في المقال السابق كتبت عن تخطيط جورج بوش الأب لمنطقة الشرق الأوسط الجديد, وبالتأكيد فإن هذا الكلام ليس من عندي, وإنما نقلا عن مراجع أسجلها في نهاية هذا المقال, ولكن يبدو أننا شعب عاطفي أكثر مما ينبغي, فالبعض رفض الفكرة بالكلية, إما رفضا لأن يكون بوش بهذا القدر من الشيطانية, أو رفضا لأن نكون أمة بهذا القدر من السذاجة, لكن الواقع إن كان يلقي ظلالا من الشك علي صدق هذا المخطط فإنه يستحق أن نلقي عليه كل ما نملك من اضواء لنكشفه لأننا فقدنا في هذا المخطط خمسة ملايين عراقي وجيش العراق ووحدة العراق, وما بنته الأمة العراقية في نصف قرن, وأكثر من ربع مليون سوري ما بين قتيل ومعتقل وخمسة ملايين من المشردين, والجيش السوري ووحدة سوريا وما بنته هذه الأمة في نصف قرن من الزمان ونفس الأمر في اليمن وليبيا والسودان والمؤشرات تنذر بعواصف تجتاح الخليج العربي والجزائر. في بداية السبعينيات انشغلت الأوعية الفكرية الأمريكية بوضع سيناريو تفكيك الجيوش العربية المحيطة بإسرائيل في العراق وسوريا, ثم تفكيك هاتين الدولتين وفي سنة1976 شغل جورج بوش وظيفة مدير وكالة المخابرات الأمريكية وفي78/3 غزت إسرائيل جنوب لبنان وشردت ما يقرب من نصف مليون شيعي, وفي78/4 حدث انقلاب أفغانستان, وفي79/3 وقعت مصر معاهدة السلام وخرجت من الجامعة العربية, وفي79/4 غادر الشاه إيران وحل الخميني محله, وفي79/7 حل صدام محل البكر في رئاسة العراق, وفي1980/10 غزت العراق إيران, وفي81/1 كان بوش نائب رئيس الجمهورية لدورتين متتاليتين, ثم رئيسا للجمهورية, وإن كان خسر الانتخابات التالية للرئيس كلينتون فقد عاد للحكم مرة أخري لدورتين متتاليتين, ليس فقط عن طريق بوش الابن ولكن عن طريق نفس الطاقم الذي خدم معه طوال الفترة منذ دخوله البيت الأبيض إلي خروجه منه. ففي فترة حكم بوش الابن كان نفس الفريق الذي بدأ عملية تفكيك الشرق الأوسط هو الحاكم في البيت الأبيض, ومن لا يري ربطا وإرتباطا بين هذه الأحداث المتتابعة لن يجهد في قراءة هذا الرابط في عشرات الكتب الأمريكية مثل المراجع المذكورة في نهاية المقال. المهم في هذا المقال هو وماذا عن مصر؟؟!! لم ترد مصر في مخططات التقسيم التي سربت من المخابرات الأمريكية وشملت تقريبا كل الشام والجزيرة العربية والسودان وليبيا والمغرب العربي باستثناء مصر, كما لم ترد مصر في مخططات تفكيك الجيوش العربية, التي تمت بالفعل, فما المستهدف من مصر؟؟!! وفق الرؤية التوراتية لليمين المحافظ الأمريكي فإن أحداث الشرق الأوسط تسير علي النحو التالي: 1 عودة بني إسرائيل من أركان الأرض الأربعة إلي أرض الميعاد( وقد حدث). 2 قيام دولة إسرائيل في يوم واحد( وقد حدث)0 3 نشوب حروب بين إسرائيل وجيرانها تنتصر فيها إسرائيل وتستقر( وقد حدث). 4 خروج ملك الشمال( تركيا) وملك الجنوب( مصر)( جاري الحدوث). 5 تحالف ملك الشمال وملك الجنوب علي إسرائيل وانتصارهم عليها, ودخول مصر إلي القدس وعوده جيوشها بأسري يعادلون نصف سكان القدس. هذه الحرب الأخيرة التي تنتصر فيها مصر هي حرب عقائدية بين اليهودية والاسلام وانتصار الاسلام فيها( من وجهة نظر اليمين المحافظ الأمريكي) هو أولا عقاب لبني إسرائيل علي كفرهم بالمسيح, وثانيا تمهيد لإيمان شعب مصر بالمسيح( مرة أخري ذلك من وجهة نظر اليمين المحافظ الأمريكي), وهذه الحرب تستلزم دولة ذات مواصفات خاصة في كل من مصر وتركيا. أولا دولة عقائدية. ثانيا دولة قادرة اقتصاديا وعسكريا علي إعلان حرب وربما تكون نووية, وتنتصر فيها نصرا حاسما. والأمر الأول يستلزم نظام حكم إسلامي في كل من مصر وتركيا, وهذا بالتأكيد لا يعني تحالفا بين أنظمة الحكم الإسلامي في كلا البلدين مع النظام الأمريكي وإنما تلاقت الأهداف المرحلية, واختلفت بالتأكيد الأهداف النهائية, وهنا تبرز حقيقة طالما غابت عن أذهان الباحثين في العلاقة الأمريكية الإسرائيلية, وهي أن اللاعب الرئيسي هو أمريكا أو اليمين المحافظ الأمريكي, وهو الذي يستخدم إسرائيل إلي أجل معلوم. والمعضلة هنا أيضا أن الأجل المعلوم قد حل وأن عقاب بني إسرائيل التوراتي قد حل, وسوف يجريه الله علي يد المصريين( هكذا يؤمن اليمين الأمريكي), وأن علي الأمريكي المسيحي المؤمن أن ينفذ ما ورد بآيات الكتاب المقدس, فيعين مصر وتركيا أو ملك الشمال وملك الجنوب علي عقاب بني إسرائيل. هذا الأمر بالتأكيد يستلزم نهضة اقتصادية وبشرية وعسكرية في كلا البلدين مصر وتركيا, ومن ثم فإن كل أجواء الاضطراب التي مرت بمصر في الفترة منذ بداية الثورة إلي اليوم مصيرها إلي الزوال وسببها سوء فهم وسوء تقدير الموقف الأمريكي, وسوء تقدير حجم التأثير الأمريكي علي مجريات الأمور في المنطقة وهذا أمر يحتاج إلي حديث طويل بذاته. لقد استدرج النظام الأمريكي بأجهزته الأمنية والرئاسية النظام المصري السابق ليحفر قبره بنفسه أملا في التوريث وثقة في أن ما قدمه لأمريكا كفيل بتحقيق أمريكا وعودها بدعم التوريث المأمول, إن لم يكن ترجيحا لحليف بذل كل ما يمكنه لأجل عيون الدعم الأمريكي فسوف يكون خوفا من البديل الاسلامي, وأخطأ النظام السابق في تقدير نيات ورغبات أمريكا وسعي بكل الحماس دون أن يدري ليؤهل الشعب لثورة شاملة باستفزازه بكل الوسائل صلفا وغرورا وتمكنا ثبت أنه زائف ولم تكن الثورة المصرية بقدر التوقعات الأمريكية, فعندما بدأت لم تكن أكثر من احتجاج ورغبة في الاصلاح, ولم يكن أحد يصدق أن أمريكا سوف تدعم أي بديل أو أنها سوف تفرط في حليفها الوفي. حتي الاخوان المسلمين كانوا علي يقين من أن هذه الثورة هي سيناريو أمريكي لاخراجهم الي حيث تقطع رقابهم, ومرة أخري أخطأ الجميع في فهم وتقدير مدي عمق وبعد التخطيط الأمريكي وأهدافه. وعندما أوشكت الثورة علي أن تنفض, وانهمرت دموع الشعب الثائر تعاطفا مع الخطاب الشاعري للرئيس السابق خرج من جعبة الساحر سيناريو موقعة الجمل ليحسم الأمر وتنتهي المسألة ولا أحد يعلم حتي اليوم سر موقعة الجمل ومن رتبها ولحساب من هذا الحدث البسيط الساذج الذي اشعل الغضب الشعبي مجددا بعدما ما أوشك أن يزول. إن صاحب فكرة الثورة الذي خطط لها منذ أكثر من عشر سنوات لابد أن يكون هو صاحب الحدث. بعد الثورة وتنازل الرئيس السابق عن الحكم قال لي أحد السياسيين المخضرمين من فلول العهد الماضي إن قبلتنا قبل الثورة كانت مباحث أمن الدولة, بعد الثورة أصبحت قبلتنا السفارة الأمريكية, هكذا بكل وضوح وصراحة. وربما يري غيري مثلما أري أن صديقي السياسي القديم كان صادقا مع نفسه, وأنه لم يكن هناك عنصر فاعل في وقت الثورة كلها لم يتصل بالسفارة الأمريكية عارضا نفسه, أو جهده, أو طالبا العون أو محذرا من الغير. ومرة أخري أخطأ الجميع في فهم الارادة الأمريكية وتقدير حجم أثرها وتأثيرها في الشارع المصري بل والجهاز الإداري المصري بكامله. في هذه الأحداث قال لي فضيلة المرشد الدكتور محمد بديع( وهو رجل لا يملك جليسه إلا أن يحبه) أنه قال للأمريكان إنكم لم تتعرفوا علينا لانكم سمعتم عنا بدلا من أن تسمعوا منا وتأدبت في التعليق علي هذه المقولة القلبية الصادقه وكنت أود أن أقول لسيادته أن الأمريكان لا يحتاجون للسماع منكم أو عنكم من أي من الأجهزة المصرية فهم يعلمون ما ربما تجهله الأجهزة أو حتي الجماعة نفسها عن طبيعة وشخصية كل فرد فيها ومنذ أمد بعيد, وللحديث بقية. عن ماذا في جعبة أمريكا وصناع الأحداث في أمريكا لمصر؟؟!! وكيف يكون الحال في مصر غدا ؟؟!!. أخيرا أرشح لمن يرغب في التعمق في التخطيط الأمريكي للمستقبل العالمي أن يطالع بعض هذه الكتب: لمزيد من مقالات محمد تاج الدين