكن كلهو الأطفال عندما يتمكنوا من سدة الحكم, فأي لعب أسود هذا..؟! رغم التسليم بوجود المؤامرات, فإن ذلك لا يصلح لتفسير الظواهر الاجتماعية الكبري, من ثورات أو تحولات تاريخية, فتلك الظواهر المهمة تنتج عن آلاف التغييرات الاجتماعية الصغري( الميكرسيولوجي), التي تدفع بالأحداث إلي تغير اجتماعي كبير في البناء الأساسي للمجتمع, فلا مؤامرة محكمة, ولا شخصية كاريزمية عظيمة, قادرة علي إحداث تغيير اجتماعي أساسي, دون آلاف التغييرات الحقيقية, التي تفاعلت في النسق الاجتماعي كله, فالحكاية ليست حكاية مؤامرة أو شخصية, ولكنها حكاية شعب, أراد التغيير, فتصبح الشخصية أو الحدث عنوان لهذه الإرادة ليس إلا, فما الحكاية حكاية شعب أولا وأخيرا. العقل الأيديولوجي المقفل علي مبادئ وأفكار مصمتة, لا تقبل الانفتاح, والأخذ والرد, ولا تصمد أمام الحوار, ويرتاح لتفسير الظواهر الاجتماعية, مهما كبرت, إلي مؤامرات علي الأيديولوجية المثلي, التي تحتل عقولهم, فلا توجد لديهم لا قدرة ولا رغبة لرؤية الوجه الآخر للعملة. من أشهر المؤامرات المختلفة في العصر الحديث, إرجاع انهيار الخلافة الإسلامية في الدولة العثمانية بتركيا, إلي مؤامرة صهيونية يهودية, بقيادة زعيم الثورة الثقافية بتركيا كمال أتاتورك, الذي نسبوه إلي يهود الدونمة الغامضين. يعود يهود الدونمه إلي ساباتاي زفي اليهودي, الذي ادعي النبوة في القرن ال71 بتركيا, وهو أول يهودي بشر بعودة اليهود إلي أرض فلسطين, وتبنت الحركة الصهيونية ذلك فيما بعد, فادعي زفي أنه المسيح, فكون حركة دينية اجتماعية ما هي إلا تعبير اجتماعي عن أزمة اليهود المضطهدين في العالم, وانتهت بالحركة الصهيونية, وزفي شخصية تتمتع بالذكاء وحب القراءة, وأصبح حاخاما متميزا, يجيد حلو الكلام, والاستشهاد بالتوراة والتلمود, مثله مثل شيوخ الناتو ممن ابتلينا بهم الآن, فاستطاع أن يسيطر علي العقول المضطهدة التي تسعي للهروب من الزمان والمكان, إلي مجتمع مثالي متخيل علي أرض فلسطين. ضاق الحاخامات التقليديون من إدعاءات زفي, بأنه المسيح المنتظر, والتفاف الحاخامات من مذهب( القبالة) في التصوف اليهودي حوله, فشكوه إلي السلطان العثماني الذي شكل لجنة لمحاكمته بعد انتشار الفتن بسببه, فخيره السلطان( محمد الرابع) إما أن يثبت دعواه أو يقتل, فأنكر إدعاءه لأنه المسيح, وأعلن رغبته في دخول الإسلام, فأنقذ نفسه من الموت, وأقنع مريديه أنه صعد للسماء بأمر( ياهوه), وأصبح مسيحا, لكن تحت جبة وعمامة. كالنبي( موسي) الذي اضطر أن يعيش في قصور الفراعنة. عاش يهود الدونمة( المنافق) منغلقين علي أنفسهم, ثم اندمجوا وتفرقوا في المجتمع التركي, ولكن بقيت قصتهم الطريفة اتهاما جاهزا, لكل الإصلاحيين التحديثيين بتركيا, بأن أهدافهم مشكوك في صدقها, وأنهم يقودون مؤامرة, واتهم بها أتاتورك, الملقب ب أبو الأتراك للانتصارات العسكرية وتاريخه المشرف في الدفاع عن الخلافة العثمانية, ثم قيادته للبلاد في ظروف حرجة دقيقة, بعد حروب راح ضحيتها أكثر من مليون تركي بسبب الخلافة, وعبر أتاتورك عن تيار اجتماعي لاستبدال المرجعية القومية بالدينية, ورغبة شعبية للخروج من مأزق التخلف والهزائم, فكان عنوانا للخلاص الشعبي, وليس متآمرا علي الخلافة, بينما كان التآمر الحقيقي قد جاء من الشعوب الإسلامية التابعة لها, فقاتلت ضدها في الحرب العالمية الأولي. تفسير تحول تاريخي بهذا الحجم من الصعب تبريره بمؤامرة لفرد يهودي متنكر, ولكنه ليس صعبا علي العقول الأيديولوجية الجامدة, التي تتهم أتاتورك الذي خانه العرب, بينما تتغافل وترتمي في أحضان أردوغان, الذي يعطينا شعارات, وكلام, ومواعظ لم يطبقها عنده, وميدان تقسيم خير شاهد, ويدعي دفاعه عن الإسلام, ويقدم دماء المسلمين قرابين للدول الكبري حتي ترضي عنه. نحمد الله أن بمصر رجال استطاعوا تفسير الحكاية للشعب, فتخطوا فخاخ المؤامرات, ولم يقعوا ضحية نظرية المؤامرة, أو يستسلموا لها, فأخمدوا فتنة52 يناير بأدواتها الأثارية, وأشعلوا ثورة شعبية بكل معاني الكلمة في03 يونيو. لمزيد من مقالات وفاء محمود