إعلام روسي: القوات الروسية المتقدمة نحو بلدة "ليبتسي" في منطقة "خاركيف" تبدأ عملية الاستيلاء عليها    كشف ملابسات واقعة مقتل سائق بالشرقية وضبط مرتكبى الواقعة    أسعار السمك اليوم الخميس 16 مايو 2024 في أسواق أسيوط    تعليم الفيوم يحصد مركز ثاني جمهورية في مسابقة المعلمة الفعالة    محكمة العدل الدولية تستمع لطلب جنوب إفريقيا بوقف هجوم إسرائيل على رفح    هيئة شؤون الأسرى: ارتفاع حصيلة المعتقلين الفلسطينيين منذ 7 أكتوبر ل 8755    محمد شريف يقود تشكيل الخليج المتوقع أمام الاتحاد بالدوري السعودي اليوم    أخبار الأهلي: التشكيل الأقرب للأهلي أمام الترجي في ذهاب نهائي أفريقيا    ارتفاع محلي وانخفاض عالمي.. كم سجل سعر صرف الدولار اليوم الخميس 16 مايو 2024؟    محامي سائق أوبر يفجر مفاجأة: لا يوجد دليل على كلام فتاة التجمع.. ولو ثبت سأتنحى عن القضية    السجن المشدد 15 عاما وغرامة 500 ألف جنيه لعامل لاتهامه بالإتجار بالمخدرات في قنا    أمين الفتوى: بهذه الطريقة تصادف ساعة الاستجابة يوم الجمعة    حالات الحصول على إجازة سنوية لمدة شهر في قانون العمل الجديد    محافظ أسيوط يستقبل مساعد وزير الصحة ويتفقدان مستشفى بني محمديات بأبنوب    جامعة قناة السويس تصنف من أفضل 6.5 % جامعة عالميا وفقا لتصنيف CWUR 2024    تفاصيل الحالة الصحية لرئيس وزراء سلوفاكيا.. خضع لجراحة 5 ساعات    بوتين وشي جين يعتمدان بيانا مشتركا حول تعميق علاقات الشراكة    مراسل «القاهرة الإخبارية»: مستشفيات غزة قد تتوقف عن العمل خلال ساعات    نزع ملكية قطعة الأرض رقم «27س» لإقامة جراج متعدد الطوابق عليها    «الري»: إعادة تأهيل وتشغيل الممر الملاحي لترعة الإسماعيلية بالتعاون مع «النقل» (تفاصيل)    تمهيدا لإعلان الرحيل؟ أليجري يتحدث عن لقطته مع جيونتولي "سأترك فريقا قويا"    أخبار الأهلي: موقف الأهلي من التعاقد مع أحمد حجازي في الصيف    صدام جديد مع ليفربول؟.. مفاجأة بشأن انضمام محمد صلاح لمعسكر منتخب مصر    تداول 10 آلاف طن و585 شاحنة بضائع عامة ومتنوعة بموانئ البحر الأحمر    أستاذ طب وقائي يحذر من زيت الطعام المستعمل: مادة خطيرة تدخل في تبييضه    توريد 188 ألف طن قمح لشون وصوامع البحيرة    مصرع شاب أثناء محاولته إرجاع مركب انقطع وتيره في المنوفية    «مترو الأنفاق» يُعلن انتطام حركة القطارات بالخط الثاني    «الداخلية» تواصل الحملات على المخابز للتصدي لمحاولات التلاعب في أسعار الخبز    فرقة فاقوس تعرض "إيكادولي" على مسرح قصر ثقافة الزقازيق    يسري نصر الله يحكي تاريخ السينما في مهرجان الفيمتو آرت الدولي الثالث للأفلام القصيرة    ختام فعاليات مهرجان المسرح بجامعة قناة السويس، اليوم    الأحد.. الفنان عمر الشناوي حفيد النجم كمال الشناوي ضيف برنامج واحد من الناس    البحيرة: توريد 188 ألف طن قمح للشون والصوامع حتى الآن    «الرقابة الصحية»: حل 100% من شكاوى المنتفعين ب«التأمين الشامل» خلال أبريل    محافظ أسيوط ومساعد وزير الصحة يتفقدان مشروع إنشاء مستشفى منفلوط المركزي    اليوم.. انطلاق الملتقى التوظيفي لزراعة عين شمس    «الإفتاء» تحسم الجدل حول مشروعية المديح والابتهالات.. ماذا قالت؟    نجم الترجي السابق ل«أهل مصر»: الأهلي مع كولر اختلف عن الجيل الذهبي    ياسمين عبدالعزيز تنشر صورة مفاجئة: زوجي الجديد    طريقة عمل دجاج ال«بينك صوص» في خطوات بسيطة.. «مكونات متوفرة»    تنظيف كبدة الفراخ بمكون سحري.. «هيودي الطعم في حتة تانية»    حلم ليلة صيف.. بكرة هاييجي أحلى مهما كانت وحلة    توقعات الأبراج وحظك اليوم 16 مايو 2024: تحذيرات ل«الأسد» ومكاسب مالية ل«الحمل»    غارات إسرائيلية على منطقة البقاع شرق لبنان    «سلامتك في سرية بياناتك».. إطلاق حملة «شفرة» لتوعية المجتمع بخطورة الجرائم الإلكترونية    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس 16-5-2024    إبراهيم عيسى: "في أي لحظة انفلات أو تسامح حكومي البلاعات السلفية هتطلع تاني"    محمود عاشور يسجل ظهوره الأول في الدوري السعودي    نجمة أراب أيدول برواس حسين تُعلن إصابتها بالسرطان    قدم الآن.. خطوات التقديم في مسابقة وزارة التربية والتعليم لتعيين 18 ألف معلم (رابط مباشر)    4 سيارات لإخماد النيران.. حريق هائل يلتهم عدة محال داخل عقار في الدقهلية    بوتين يصل إلى الصين في "زيارة دولة" تمتد ليومين    منها البتر والفشل الكلوي، 4 مضاعفات خطرة بسبب إهمال علاج مرض السكر    الدوري الفرنسي.. فوز صعب لباريس سان جيرمان.. وسقوط مارسيليا    كم متبقي على عيد الأضحى 2024؟    قصور الثقافة تطلق عددا من الأنشطة الصيفية لأطفال الغربية    حسن شاكوش يقترب من المليون بمهرجان "عن جيلو"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



طوغان يكتب
قصة هروب السادات قبل الثورة
نشر في الأهرام اليومي يوم 03 - 05 - 2013

أحمد طوغان هو شيخ رسامي الكاريكاتير87 عاما أطال الله في عمره يكتب هذه السلسلة عن الشخصيات التي شغلت حيزا في وجدانه وخزانة ذكرياته
التي يفتحها لملحق الجمعة بالأهرام يتناول فيها الكواليس التي عاصرها عبر مشواره الذي يمتد لأكثر من65 عاما.. وتأتي أهمية هذا السرد الذاتي إلي كونه ليس مجرد حكي بقدر ما هو تأريخ وتسجيل لأحداث غنية بالمعلومات والأسرار ولكن غفلها التاريخ كما يحدث عادة وأسقطها من ذاكرته الرسمية, وكما يفعل رسام الكاريكاتير فهو لايرسم الواقع ولكن تأثير الواقع عليه... كذلك كتب طوغان عن هذه الشخصيات بصدق وحب.
كان منزلي في الجيزة يبعد عن منزل زكريا بأقل من كيلو متر واحد, فذهبت إليه, وما إن دخلت صالة المنزل حتي وجدت الطبلية المشهور بها زكريا, وعليها كوم من الأرز إلي جانبه صينية مليئة بكميات من السمك الذي لا يعلي عليه!
وحول الطبلية جلس زكريا علي الأرض وقد شمر عن ساعديه, وبجانبه زائر وجهه لم يكن جديدا علي, أشار زكريا إلي الزائر وقال: عمك أنور السادات!
فتذكرت السادات, كنت قد رأيته مرارا في الصور التي كانت تنشرها له الصحف كمتهم بالتحريض في قضية مقتل أمين عثمان! وكنت أتتبع القضية التي كانت أيامها الشغل الشاغل للناس وكنت أسمع ما يدور بشأنها في كل مكان, حتي في البيوت!
وكانت حلقات قد تكونت من الشباب المصري وتراءي لهم بأن الوسيلة الوحيدة لطرد الإنجليز المحتلين هي الكفاح المسلح, حتي يصبح لنا الحق في الحصول علي الاستقلال!
وفي واحدة من هذه الحلقات التقي أنور السادات بحسين توفيق رئيس مجموعة كانت تتولي قتل جنود الإنجليز في شوارع المعادي بالقاهرة والتي كان فيها معسكر كبير لهم, أيامها كان السادات حديث عهد بالحرية, بعد أيام من انتهاء الأحكام العرفية وخروجه من المعتقل الذي كان فيه بأمر الإنجليز! دخل السادات في المجموعة وأقنع أفرادها بأن قتل جنود الاحتلال لن يجدي ولن يؤثر, لأن الجنود مجرد أدوات تصدع للأوامر, وأن الذي يمكن أن يفيد هو قتل العملاء من المصريين الذين يساندون الاحتلال, وبعد مناقشات ومداولات, انتهي النقاش بأن ما قاله السادات هو الرأي السديد, ولم تمض فترة إلا وأصبح السادات صاحب الرأي والتخطيط والتدبير في المجموعة!
وقع الاختيار علي أمين عثمان باشا الذي كان وزيرا للمالية في الحكومة التي جاءت علي ظهر دبابات الإنجليز, وكان رجل الإنجليز الأول فيها, كما كان أعلي الأصوات التي تنادي ببقاء الاحتلال في مصر إلي الأبد!
وقع اختيار المجموعة علي أمين عثمان وقرروا قتله, وترصد له حسين توفيق الذي كان قائد مجموعة من ثلاثة أفراد, وتمكن من إطلاق الرصاص عليه علي عتبة سلم الرابطة وأرداه قتيلا!
واستطاع البوليس الوصول إلي حسين توفيق والقبض عليه, كما قبض علي باقي المجموعة بمن فيهم أنور السادات الذي اتهموه بالتحريض!
وفي القضية التي ملأت الصحف والمجلات انتهت بالحكم علي حسين توفيق بالإعدام, والسجن لعدد من المتهمين كانوا قد اعترفوا باشتراكهم في الجريمة.
وتمكن آخرون من الإفلات كان من بينهم أنور السادات, الذي دافع عن نفسه وهاجم الادعاء وقدم الأدلة والبراهين واتخذ عدة أساليب أفلحت في إقناع المحكمة بأنه برئ ولا علاقة له بالأمر! فأفرج عنه.
بعد لقائي بالسادات في بيت زكريا, زادني معرفة عنه صديقان هما وسيم خالد وعبد العزيز خميس اللذان زاملاه في قضية مقتل أمين عثمان, وحدثاني عنه وكيف أنه خلال السجن استطاع عقد صداقات مع المسئولين عن السجن, وكيف أن ذلك كان سببا في الحصول للمجموعة علي معاملة متميزة فيها قدر كبير من الاحترام وحتي الإعجاب!
وتكررت لقاءاتي بالسادات بشكل شبه يومي, أيامها كان بلا عمل وكنت أنا تقريبا عاطلا إلا من ثلاثة أو أربعة رسوم أقدمها لمجلة روز اليوسف, وكان الوقت والمجال متسعين أمام صداقة دامت في حياة السادات التي انتهت باغتياله في ذكري انتصار6 أكتوبر1973, الذي كان صاحب الرأي الأول في الإعداد والتدبير والتخطيط له!
كنا نلتقي في ميدان الجيزة, علي مقهي كان اسمه قهوة محمد عبد الله زكريا الحجاوي وأنور السادات ومحمد علي ماهر وأنور المعداوي وآخرون, وكان الحديث كله يدور حول ما تعيشه مصر من أحداث تنذر بالكثير, وكانت فرصتي في لقاء السادات أكثر من الآخرين الذين كان كل منهم له ما يعمله, حتي زكريا أيامها كان محررا في جريدة المصري التي كان يحرص علي الذهاب لها بانتظام ويتفاني في عمله بها حتي الساعات المتأخرة من الليل ثم يعود ليستكمل السهرة معنا حتي الفجر!
وكثيرا ما كنت ألتقي بالسادات علي مقهي محمد عبد الله وأحيانا في كازينو شهريار الذي كان علي شاطئ النيل بالجيزة وتدور بيننا الأحاديث ونستغرق في الأحلام بالساعات في كل شيء!
ولا أبالغ إذا ما قلت إن شبها كبيرا كان بين السادات وبيني, كان هو من مواليد شهر ديسمبر برج الجدي وكنت أنا كذلك, وبالرغم من الظروف كان متفائلا وكنت أنا كذلك, وكان مؤمنا بأن الإنجليز مهما طال بهم المقام إلا أنهم راحلون يوما ما عن مصر وكنت أنا كذلك!
وكان محبا للموسيقي مولعا بسماع الشعر وكنت أنا كذلك, وفي بداية حياتي حاولت وتمنيت أن أصبح شاعرا ولكن الظروف جعلتني أكتفي من الشعر بالسماع, وكان السادات يجعلني أشعر برنين الكلمات وثراء اللغة عندما كان يلقي الشعر بصوته الرصين, وكثيرا ما كان يردد قول الشاعر أراجون بأن الشعر هو الدليل المحسوس علي وجود الإنسان!
أيامها كان معظمنا يتصور بأن انتصار الألمان سوف يخلصنا من الاحتلال الإنجليزي, وكان ذلك أيضا رأي الفريق المتقاعد عزيز المصري أبو الثوار كما كانوا يقولون عنه, وكان السادات وثيق الصلة به ودائم التردد علي منزله بحي الزيتون في القاهرة, بعد أن استطاع الإنجليز إبعاده من منصبه كرئيس لأركان حرب الجيش!
وفي منزل عزيز المصري تكونت الخلية الثورة الأولي لمجموعة من شباب كانوا ضباطا في الجيش, وأذكر منهم عبد اللطيف البغدادي وحسن عزت وسعودي ووجيه أباظه وعبد المنعم عبد الرؤوف وخالد محيي الدين وأنور السادات!
وقامت المجموعة بتكليف حسن عزت وأنور السادات بالاتصال بالألمان علي أمل الاتفاق معهم علي تجنيب مصر الدمار الذي تحدثه الحرب والحصول علي وعد منهم بوضع حريتنا واستقلالنا في الاعتبار!
وعثر السادات علي جاسوس للألمان في مصر, كان شابا أبوه مصري وأمه ألمانية, وكان يتكلم العربية, وكان اسمه هانزابلر استبدله باسم حسن جعفر, وتسببت رعونته وسوء تصرفه في انكشاف أمره والقبض عليه!
وكان السادات أيامها ضابطا في الجيش, وفي التحقيق مع الجاسوس, اعترف بأنه التقي عدة مرات باليوزباشي أنور السادات, وأنه سلمه جهاز لاسلكي, وعندما فتشوا منزل السادات قلبوه رأسا علي عقب, وحتي الحديقة الصغيرة التي كانت أمام المنزل في حي كوبري القبة حرثوها وقلبوا تربتها ولم يجدوا فيها شيئا, ومع ذلك جردوه من رتبته العسكرية وأخرجوه من الجيش وأودعوه السجن رهن التحقيق الذي دام عدة شهور!
وعندما نظرت القضية لم تجد المحكمة فيها ما يدين السادات فأفرجوا عنه بالرغم من محاولات الادعاء المستميتة التي تدنت حتي وصلت إلي حد الدفاع عن الاحتلال مما أثار الاشمئزاز في نفوس الحاضرين بمن فيهم القضاة, وعندما برأته المحكمة صفق له الجمهور!
ولأن الأحكام العرفية أيامها كانت مفروضة لم يفرجوا عنه, وتسلمه البوليس السياسي وأودعه المعتقل! وفي المعتقل, وبعد أقل من شهرين شكا من المرض, واستطاع إقناع طبيب المعتقل بجسامة مرضه, وحصل منه علي إذن بترحيله إلي المستشفي, وكان أن أودعوه تحت الحراسة المشددة في مستشفي قصر العيني!
كان معاون المستشفي هو محمد علي ماهر الذي أصبح فيما بعد من كبار الأدباء وكانت مقالاته تنشر بعد الثورة في جريدة الجمهورية, تمكن حسن عزت وزكريا الحجاوي صديق الصبا من إقناع محمد علي ماهر بتهريب السادات من المستشفي في سيارة كان قد جاء بها حسن عزت وأبقاها دائرة إلي أن قفز فيها السادات بعد أن قدم امتنانه وشكره لمحمد علي ماهر مع وعد باللقاء!
ثم اختفي وأطلق لحيته وتسمي باسم الحاج محمد وظل يتردد علي سوق الخضار علي شاطئ النيل في حي الملك الصالح إلي أن وجد له عملا, اشتغل حمالا علي عربة لوري كانت تعمل في نقل الخضراوات ما بين القاهرة ومدينة السويس التي عاش فيها, وعقد صداقات مع الكثير من أهلها, وعندما شعر بضرورة تركها, هجرها وهام علي وجهه وأصبح مرة أخري بلا عمل!
وبعد فترة من الزمن وجد له عملا علي مركب في النيل كانت تأتي بالحجارة إلي الشاطئ أمام قرية مزغونة التابعة لمحافظة الجيزة حيث كان العمل يدور أيامها في ترميم طريق بين القاهرة وأسوان, وكان السادات ضمن العمال الذين كانوا ينقلون الحجارة من المركب إلي عرض الطريق!
وكانت الحرب قد انتهت في نفس الوقت الذي انتهي فيه العمل بطريق القاهرة أسوان, ولأن الأحكام العرفية كانت لاتزال قائمة, اضطر السادات إلي الاستمرار في الاختباء مع السعي للبحث عن عمل يتعيش منه!
وفي هذه المرة وجده في بلدة أبو كبير بمحافظة الشرقية, وكان العمل فاعلا في مشروع شق ترعة تابعة لمصلحة الري, وكان الأجر أقل من القليل يكفي بالكاد لشراء بضع لقيمات, ولما كان بلا مأوي عقد صداقة مع الخفير الذي كان يحرس أدوات الحفر للمصلحة, وحصل منه علي الموافقة بالسماح له بالمبيت معه الكشك الذي كان مقرا له!
وحكي لي السادات بالتفصيل عن معاناته في الكشك وعن سقفه الذي كان من البوص التي تنزل من خلاله خطوط الماء في عز البرد الزمهرير وكان لا يملك عليه إلا جلبابا لايكاد يستره!
وعندما انتهي العمل في شق الترعة وجد السادات نفسه مرة رابعة عاطلا بلا عمل, حتي وجد مكانا له ضمن عمال تراحيل في مدينة بني سويف, كانوا يعملون لشركة مصر للمناجم والمحاجر! ينقلون لها الرخام الذي كانت تستخرجه من منجم قديم قرب بني سويف وتنقله إلي الجيزة علي سفح الهرم لبناء استراحة للملك فاروق!
كان السادات يبتسم وهو يتحدث عن صروف الدهر وعجائب الأقدار, عندما يقول إنه اشترك في قطع الرخام ونقله إلي استراحة فاروق التي أصبحت اليوم كازينو يرتاده الناس ويستمتعون فيه!
ظل السادات هاربا إلي أن انتهت الأحكام العرفية وأفرج عن المعتقلين وكان الإفراج يشمل السادات, الذي كان اعتقاله قد انتهي يوم أن قابلته في بيت زكريا الحجاوي حول طبلية السمك الذي لا يعلي عليه!
وأصبح السادات طليقا ولكن بلا عمل, وتذكر له صديقا كان علي شئ من اليسار, فأقنعه بشراء سيارة نقل كبير تدر الألوف, وفعلا اشتري الصديق السيارة وعمل عليها السادات وجاءت بالشئ الكثير, وعند الحساب, طمع الصديق وظلم وجار, كذلك وادعي, الأمر الذي لم يتحمله السادات فترك العمل معه, كما ترك له مبلغ ستين جنيها كان قد قررها له في الحساب!
في هذه الأيام كانت صلتي بالسادات قد توثقت وإعجابي به قد زاد, وكان لا يمر يوم إلا وألقاه وأجلس إليه وأسمع منه ما كان يزيد اقتناعي به!
وفي يوم كنت طريح الفراش في منزلي إثر عملية استئصال اللوز, يومها جاء السادات يعودني في المنزل, وكان حول سريري أصدقاء أتذكر منهم جليل البنداري الذي كان من الكتاب الساخرين في دار أخبار اليوم, والشيخ محمد رشدان عمدة العزيزة ونائبنا السابق في البرلمان, وكان السادات قد انتحي ركنا بجانب نافذة في الغرفة التي كانت واسعة, وانهمك في قراءة كتاب كان في يده!
وفي ليلة علي قهوة محمد عبد الله انتهت السهرة, وذهب الجميع, وبقي زكريا وأنور وأنا, وكان لي قريب يعيش في شارع الهرم أخبرني بأن فدانا من الأرض علي الشارع معروض للبيع ب300 جنيه, أيامها كان ذلك أو أكثر قليلا هو سعر فدان الأرض!
وخلال الجلسة تذكرت الفدان وعرضت عليهما الأمر, ومحاولة مني لتحميسهما اقترحت أن نشتري الفدان ونزرعه حديقة نضع فيها عدة كراسي وطاولات تحيطها الزهور وأشجار الياسمين ونجعلها منتدي للمثقفين والأدباء والفنانين, ونعيش في النعيم ونكسب ما نواجه به الحياة, واقترح زكريا تخصيص ركن لبيع الكتب واسطوانات الغناء القديم, وظللنا حتي الفجر نحلم بالمشروع, وفي الليلة التالية كنا قد نسينا الموضوع, وكان السبب عدم قدرة أي منا علي تدبير مائة جنيه, الوحيد الذي تمكن من جمع أموال كنت أنا, حصلت علي جنيهين صرفناهما في شراء كيلو ونصف كباب مع العيش والسلطات!
وفي يوم اختفي السادات, وفتشت عنه وفشلت في العثور عليه, وعندما أصابني القلق, قال زكريا الذي كان يعرفه أكثر مني, بأنه لابد وأن يعاود الظهور يوما ما ومعه إحدي مفاجآته,ومرت شهور, وظهر السادات, وفاجأنا بارتدائه سترة ضباط في الجيش, وقال إنه أعيد إلي الخدمة, وشرب معنا فنجانا من القهوة ثم غادرنا واختفي ثانية!
وكنت قد تعودت علي اختفائه كما تعودت علي مجيئه بالمفاجآت, وبعد أقل من سنتين سمعنا بيانا من الراديو بصوت أنور السادات يعلن فيه عن قيام حركة من ضباط الجيش قامت لتعمل علي تطهير مصر من الفساد والرشوة والخيانة التي تسببت في هزيمتنا في حرب1948!
وكانت فرحتنا بقيام حركة الضباط طاغية, ثم عرفنا الأنباء بأن أنور السادات أصبح عضوا في مجلس قيادة الثورة بعد أن تحولت إلي ثورة بعد طرد الملك!
أيامها كنت ضمن أسرة تحرير جريدة الجمهور المصري التي كان يرأس تحريرها أبو الخير نجيب وكان سعد زغلول فؤاد زميلي في الغرفة رقم8 كما كان رفيقي في النضال ضد جنود الاحتلال العسكري الإنجليزي الذين كانوا يحتلون مدن القنال!
وكتب سعد مقالا في الجمهور المصري لم يعجب الرقيب العسكري وكان الرقيب الذي كلفته الثورة بالرقابة علي الجريدة هو اليوزباشي حسن نايل الذي كان أحد الضباط الأحرار الذين قاموا بالثورة!
أيامها كان الصراع محتدما في انتخابات الاتحاد العام لطلبة الجامعة, حيث كان التنافس بين مرشحي الإخوان المسلمين ومرشحي القوي الديموقراطية مشتعلا!
وكان التصويت في الانتخابات قد تحدد له يوم الاثنين وهو الموعد الأسبوعي لصدور الجمهور المصري, فكتب سعد مقالا في الصفحة الثالثة بأكملها هاجم فيه الإخوان ودعا إلي عدم انتخابهم والانتصار لقوي الحرية والديموقراطية, وأمر أبو الخير نجيب رئيس التحرير بزيادة المطبوع كما أمر المسئول عن التوزيع بوضع كميات كبيرة علي جميع أبواب الجامعة!
وبعد الغروب قصدت إلي حيث تطبع الجريدة, وفوجئنا بأن الرقيب العسكري لم يوافق علي نشر مقال سعد! وعندما عرف ذلك سعد ذهب إليه وحاول مناقشته فتلقي منه تعنيفا مصحوبا بأمر مغادرة المكتب بأسلوب رآه سعد غير لائق!
فاندفع وانهال علي وجه الرقيب باللكمات حتي أدماه.
وجاءت علي ذهن سعد فكرة اللجوء إلي السادات, فراح يبحث عنه في كل مكان, فلم يجده لا في البيت ولا في القيادة, إلي أن عرف بوجوده في سينما ريفولي بصحبة رئيس سوريا أديب الشيشيكلي الذي كان في زيارة لمصر, وكانت مع سعد بصفته صحفيا بطاقة من مجلس قيادة الثورة تتيح له دخول مقراتهم وحضور اجتماعاتهم, وفي دقائق كان داخل قاعة العرض بالسينما!
كانت المقاعد الخلفية الأخيرة يشغلها جمال عبد الناصر والسادات وأديب الشيشيكلي وبعض ضباط الثورة, وكان الفيلم الذي يتابعونه عن الزعيم التاريخي مصطفي كامل وكان السادات يشغل مقعدا في الصف الأخير من ناحية اليسار, فاقترب منه سعد وهمس في أذنه قائلا: الحقني ضربت حسن نايل وطلب لي البوليس الحربي عشان يقبض علي, نهض السادات من مقعده مدركا لخطورة الأمر وهو يقول: بتقول إيه؟! قال سعد بأسلوبه المثير: أيوه وسيحت دمه كمان؟!.
فاستبقاه السادات وذهب إلي عبد الناصر وهمس في أذنه ثم عاد ليصحب سعد في سيارته العسكرية التي سارت بهما إلي حيث تطبع الجريدة, وعند وصولهما كان مبني الجريدة والمطبعة مطوقين بعربات البوليس الحربي, وما إن دخل السادات إلي مكتب رئيس التحرير وكان يشغله الرقيب الذي انتفض واقفا يؤدي التحية العسكرية للسادات كانت إحدي عينيه متورمة ووجهه مليئا بالكدمات!
قال السادات للرقيب المضروب وهو يشير إلي سعد: ده زميلي في المقاومة ضد عساكر الإنجليز ثم أشار إلي حسن نايل وقال لسعد: وده كان دراعي اليمين في سلاح الإشارة وفي التنظيم, ثم قال: يا الله اعتذروا لبعض.. وكل واحد يبوس رأس التاني, فهجم سعد يقبل رأس حسن ويعتذر له ومن يومها صار هو وحسن نايل صديقين حتي وافاه الأجل.
وطلب السادات بروفة للمقال الممنوع وعندما قرأه أقنع حسن أن ليس فيه شئ وأمر بنشره وصدر عدد الجريدة وبه مقال سعد الذي استهل صفحة كاملة من الجريدة! يومها احتفلنا ومعنا حسن نايل بعشوة كباب علي حساب أبو الخير! ثم انشغل عني السادات بشئون الثورة, وانشغلت عنه بالجلوس علي قهوة محمد عبد الله!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.