كثيرة العروق دقيقتها، بطيئة النشوء، طويلة العمر، منتصبة الارتفاع، مستطيلة الأوراق، ملتف حول جسمها ليفات منسوجة بدقة وعناية لحمايتها من البرودة، وتعتبر ضخامة حجمها وطول قامتها وكثرة عدد سعفاتها وأوراقها وأكمام طلعها ونواة ثمرها إبداع لقدرة الخالق، تكوينها من الداخل رطبا رخوا متخلخلا ليسهل على القوى الطبيعية جذب تلك المواد من أسفلها إلى أعاليها حتى سعفها وأوراقها وكأنها مآزر مشدودة على وسط حمال متشمر، لا تستطيع الرياح أن تصدع جذوعها عند ميلانها يمينا ويسارا، لحين أن تنشق أكمام النخلة. قصة حياة بداية من الطلع، ويظهر فى نسيم الهواء وحرارة الجو ليجف ويصير تمرا ودبسا جامدا. لايزال الأصل الذى انحدر منه النخل غير معروف، إلا أنه أصل من التهجين الطبيعى، وبتدخل الإنسان أصبح نخلا مثمرا بفضل استمراره عصورا طويلة لأن النخل الزينة أصوله بين غربى الهند وجزر الكنارى يرجح إدوار دو بكارى الذى يعتبر حجة فى دراسة النخيل، أن موطن نخل التمر الأصلى هو الخليج العربى، حيث الطبيعة الملائمة لاستمراره. وقد عُرف النخل فى الحضارات القديمة فى وادى النيل وبلاد الرافدين، فقد كانت النخلة مقدسة عند السومريين والبابليين والآشوريين، خصوصا عند مشارف منطقة الأهوار بجنوب العراق، فقد ورد فى نقوش مسمارية ترجع إلى الألف الثالث ق.م. ذكر النخلة المقدسة، كما كان الآشوريون يقدسون أربعة شعارات دينية، أهمها النخلة، ووجدت نقوش على ختم أسطوانى يعود إلى العهد السومرى القديم وعلى محراب يعود إلى أسر حدون تماثل ما جاء فى التوراة حول قصة آدم وحواء وإغراء الثعبان لهما، وهذا الرسم يمثل رجلا على رأسه قلنسوة بقرنين وأمامه امرأة حاسرة الرأس، وبينهما النخلة يتدلى منها عذقان من النخل وتمتد يدا كل من الرجل والمرأة لاقتطاف ثمرة، بينما ينتصب الثعبان خلف المرأة يغريها على الأكل من الثمرة المحرمة، وقد ترجم سايس أحد علماء الآثار بعض النقوش ويقول نصها: «إن الشجرة المقدسة التى يناطح سعفها السماء وتتعمق جذورها فى الأغوار البعيدة هى الشجرة التى يعتمد عليها العالم فى رزقه». وهى شجرة الحياة التى رسمت على هياكل بابل وآشور وكانت تزين ردهات المعابد ومداخل المدن وعروش ذوى التيجان، وكانت ربة النخل ترسم على هيئة امرأة ينتشر على أكتافها السعف كالأجنحة. وفى نصوص شريعة حمورابى حث على حماية النخل وتغريم من يقطع نخلة غرامة باهظة، كما أن غرس البستان كان يعنى غرس النخل عن طريق الفسايل، كما قضت شريعته بتغريم الفلاح إن أهمل فى تلقيح نخلة. وكان الاسم البابلى للنخل «جشمارو» مأخوذا من الكلمة السومرية «جشمار» والتمر «زولووم» وبالآرامية «دقلة» وباللغة العبرية «تامارا» وفى الحبشية «تمرة». وهناك قصائد فارسية تتحدث عن فوائد النخل وقد أحصيت بنحو 365 فائدة كما أحصيت فى الأغانى التدمرية ب800 فائدة. كما صنف التاريخ النخل إلى حوالى سبعين صنفا، كما ذكر بحسب مواضعها مثل تمر التلمون يرجح أنه فى البحرين، تمر ماجان عمان، وقد تحدث هيردوت الذى عاش فى القرن الخامس ق. م عن خشب النخيل واستخدامه. ويبدو أن النخلة حيرت العالم من كثرة منافعها وسر جمالها، وعندما غار الساميون على جنوب بابل، وجدوا النخل هناك فانتشر من وادى الرافدين شمالا حتى وصل فينيقيا وسوريا فأصبحت «شجرة الحياة» عاملا مألوفا بل أساسيا فى تزيين عمائرهم. أما حضارة وادى النيل فلا شك نخيل التمر كان مغروسا بمصر فى عصور ماقبل التاريخ، فالاسم المصرى القديم للتمر «بنراوبنرت» ومعناها الحلاوة، وهى تسمية قديمة تنفرد بها اللغة المصرية القديمة مما يدل على قدم توطن النخل، حيث عثر فى مقابر سقارة على نخلة صغيرة كاملة (الأسرة الأولى 3200 ق.م )، واستعان المصرى القديم فى عمل سقوف منازله ومقابره المصنوعة من اللبن بجذوع النخيل وعندما عرفوا البناء بالحجر لم ينسوا النخيل وأجود أنواع النخيل فى مصر العليا وعلى حافة الصحراء المجاورة لوادى النيل وعرفوا أصنافا من ثماره «الأبريمى والسيوى والعامرى.. كما دخل فى أصناف طعامهم، واستخرجوا من منقوع التمر نوعا من الخمر، وكان يستعمل فى التحنيط لاحتوائه على الكحول، كما يعد التمر وعصارته «الدبس» من الثمار السبع الممتازة، ولم يكتفوا بثماره بل كانت هناك صناعات حرفية قائمة على كل مايستخرج من النخلة، كالجريد والجذوع والسعف فى الحصر والسلال، كما تم استخدام النواة فى الوصفات الطبية، كما صنعت منة قلائد وحلى من البلح ذاته ليتبرك بها النساء والفتيات، ومازالت هذه الصناعات قائمة ومستمرة فى كل أنحاء مصر يتوارثها الأبناء عن الأجداد. أما تزيين الأكاليل بسعف النخيل والباقات الجنائزية بالخوص حديث النمو فربما كان مأخوذا من أنه كان يفرش للموتى. ومن الجدير بالذكر أن نخل التمر عرف قديما فى مناطق تمتد من إيران إلى جزائر الكناريا وإسبانيا وشمال أفريقيا خاصة فى قرطاجنة فمنها انتقل إلى الرومان، لم تذكر النخلة فى الإلياذة وإنما ذكرت فى الأوديسا، ونجد اللغة اليونانية تطلق على النخل «فينكس» وهى مأخوذة عن «فينيقيا»، إذ إن الفينيقيين كانوا يزرعون النخل وهم الذين نقلوا زراعته إلى غرب حوض البحر الأبيض المتوسط، فلقد كان النخل مغروسا فى إسبانيا والبرتغال قبل الميلاد، واسم «دكلتليس» و«ديت» هى مشتقات من «دقل» العبرية والتى تعنى الأصابع، وفى الشرق الأقصى يعتقد أن الصينيين استجلبوه من بلاد فارس فى القرن الثالث الميلادى. وقد احتلت النخلة مكانة مهمة فى الديانات القديمة فى الشرق الأدنى، فكلمة «بعل» تعنى ما يسقى من النبات اعتمادا على المطر بصورة عامة وخاصة النخل و«بعل» كان اسما لإله قديم، أما قبائل فلسطين فكانت معبوداتهم على شكل نخلة تدعى (بعل تمارا)، كما كان الفينيقيون القدماء يعبدون عشتاروت على شكل نخلة. وكذلك فى الديانات السماوية، ففى التوراة «تامارا» وتطلق على البنات ممشوقات الجمال ومعتدلات القوام، كما ذكرت صحراء التيه فى شبه جزيرة سيناء عندما خرج اليهود من مصر وحطوا رحالهم فى واحة «ايليم» وهى وادى الغرندل ووصفوا أن بها اثنتى عشرة عينا للماء وسبعين نخلة (سفر الخروج). وفى بعض الأعياد اليهودية كعيد المظال يأخذ اليهود السعف طريا من بطن النخلة ويجدلونه بطريقة فنية خاصة ويحملونه فى يديهم عند تلاوة صلاة العيد كرمز للبهجة والسرور. وفى عصر السيد المسيح ورد فى الإنجيل فرش أنصار المسيح سعف النخيل فى طريقه إلى أورشليم لأول مرة (يوحنا)، وقد حمل عيسى عليه السلام فسيلة فى يده عند دخوله القدس كرمز للسلام. ومن هنا يأتى احتفال أحد السعف الذى يسبق عيد القيامة المجيد. وفى القرآن الكريم ذكر لفضائل النخلة ومنزلتها العالية بين بقية الأشجار، فأشارت الآيات القرآنية الكريمة إلى النخلة فى أكثر من موضع «أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجرى من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات». (البقرة)، «وفى الروض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وصنوان». (الرعد) «ينبت لكم به الزرع والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات». (النحل) «فجاءها المخاض إلى جذع النخلة». (مريم). وذلك بخلاف الأحاديث النبوية مثل «اكرموا عماتكم النخلات فإنها خلقت من الطين الذى خلق منه آدم». النخلة موروث حضارى ودينى تعلقت به الأذهان وقلوب المؤمنين من كل الأديان، مما ساعد على استمرار تكاثرها فى كل البلدان والعناية بها وستظل رمزا من رموز الثقافات حتى يوم الدين، وقد تم تناولها فى التراث سواء فى الأمثال أو فى المؤلفات المختلفة، كما ألفت عنها كتب مستقلة مثل كتاب التمر لأبى سعيد بن أوس الأنصارى، وكتاب النخل والكرم لأبى سعيد بن مالك المعروف بالأصمعى، وكتاب صفة النخل لمحمد بن زياد المعروف بابن الأعرابى الكوفى، كما إن الجاحظ تناوله فى كتابه زرع النخل، وقد وصف معظمهم النخلة بأنها قريبة الشبه بالإنسان ذات جذع منتصب ومنها الذكر والأنثى وإنها لاتثمر إلا إذا لقحت وإذا قطعت رأسها ماتت وإذا تعرض قلبها إلى هواء وصدمة قوية هلكت أو إذا قطع سعفها فى غير ميعاد تقليمه، تماما كأطراف الإنسان كل هذه الموروثات التاريخية ألهبت وجدان الشعراء العرب مثل أمرىء القيس والجعدى الأعشى والخنساء كما وصف أبو نواس طلع النخل وتلقيحه، وامتد الاهتمام به إلى الشعر الحديث عند أحمد شوقى وإليا أبوماضى وغيرهما. ومن هنا كانت الصناعات القائمة على منتجات النخيل من أقدم الصناعات التراثية فى التاريخ مثلها مثل الفخار، لأنها فن ذو منفعة والاستعمال اليومى فن قائم على الاستمرارية فهو فن عرفه الإنسان البدائى وأضاف عليه إبداعه وعرف كيف يجود هذا الفن سواء بأساليب متوارثة أو بإضافة خامات أخرى من الطبيعة، مثل الحلفا والحشائش والكتان كما أضاف لها رسوما من بيئته المحيطة، إضافة لمنتجاته المصداقية التاريخية، ومع ظهور علم البيئة ومراعاة استخدام الموارد الطبيعية حفاظا على حياة الإنسان، لابد من إعادة هذا التراث وإحيائه من جديد لإحداث ثورة فى عالم الصناعات اليدوية التراثية باعتباره رمزا لكل الحضارات.