أمور الدنيا تفرض علينا أن نتوقف اليوم في رحلة سعينا المشترك لإعادة ترتيب أوراق مصر لنلتفت إلي ما يقولون بأنه إعادة ترتيب أوراق دولة الامبريالية المهيمنة علي الصورة التي عرض لها الرئيس الأمريكي أوباما يوم الخميس الماضي27 مايو. في وثيقة استراتيجية الأمن القومي, الأولي منذ توليه الرئاسة. تعجل النبهاء في معظم دوائر الإعلام العربي ليس فقط للترحاب بما قالوا إنه جديد, وإنما إيمانا منهم بأن كل ما يصدر من مركز السيادة لايمكن إلا وأن يقدم صورة صادقة لأمور الدنيا, ولا لمخطط مركز الهيمنة المتحكم في دائرتنا, ولذا كان لزاما علينا أن ندقق النظر علنا نهتدي. 1 يقدم الرئيس أوباما الوثيقة وبها52 صفحة علي أنها تصدر من أمريكا التي ضاعفت الحرب من تشددها, والتي اشتدت عليها آثار الأزمة الاقتصادية الفادحة, بحيث انها لا تستطيع أن تواجه مهام التوسع في الحروب في كل من العراق وأفغانستان, بينما تواصل مواجهة التزاماتها الأخري في الداخل والخارج, وبالتالي وبينما يتمني خصومنا أن تستمر أمريكا في استنزاف قوتها من جراء المبالغة في التوسع في قوتنا يصبح الواجب إذن ألا تتحمل أمريكا وحدها أعباء القرن الشاب, ذلك انها يجب أن تواجه العالم كما هو لو أرادت أن تنتصر. 2 ثم يحدد المفهوم الذي يوجه سياسة الولاياتالمتحدة الخارجية منذ عقود ألا وهو: يجب علينا أن نحافظ علي التفوق العسكري الذي حافظ علي أمن بلادنا, وكذا ضمن الأمن الدولي منذ عقود. ما الفارق إذن, مع سياسة سلفه الرئيس بوش؟ 3 الخطة الجديدة تؤكد أن الولاياتالمتحدة ملتزمة كل الالتزام بتوسيع دائرة المشاركين المسئولين. أي الانتقال من الارتكاز علي مجموعة ال8 إلي مجموعة أوسع هي مجموعة ال20 التي تتسع إلي الصين والهند والبرازيل. 4 ماهو المنتظر تري من إشراك الشركاء الجدد في تصور الرئيس الأمريكي؟ يؤكد أوباما أن العمل من أجل التصدي للتطرف العنيف وهو لا يذكر كلمة الاسلامي يمثل عنصرا واحدا فقط من بيئتنا الاستراتيجية المحيطة, ولكنه لايحدد تعاملنا مع العالم, إلي هنا والعبارات تبدو وكأنها تسبح في محيط من العموميات. إلي أن ينتقل أوباما إلي تحديد التهديدات التي تواجه أمريكا الخطر الأكبر الذي يهدد الشعب الأمريكي والأمن العالمي مازال يتمثل في أسلحة الدمار الشامل خاصة الأسلحة النووية. ولكنه يضيف ما هو جديد بالنسبة لسلفه بوش, أي التهديدات التكنولوجية الجديدة, وكذا التغير المناخي واعتماد أمريكا علي مصادرالطاقة العضوية. 5 ثم ماذا عن استعمال القوة؟ يقدم أوباما وصفة تجمع بين الهجمات الاستباقية وبين الوسائل التقليدية: بينما يظل استعمال القوة ضروريا أحيانا, فإننا سوف نستعمل جميع الخيارات الأخري قبل الحرب كلما استطعنا ذلك, وكذا سوف نوازن بعناية بين تكلفة ومخاطر العمل في مقابل تكلفة ومخاطر اللا عمل, وكذا فإننا سوف نسعي إلي دعم دولي واسع والعمل علي مؤسسات مثل حلف شمال الأطلنطي ومجلس أمن الأممالمتحدة لو استلزم الأمر ذلك. 6 وهنا نتساءل عن العلاقة بين الأمن الخارجي وأوضاع المجتمع الأمريكي. تقول الوثيقة الجديدة: أمننا القومي يبدأ في الداخل ويعني بذلك: تخفيض ميزانية الدولة, والعناية بشئون التعليم والتغيير المناخي والطاقة والعلم, أي كل مايمثل شعار التأسيس الجديد شعار أوباما أثناء معركة الانتخابات. ثم نراه يؤكد استمرار العمل بأدوات مهمة من سياسة سلفه بوش, خاصة ضرورة حجب أسرار الدولة عن المحاكم أثناء النظر قضايا الإرهاب. وفي هذا يجدر بالمهتمين بفلسفة الارهاب الراسخة في أعماق سياسة الأمن الأمريكية أن يراجعوا كتاب مارك دانير أشهر مراسلي الحرب المستقلين عن تجاربه من1987 إلي2009 من حروب هايتي والبلقان الي العراق, ألا وهو كتاب تعرية الجسد: السياسة, العنف, الحرب خاصة ماجاء فيه من كشف لتقرير سري لمسئولي اللجنة الدولية للصليب الأحمر الصادر في أبريل2009 وفيه سجل مرعب ومهين لما أطلق عليه الرئيس الأسبق بوش تسمية مجموعة الإجراءات الموازية أي كتاب التعذيب في حروب أمريكا. 7 يتساءل النبهاء في ديارنا عن موضوع تشجيع الديمقراطية لم يعلن أوباما عن دعمه لهذا التوجه بنفس النبرة التي اتسم بها صوت سلفه بوش. ولكنه يؤكد في الوثيقة الجديدة الترحيب بجميع الحركات الديمقراطية السلمية وكذا ب دعم تنمية المؤسسات في الديمقراطيات الضعيفة بينما يؤكد أننا نعترف بالفرص الاقتصادية بوصفها حق إنساني وهي عبارة ملتوية يفهمها الجميع في ديارنا بأنها تعني الدعم المطلق لأنصار الليبرالية الجديدة الذين يمارسون حقا إنسانيا بكل معاني الكلمة. 8 وعبر هذه الجولة السريعة بين المعاني والأماني والتوجهات تقترب الوثيقة تدريجيا من النقط الحساسة في مرحلة صياغة العالم الجديدة يذكر مثلا أنه لو ألغت كوريا الشمالية وإيران برنامجها النووي فإنها سوف تستطيع أن تتقدم علي طريق اندماج سياسي واقتصادي أكبر مع الجماعة الدولية. وإلا؟ وإلا سوف نواصل مضاعفة عزلهم بمختلف الوسائل. وبطبيعة الأمر لم يتصور عاقل أن يأتي ذكر تهديد الترسانة النووية للدولة الصهيونية لإستقلال وأمن ومستقبل مجتمعات وشعوب ودول الشرق الأوسط الكبير تصدر هذه الوثيقة أياما قلائل بعد مبادرة البرازيل وتركيا الدولتين الصديقتين الطالعتين, لتأمين المسار السلمي لممارسة إيران كامل حقوقها لاستعمال الطاقة النووية للأغراض السلمية, لا كلمة, لاتعليق, ولا حتي مجرد لفتة. وكأن دول العالم لاوجود لها خارج المجموعتين اللتين ذكرها الرئيس الأمريكي حسب الترتيب التالي: منظمة حلف شمال الأطلنطي( تحت الإمرة العسكرية والسياسية الأمريكية), ثم مجلس أمن هيئة الأممالمتحدة وإن كانت كل من البرازيل وتركيا من أعضاء مجلس الأمن في دورته الحالية. 9 وأخيرا وبعد كوريا الشمالية وإيران تتجه وثيقة استراتيجية الأمن القومي إلي الصين ثم روسيا وعن الصين, نري أوباما يناشدها أن تتخذ دورا قياديا مسئولا وكأنها بالطبع في حاجة إلي إذن الشاه أوباما... ثم يقطع الرجل علي نفسه عهدا بأن يتابع مراقبة برنامج التحديث العسكري للصين بنفس النظرة المتعالية مؤكدا أن الخلافات حول حقوق الإنسان يجب ألا تعيق التعاون في القضايا التي تمثل مصلحة مشتركة هذا كله قبل زيارة الصين بعد أيام من صدور الوثيقة الأمريكية وما حدث فيها مما كان لم يكن في الحسبان, بحيث يستوجب الدراسة المتأنية في لقائنا القادم إن شاء الله. واخيرا ننتقل إلي روسيا ما يؤكد عزمه علي دعم قاعدة القانون ومحاسبة الحكومة والقيم العالمية في روسيا وكذا دعم سيادة جيران روسيا وصيانة أراضيها وهو في المصطلح الأمريكي يعني رفض الاعتراف بمصالح روسيا في الدائرة المحبطة بها في أوروبا الشرقية والجنوبية وكذا اسيا الوسطي وكأن جرائم امريكا في العراق وأفغانستان في كوكب آخر. قال صاحبي: منذ أسابيع قلائل حدثنا المفكر الجيوسياسي الرائد الدكتور أحمد داوود أوغلو, وزير خارجية تركيا الشقيقة, مؤكدا أن الجغرافيا والتاريخ يحددان دائرة تحرك الأمم وها هي أمريكا تقدم مثالا ساطعا يؤكد ضم هذا المنهج: مهني, إذ تعيد ترتيب أوراقها, تؤكد وتعمق تمسكها بمكانة الهيمنة بينما تصور ضعاف النفوس أنها تحولت إلي جماعة ملائكة الرحمة.. إنه درس جديد ساطع في الواقعية, علنا نفيق.. [email protected]