قدمت ثورة يناير حالة نموذجية لدراسة نشأة وظهور رأي عام متحرر من الاستبداد والقمع البوليسي, فقد توافرت شروط المجال العام, بحسب نظرية هابرماس الشهيرة. وتحولت ميادين الثورة والإعلام الجديد والقديم إلي ساحات لنقاش ديمقراطي حقيقي ومشاركة جماهيرية واسعة, والأهم حرية التعبير عن المواقف والاتجاهات المختلفة سواء من خلال القول أو الحشد والتعبئة ثم التظاهر السلمي. لم يشهد تاريخ مصر المعاصرة وعلي مدار أكثر من عامين هذه الحالة, لذلك يمكن القول بظهور وتبلور رأي عام واع وحقيقي, حاولت بعض استطلاعات الرأي العام رصده وأحيانا تشويهه, لكن ظل هذا الرأي العام الحر أحد أهم مكتسبات الثورة, وفي الوقت ذاته أحد مجالات الصراع بين قوي الحكم والمعارضة, فكل منهما يحاول السيطرة عليه وتوجيهه إلي صالحه, بوسائل أقلها مشروع وأكثرها غير مشروع بل وغير أخلاقي. من هنا يمكن أن نفهم: أولا: حملات الثوار ومدعي الثورة علي ما يسمي بحزب الكنبة, والذي يمثل أغلبية المصريين الذين لا يشاركون لأسباب مختلفة في المظاهرات أو الأحزاب. لكن أعتقد أن هذه الأغلبية تمثل الجمهور المتابع للقنوات الفضائية وربما الفيس بوك, وشاركت وربما للمرة الأولي في حياتها في الانتخابات البرلمانية والرئاسية, وبالتالي لا يمكن التقليل من أهميتها ووعيها السياسي. ثانيا: حرص الحكم الجديد علي القضاء علي المجال العام أو تشويهه من خلال إصدار قوانين وفرض إجراءات من شأنها تقييد حرية الإعلام والإعلاميين, والقضاء علي حرية التظاهر, والتضييق علي الجمعيات الأهلية, ومراقبة وسائل الإعلام الجديدة ومواقع التواصل الاجتماعي. ثالثا: القضاء علي الطابع السلمي للثورة والذي يعد أحد شروط تفعيل المجال العام, لأن السلمية ببساطة تضمن توسيع قاعدة المشاركين في النقاش العام والتظاهر السلمي. من هنا قد نفهم الطرف المستفيد من عنف محمد محمود ومجلس الوزراء أثناء حكم المجلس العسكري, وكذلك أسباب الحرص علي توريط وزارة الداخلية في ممارسات مرفوضة للعنف ضد المتظاهرين, سبقها اعتداء علي مقار الإخوان والحرية والعدالة, ثم مبادرة الإخوان بالاعتداء علي متظاهري الاتحادية, وحصار الدستورية, مما ولد في المقابل ممارسات عنف لدي بعض شباب الثورة. رابعا: الخلط المتعمد بين الدين والسياسة, سواء في مواد الدستور الجديد أو الشعارات العامة والبرامج السياسية, والخطاب السياسي عموما, وخصوصا كلمات وشطحات الرئيس مرسي, وأخيرا موافقة مجلس الشوري علي السماح باستخدام الشعارات الدينية في الدعاية الانتخابية, ما يعني مزيدا من الاستخدام والتوظيف السياسي للدين( الثابت والمقدس) في الصراع السياسي( النسبي والمتغير), الأمر الذي يقود إلي تشويه وتصفية المجال العام, لأن الدين وما يرتبط به من مشاعر وعواطف يؤثر بالسلب علي موضوعية النقاش السياسي وعقلانية المواقف السياسية, لاسيما وأن أغلبية فصائل التيار الإسلامي تدعي أنها تمثل الإسلام أو علي الأقل تري أن رؤيتها وبرنامجها السياسي الأقرب إلي الدين. ولاشك أن تعدد الأحزاب ذات المرجعية الدينية سيقوض من كل هذه الادعاءات, ويفقدها المعني والدلالة, حيث سيجد الناخب أمامه أربع أو خمس قوائم حزبية تدعي المرجعية الدينية وتتنافس عليها, لكن الإشكالية أن هناك ناخبا مسيحيا, وأحزابا علمانية, مما يشوه المساواة المفترضة بين شركاء المجال العام والوطن الواحد. التعارض بين التوظيف السياسي للدين والمجال العام مثار نقاش فكري لا يتسع المجال للوقوف عليه, لكن تكفي الإشارة إلي أن هناك بعض الآراء التي تشترط فصل الدين عن السياسة لضمان تشكيل مجال عام حقيقي, وبالتالي ظهور رأي عام واع ويتسم بالعقلانية, ولكن من قال إن الرأي العام عقلاني دائما, وأنا شخصيا من أنصار لا عقلانية الرأي العام في أغلب الأحيان, ومن أنصار إمكانية ظهور مجال عام رغم الخلط بين الدين والسياسة, لأننا هنا إزاء خصوصية مجتمعية تختلف عن المجتمع الأوروبي الذي ظهر فيه مفهوم المجال العام. صحيح أن المجال العام الذي تزامن مع ثورة يناير خلا من الشعارات الدينية والتوظيف السياسي للإسلام, لكن هذا الوضع تغير تدريجيا في ظل حكم العسكر والتفاهم بين العسكر والإخوان برعاية واشنطن ورغبتها في تجريب الإسلام السني المعتدل في الحكم. من هنا تنامي حضور الديني في المجال العام, لكنه لم يقض علي حيويته وتنوعه, وإن كان قد نجح في تشويهه من خلال دغدغة مشاعر قطاعات واسعة من المواطنين لانتخاب الإخوان والسلفيين في أول برلمان بعد الثورة, لكن حالة تشويه المجال العام وتزييف الرأي العام توقفت, واستعاد الرأي العام قدرته علي التمييز بين السياسة والدين, فالإخوان والسلفيون لا يمثلون الإسلام, علاوة علي افتقارهم الكفاءة والقدرة علي إدارة الدولة وتقديم نموذج أخلاقي في العمل السياسي, لذلك انقلب الرأي العام عليهم في الانتخابات الرئاسية, حيث حصل مرشحو الإسلام السياسي علي عدد من الأصوات يقل عن مرشحي القوي المدنية في مجموع الجولتين الانتخابيتين, وأعتقد أن أي انتخابات نزيهة لن تضمن فوز الإخوان والسلفيين بالأغلبية, كما أن أي استطلاع مستقل للرأي العام سيظهر تراجع شعبية خيار الإسلام السياسي. لمزيد من مقالات محمد شومان