لا يكتمل الحديث عن الجماعة- أي جماعة الاخوان المسلمين التي تناولتها في المقال السابق دون الحديث عن الداعية, أي مؤسسها حسن البنا, ليس فقط لأنه مؤسس لجماعة سياسية فاقت الاحزاب جميعها تقريبا من حيث عمرها الزمني (أكثر من ثمانين عاما) وامتدت من النطاق المحلي الي الاقليمي والدولي لتصبح جماعة عابرة للحدود الوطنية ولكن أيضا لأن حسن البنا كان ومازال مؤثرا في فكر الجماعة و منهجها وأساليب عملها حتي الآن. فكما يقول يجب ان يكون الايمان بالفكرة و صاحبها معا. اذن (الدعوة والداعية) كل منهما يكمل الآخر ومازال الاخوان يفضلون استخدام مصطلح الدعوة عن الجماعة حتي تظل لصيقة بالداعي اليها. ولا شك أن هذه الصفة تعلو صفة رئيس الحزب السياسي الذي يكون عرضة للنقد والمساءلة وغيرهما من الأمور المعتادة في التنظيمات السياسية الحديثة والاحزاب ذاتها تعرف الكثير من المراجعات الفكرية والتنظيمية التي تصبغ عليها صفة التغيير وليس الثبات, وهذا علي عكس حال الجماعة ومؤسسها أو مرشدها العام وهو اللقب الذي اختاره البنا لنفسه ليكتسب به صفة روحية وسياسية معا متجاوزا بذلك مفهوم القيادة التقليدية. ومعروف ان للجماعة مرشدا عاما واحدا, أما من يقوم علي ادارة شئون أفرعها المنتشرة علي مستوي العالم فيتخذ لقب مراقب عام حتي تظل الافرع مرتبطة بالأصل. ولذلك فقد انشغل البنا نفسه بكل صغيرة وكبيرة فيما يخص ادارة شئون الجماعة ورسخ مبدأ الطاعة والولاء, وحرص أشد الحرص علي سرية التنظيم الخاص (الجناح العسكري للجماعة في الأربعينيات) ولم يسمح بأي محاولات للخروج عليه أو الانشقاق عن الجماعة, التي كان يلجأ فيها اما للإقصاء أو الاحتواء, ثم اصبحت هذه التقاليد متعارفا عليها بل جزءا لا يتجزأ من منهاج الجماعة. وبحكم شخصيته المحورية فقد انقسمت الآراء حوله بشدة بين مريديه وانصاره, الذين رفعوه الي مرتبة عالية و مثالية لا نقد فيها ولا مراجعة مثلما يشير د. ثروت الخرباوي (القيادي المنشق عن الجماعة) في مقال له نشر منذ ايام بجريدة المصري اليوم معلقا علي مقال آخر نشر حديثا للشيخ الخطيب مفتي الاخوان عنونه ب حسن البنا رضي الله عنه, وبين خصومه الذين هاجموه بشدة ونعتوه بأقسي الصفات. رغم ذلك لم يكن البنا من أصحاب الاجتهادات الفكرية والتنظيرية الكبري, فلم يلقب بالمفكر أو الفقيه, لقد نشأ في أسرة بسيطة بقرية صغيرة ونال قسطا متواضعا من التعليم ولم يتمكن من دخول الازهر, وانما تخرج في مدرسة دار العلوم وعين مدرسا بإحدي المدارس الابتدائية بمدينة الاسماعيلية, حيث انشأ الجماعة (1928), أي كان بخلاف كثير من معاصريه من المثقفين الذين قدموا انتاجا ضخما عن الاسلام وقراءة مجددة للتراث مثل العقاد وطه حسين ومحمد حسين هيكل وأحمد أمين وغيرهم, الا أن أثر تلك الاجتهادات ظل مقصورا علي النخبة بعكس دعوة البنا التي كان لها التأثير الأوسع الذي قد يفسره البعض بسهولة خطابه الديني الذي يجذب البسطاء من الناس مثلما يسهل ترويجه في جميع المراحل, مادام المجتمع بقي علي حاله من التقليدية وضعف التعليم, اضافة الي قوة التنظيم الذي أنشأه. ولأنه يصعب فهم اي دعوة بمعزل عن سياقها التاريخي والسياسي والاجتماعي ودور صاحبها في هذا السياق, فتجدر الاشارة الي ان مركزية دور البنا لا تقتصر فقط علي تأسيسه لجماعة الاخوان المسلمين و انما علي كونه مؤسسا للحركة الاسلامية عموما قديمها و حديثها. فقبل حسن البنا لم يكن ثمة ما يسمي بالحركة الاسلامية بل كانت هناك مدرسة فكرية اصلاحية تشكلت نواتها كما يؤرخ لها الجبرتي- مع مجيء الحملة الفرنسية علي مصر, التي شكلت الصدمة الحضارية الاولي وكشفت عن واقع تأخر العالم الاسلامي وأثارت الاسئلة الكبري حول التقدم والحرية والتحديث ومقاومة الاستبداد (وهي نفس الاسئلة المثارة الي الآن) ومن أهم رموزها- كما هو معروف- رفاعة الطهطاوي مرورا بالافغاني ومحمد عبده (صاحب المشروع التطويري للأزهر وقبله الشيخ حسن العطار) وانتهاء برشيد رضا. الا أن هذه المدرسة الفكرية لم تسر علي وتيرة واحدة, فقد بدأت تحديثية مع الطهطاوي وانتهت سلفية مع رضا واقتربت احيانا من العمل التنظيمي مع الأفغاني. ولكن حسن البنا هو الذي احدث النقلة النوعية وأسس للعمل الحركي الذي فصل ما بين الفكر و التجديد من ناحية, والعمل السياسي المباشر من ناحية اخري, مع الأخذ في الاعتبار اقترابه فكريا برشيد رضا تحديدا, الذي ينسب اليه نشر المنهج السلفي من خلال مجلته الشهيرة المنار وتأثره بفتاوي ابن تيمية المتشددة (التي تتبناها الكثير من الجماعات الاسلامية المعاصرة) علاوة علي دعوته لاستعادة الخلافة وهو ما ترجمه البنا عمليا بتأسيسه للجماعة ردا علي إلغاء الخلافة العثمانية في تركيا (1924). وبذلك تقلصت مساحة التجديد الفكري واختزلت الأفكار الاصلاحية لتصبح عند البنا هي مجرد العودة الي تعاليم الاسلام وأحكامه, حيث رأي سبب تأخر المسلمين في ابتعادهم عن دينهم وفي التغريب الثقافي وفي فقدان الخلافة. لذا لم تكن مصادفة أن يبدأ البنا نشاطه العملي مبكرا من خلال تأسيس ورئاسة جمعيات تدعو لما أسماه بمكارم الأخلاق والنهي عن المنكرات مثل جمعية الأخلاق الحميدة ومنع المحرمات (وهي منشأ جماعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر). واذا كان هدف الدعوة هو رد الناس الي صحيح الدين واستعادة الدولة الاسلامية, فإن الحديث عن التعددية السياسية والحزبية وسيادة القانون والحريات العامة والخاصة والمواطنة وغيرها من مفردات مشابهة يصبح خارج السياق. بالطبع هذه ليست مجرد ملامح تاريخية أو سيرة ذاتية للداعية الأكثر تأثيرا في الحقبة المعاصرة ولكنها قراءة فيما يجري الآن. فأفكار البنا حاضرة بقوة وليس هناك اجتهاد بعد دعوته, وانما فقط وضعها موضع التطبيق, وهو ما حدث واستمر حتي وصول الجماعة الي الحكم. ولكن سيكون هذا هو الاختبار الأصعب لانه المتغير الوحيد الجديد الذي طرأ علي الجماعة. لمزيد من مقالات د . هالة مصطفى