كمؤرخ للتاريخ والفكر الإسلامي قديما وحديثا، وراصد لكل اتجاهات وتيارات حركات جماعات الإسلام السياسي الحديثة والمعاصرة، ومناضل وطني شديد القلق – كشأن جميع المصريين – علي مستقبل مصر الملبد بالغيوم، راودتني فكرة كتابة سلسلة مقالات تحمل هذا العنوان، هذا علي الرغم من شكوك تراودني بصدد جدواها بالنسبة لجماعة لم تراجع أفكارها التي صاغها مؤسسها ولو مرة واحدة طوال نحو ثمانين عاما. تكمن شكوكي تلك – وترجع عدم الجدوي – لعدة أسباب نوجزها في الآتي: أولا: أن قادة الجماعة لن يستجيبوا لأطروحة مؤرخ ومفكر يعرفون أنه ماركسي كافر – في نظرهم – برغم نصاعة أفكاره التي طرحها – في أكثر من خمسين كتابا ومئات الدراسات والمقالات في الكثير من الدوريات والصحف العربية والأجنبية.. والتي من المؤكد أنهم علي علم بها. ثانيا: أن أطروحة تجديد الفكر الديني برغم مشروعيتها لا محل لها بالنسبة لجماعة لاقت الأمرين، منذ نشأتها وحتي قيام ثورة 25 يناير سنة 2011م، ومع ذلك نجحت بفكرها التقليدي في تحقيق هدفها الأول، وهو الوصول إلي الحكم، فلماذا الترشيد والتجديد إذن؟ ولماذا يطرح هذا الماركسي دعوته تلك، إلا أن يكون حاقدا يروم كيدا في أطروحة «حق يراد به باطل»؟ ثالثا: أن معتقدات الجماعة تحولت – عبر ثمانين عاما – إلي «دوجما» دينية لا يأتيها الباطل لا لشيء إلا لاعتقادهم بأنها هي الإسلام نفسه، عقيدة وشريعة ونمط حياة، ومن ثم، يصبح التجديد خروجا علي الدين، قبل كونه خروجا علي الجماعة، وحسبنا التنويه بمصير بعض أعضاء الجماعة – من الإصلاحيين ليس إلا – سواء إبان حياة «الإمام المؤسس، أو قبل وإبان وقائع ثورة 25 يناير، لم يكن هذا المصير إلا «الشلح» و«الخلع» باعتبارهم «خوارج» علي «المرشد»، ولي الأمر الذي تجب طاعته، حتي لو كانت تلك الطاعة عمياء!!، وقد تعاظم هذا المعتقد – الموروث عن «فقهاء السلطان» في عصور الظلام – باعتباره كان ولايزال «صمام الأمان» الوحيد الحافظ لكيان الجماعة من آفة التشرذم والفرقة.. بل إنه – الآن – هو سر براعة الجماعة في الحشد والتجييش الذي تشهد عليه «مليونيات التحرير»، الأمر الذي يثير دهشة جميع القوي الوطنية الأخري، وحدها في آن. رابعا: ما يعرفه الجميع عن حقيقة كون قيادات الجماعة الحاليين من «التيار القطبي» المتطرف، ولن نخوض في هوية هذا التيار العقدية، كالتكفير، و«الجاهلية الثانية»، والتطبيق الحرفي لأحكام الشريعة، وإحياء الخلافة.. إلخ من «اليوتوبيات» وأحلام اليقظة، ما يعنينا هو هيمنة تلك القيادات التي تشكل كتلة متجانسة متماسكة، نتيجة كونها «عصبية» – بالمعني الخلدوني – قوامها «المصاهرات» و«أعمال البيزنس» لذلك لا نبالغ إذا حاولنا تطبيق نظرية ابن خلدون بصدد «الدعوة الدينية والعصبية الإثنية» كشرطين ضروريين لتأسيس الدولة، وفقا لتلك النظرية لا يمكن زحزحة القيادات القطبية لجماعة الإخوان المسلمين إلا بعد استنفاد مكامن قوتها عن طريق الإسراف والشطط في حياة الثراء والبذخ، ولا غرو، فالرحلات «المكوكية» بين قادة «البيزنيس» مع دول «البترو – دولار» حديث الخاصة والعامة. ليس أدل علي نجاح التيار القطبي في الهيمنة علي مقاليد أمور الجماعة – بل والدولة – من «التمكين» لأفرادها من تولي المناصب العليا والحساسة للإمساك بمفاصل الدولة، كذا كبح جماح التيار الإصلاحي داخل الجماعة إما بالطرد أو بالحيلولة دون وصول بعض أفراده إلي تلك المناصب، برغم كفاءاتها واستنارتهم وبلائهم في خدمة الجماعة نفسها، وما جري من تنافس حول منصب رئاسة حزب الجماعة السياسي، مصداق ذلك. مع ذلك كله – وغيره كثير لا يتسع المجال لسرده – يحدونا بصيص من الأمل في جدوي ما نكتب، للأسباب التالية: أولا: أن التجديد – عموما – أهم قوانين الحياة التي هي في تطور دائم ومستمر، وقديما قال أحد الفلاسفة في ذلك: «إنك لا تستطيع أن تضع قدمك في النهر مرتين»، كناية عن تجدد مياهه، وإلا صار أسنا وفاسدا ومفسدا لمن يشربها، قد يحاجج البعض في ذلك القانون المتعلق بصيرورة الحياة لا ينطبق علي أحكام الدين المطلقة، نرد علي الحجة هاته بأن الله – سبحانه وتعالي – قال في كتابه العزيز: «كل يوم هو في شأن» وضرب المثل في شرعه بآيات «الناسخ والمنسوخ»، بل ورد في السنة النبوية ما يؤكد أن «الله يبعث علي رأس كل مائة عام من يجدد للأمة أمور دينها»، وإذا كان ذلك كذلك، فأجدي بمنظري الجماعة أن يجددوا «تابوتهم» اللامقدس، بل هو اجتهاد إمام صاغ أفكار الجماعة من أجل «الدعوة»، لا الدولة، وهو ما أكده مرشد الجماعة من بعده في كتابه: «دعاة لا قضاة». لست بحاجة إلي إثبات حقيقة إقدام كل الفرق والمذاهب الإسلامية، – سواء في أصول الفقه أو في أصول الدين – علي تجديد معتقداتها، بتغييرات الزمان والمكان، ومن ثم الظروف، أما الفرق والمذاهب التي جمعت بين الدين والسياسة – كجماعة الإخوان المسلمين التي اعترفت بذلك أخيرا بعد طول إنكار – فثمة فروق جوهرية بين معتقداتها في طور «الستر» ونظيرتها في طور «الظهور»، إذ غلب عليها التطرف والإقصاء وحتي تكفير الخصوم في طور «الستر»، كنتيجة لما عانته من اضطهاد ومطاردات، وحين تحولت إلي طور «الظهور»، فقامت بالثورات التي توجت – أحيانا بتأسيس الدول، جددت معتقداتها، فمالت إلي الاعتدال، واتخذت طابعا عمليا، لا إيديولوجيا، وحادت عن تكفير الخصوم، وحتي التي قالت بالتكفير، فكان «كفر نعمة»، لا «كفرملة»، كما هو حال الخوارج، علي سبيل المثال، أما تلك التي استمسكت بمعتقداتها السالفة، فقد انقرضت وذوت، واختفت كلية من التاريخ. ثانيا: أن تاريخ المذاهب الإسلامية في العصر الحديث يشهد علي دعوات التجديد والإصلاح، دون أن يكون في ذلك خروج علي الدين البتة، وحسبنا التنويه بدعوات الشيخ حسن الخشاب، والطهطاوي، والأفغاني، ومحمد عبده، وحتي رشيد رضا – مرجعية المرحوم حسن البنا – ومحمد إقبال، والخميني، وعلي شريعتي، وحسن حنفي، ومحمد عابد الجابري، وكاتب المقال. بل إن مفكرا إسلاميا مرموقا – د. أحمد كمال أبوالمجد – دعا في كتابه «حوار لا مواجهة» إلي «ترشيد» الفكر الديني المعاصر – بكل أطيافه – باعتبار ذلك أمرا حتميا فرضته معطيات الواقع المتجدد. ثالثا: أهم من ذلك كله، ما أثبتته تجربة جماعة الإخوان المسلمين من معطيات – إبان ثورة 25 يناير وبعد وصولهم إلي الحكم – من وجود تيار إصلاحي تجديدي داخل الجماعة فطن إلي تلك المعطيات ونبه إلي مزالق ومغبات الجمود والإجحام عن التجديد، وإذ جري لفظه وطرده من الجماعة، فقد سرت أفكاره في الكثيرين من شبابها الواعي الذي لم يدخر وسعا في إعلان التمرد والخروج عن فكرها التقليدي المتحجر. رابعا: الأنكي، هو ما نشهده الآن من نتائج سلبية حلت بالجماعة وحزبها، من جراء سلوكيات القادة التي عكست إديولوجيتها «الثابتة»، ضاربة عرض الحائط بمحاولات الترشيد والتجديد، وحسبنا التنويه بأن تلك السلوكيات.. خصوصا ما يتعلق بالمناورات الساذجة والمضي قدما في سياسة «التمكين» والإقصاء والهيمنة – عزلت الجماعة وحزبها عن كل القوي الوطنية، لتلعب في الساحة بمفردها، والأنكي يتمثل في فقدان التأييد الجماهيري – بعد خداعه – نتيجة الوعي السياسي الذي أفرزته الثورة والثوار، ولم يفطن إلي خطورته قادة الجماعة من القطبين. نختتم هذا المقال بنص لابن خلدون، بالغ الدلالة علي تلك الحقيقة المؤسفة، إذ ذكر في مقدمته تحت عنوان: «فصل في كون رجال الدين أبعد الناس عن السياسة»، نجتزئ منه قوله: «.. ومن هذا الباب، أحوال القائمين بتغيير المنكر من الفقهاء والعامة، فإن كثيرا من المنتحلين للعبادة وسلوك طرق الدين يذهبون إلي القيام علي أهل الجور داعين إلي تغيير المنكر والنهي عنه.. فيكثر أتباعه والمتلثلثون بهم من الغوغاء والدهماء، فيعرضون أنفسهم في ذلك للمهالك!!»، وهو ما سنعرض له في المقالات التالية.