في كل عام تقدم عمتنا النخلة- التي تقف شامخة أمام باب دارنا في قريتي- خيرها الذي لم تتوقف عنه عاما واحدا: البلح الأحمر القاني الحمرة, شديد الحلاوة كأنه مغموس في السكر. كنت صغيرا عندما قلت لنفسي: لماذا لا أكسو هذا الجذع الطويل كالح اللون بأوراق خضراء ؟! لم أكن أعرف أن أجيالا قبلي فكر صغارها في مثل ما فكرت فيه. نسيت عم عبد الحميد الذي اعتاد أن يجيء ليصعد النخلة مرتين في العام, مرة يضع حبوب الطلع بين سعفها لكي تجود ببلحها, والثانية ليجني بلحها ويزيل ما تقادم من جريدها لإخلاء المكان لجريد وسعف جديد. يضع عم عبد الحميد الحبل الذي يصعد به النخلة حول جذعه وجذعها, ويحرك الحبل وهو صاعد وقد ثبت قدميه علي ما برز من أصول جريد تم قطعه علي مدي مائة عام سابقة, وهو ما شكل البروزات التي تميز جذع النخلة عن جذوع بقية الأشجار التي تنمو علي حوافي الترع في قريتنا. نسيت كل هذا, فزرعت عند التقاء جذع النخلة بالأرض شجرة لبلاب, أوراقها كفيلة بتغطية جذع النخلة بوفرة من الأوراق الخضراء, وبسرعة. ظللت أرويها بالماء وأتابع نموها وهي تلتف أسبوعا بعد أسبوع حول جذع النخلة السامق, متسلقة في سرعة ومهارة كأنها تسابق الزمن. خلال أسابيع قليلة وصلت اللبلابة إلي الجريد والسعف عند قمة النخلة. سرعة الوصول رغبة في المشاكسة, شجرة اللبلاب الفخورة بشبابها سألت النخلة عن عمرها, فأجابت: مائة سنة... في دهشة ممزوجة بنغمة تفاخر بنفسها قالت اللبلابة: مائة سنة ولم تصلي إلا إلي هذا العلو الذي وصلته أنا في عدد قليل من الأيام والأسابيع ؟! في وقار ممزوج بالشفقة أجابت النخلة: هذا صحيح.. وفي شهور الصيف السابقة, خلال عدد كبير من السنوات, كانت تلتف حول جذعي شجرة لبلاب مثلك, فأين ذهبت وذهبوا؟! ثم أضافت نخلتنا في تواضع: عمري مائة سنة, أما عمرك فلن يزيد عن صيف واحد! لم تقصد نخلتنا أن حبل عم عبد الحميد وقدميه لابد وأن تحطم النبتة المتسلقة, بل كانت تقصد ما سيصيب شجرة اللبلاب الهشة من جفاف سريع تحت حرارة أشعة الشمس الحارقة, قبل أن تزيل قدما عم عبد الحميد ما بقي من ساق اللبلابة الجاف الذي يصلح وقودا لفرن جدتي. وفي حكمة ختمت النخلة همسها إلي اللبلابة: ليس المهم سرعة الوصول إلي مكانة عالية, المهم الاحتفاظ بهذه المكانة عمرا طويلا, نعطي فيه كل الوقت خيرا بغير توقف..