ليست المرة الأولي التي يقف فيها العالم علي أطراف أصابعه خوفا من إيران, ومشروعها النووي, وإمكانية نجاحها في امتلاك قنبلة ذرية جاهزة للتجريب والاستخدام . خلال فترة زمنية قصيرة. لقد تكررت هذه القصة عدة مرات علي مدي سنوات ماضية منذ أن بدأت إيران مشروعها النووي, وكانت تواجه في كل مرة حالة تعبئة دولية ضدها كلما تقدمت خطوة صغيرة إلي الأمام, ثم تهدأ الأمور وتتصاعد مرة أخري إلي أن تنتقل إلي مرحلة أخري ناجحة, وهكذا دواليك إلي أن وصلت إلي أوضاعها الحالية في مشروعها النووي بكل ما يعنيه من دلالات أمنية وعسكرية وتأثيرات إستراتيجية إقليمية ودولية. والآن, ومرة أخري, تتهم إيران بأنها تباشر في الخفاء أنشطة نووية غير سلمية قد تؤدي في المستقبل إلي امتلاكها للقنبلة النووية, وأن هدفها الرئيسي كان من البداية تحقيق هذه النتيجة من خلال ولوجها إلي التكنولوجيا النووية بكل مفرداتها التكنولوجية والهندسية. لقد تعرضت إيران إلي موجات من العقوبات المتتالية بسبب فشلها في إقناع الدول الغربية بأنها لا تسعي إلي امتلاك القنبلة, لكن ما حدث هذه المرة قد جاء وسط مناخ إقليمي ودولي مختلف تماما عما كان عليه من قبل. فأمريكا ومن معها من دول داعمة لها في طريقهم الآن إلي الانسحاب من العراق بعد أن بقيت فيه لأكثر من ثماني سنوات, وسوف يتكرر ذلك في أفغانستان لنصل في النهاية إلي نتائج مشروع الشرق الأوسط الكبير الممتد من تخوم الصين شرقا إلي شواطئ المغرب المطلة علي المحيط الأطلسي غربا. ولا يقتصر التغيير علي الانسحاب الأمريكي من العراق وأفغانستان فحسب, بل التحول المفاجئ لدول المنطقة العربية إلي الديمقراطية, وعزمهم علي إقامة انتخابات تشريعية يختار الشعب فيها ممثليه في البرلمان, ويختفي من أفقها الدولة البوليسية بكل ما فيها من هوان وعذاب, فيمارس الناس ولو بعد حين حرية الحديث والصحافة والفن, وتنسحب من قاموسهم الأفكار الأحادية, ويحل مكانها قيم التنوع والائتلاف والعمل المشترك. ومن يعرف إيران جيدا من الداخل وعلي رأسها نظام الملالي وسيطرة الأمن عليها سوف يقتنع بأنها لن تتماشي مع التحولات الثورية الجارية في المنطقة وأن أوضاعها البوليسية الحالية لا تقل عما كانت عليه مصر خلال الفترة منذ يوليو1952 وحتي ثورة25 يناير.2011 لم نعتد من قبل علي الصور الإستراتيجية المركبة, والآن أصبح من الضروري أن نتعلم تركيبها وفهمها. فإخلاء دول الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل قد أصبح واجبا أساسيا لبناء شرق أوسطي كبير وامتلاك إيران للقنبلة سوف يفتح الباب إلي انتشار أسلحة الدمار الشامل لذلك وجب علي إيران أن تعمل علي إخلاء الشرق الأوسط من هذه الأسلحة الخطيرة. وحاليا يوجد في منطقة الخليج احتياطيات عالمية هائلة من النفط والغاز الطبيعي, وتطوير هذه المنطقة ودمجها يتطلب مشروعا تنمويا عملاقا لا يعرقله شكوك الماضي ومخاوفه ومشاريعه قصيرة النظر المترددة. لقد بدأ الحديث عن انضمام دول مثل الأردن والمغرب إلي مجلس التعاون الخليجي, وقد بدا ذلك وقتها شيئا غريبا لكنه في الحقيقة من تجليات الجغرافيا السياسية التي جعلت من دولة مثل مالطة عضوا في الاتحاد الأوروبي قبل تركيا. وسوف نري من هذه النماذج الكثير عندما يكتمل ربيع المنطقة العربية والشرق أوسطية بكل ما فيها من تحولات قد بدأت بالفعل. وتمثل كل من إيران وإسرائيل عقبة أمام تحول الشرق الأوسط إلي منطقة سلام ورخاء. فالدولتان تعيشان خارج السرب الإقليمي والدولي, وكل منهما يحدثان ضررا هائلا بمستقبل الإقليم ورخائه. فإسرائيل لم توقع علي اتفاقية منع الانتشار النووي وعملت علي امتلاك القنبلة النووية منذ ستينات القرن الماضي. أما إيران فقد وقعت علي الاتفاقية لكنها تعمل الآن علي خرقها من خلال إتباعها لطرق خلفية غير شرعية. والدولتان إيران وإسرائيل يعرضان بذلك دول الشرق الأوسط لأضرار آنية ومستقبلية واسعة. وتواجه إيران في سبيل ذلك تحديات أمنية واقتصادية بسبب العقوبات الدولية المفروضة عليها نتيجة إصرارها علي تخصيب اليورانيوم بكميات كبيرة ونتيجة لفقدان الثقة بينها وبين كثير من الدول في المجتمع الدولي. وخلال الشهور القليلة الماضية انتشرت شائعات بأن إيران قد اقتربت من إنتاج سلاح نووي, وأن تخصيبها لليورانيوم لن يقتصر فقط علي إنتاج الطاقة بل سوف يمتد إلي تطوير سلاح نووي بكل ما يعنيه ذلك من مكونات حرجة لازمة لأية قنبلة نووية فعالة. وأمريكا مترددة تجاه ذلك, وتعول علي استخدام العقوبات وتوسيع مجال تأثيرها الاقتصادي والسياسي. وقد تجد إيران نفسها إذا تدهورت الأوضاع في المنطقة وقد منعت طائراتها من الهبوط في العديد من المطارات الدولية أو منع دبلوماسييها من السفر أو أن تجد نفسها خارج الفعاليات الخارجية الدولية. والخطير أن كثيرا من هذه السيناريوهات الناعمة والخشنة قد وضعت بالفعل للهجوم علي إيران إذا أصرت علي استمرارها تطوير قدراتها العسكرية النووية. بريطانيا قررت بالفعل أن تتولي الملف الإيراني إذا تجاوز حدود الخطر. والأنباء تشير إلي أن بريطانيا سوف تتولي حملة جوية وبحرية لضرب القدرات الإيرانية النووية علي الأرض بصواريخ التوماهوك الكروز. وسوف تسمح للولايات المتحدة استخدام قاعدة ديجو جارسيا في المحيط الهندي والتي استخدمت من قبل في عدد من الحروب الماضية. وبالإضافة إلي ما سبق, من المتوقع القيام بأعمال مخابراتية واسعة النطاق للتأكد من كثير من المعلومات بهدف تجميعها وتحليلها واستخراج نتائجها. وعلي الجانب الآخر تحاول إيران حماية برنامجها لتخصيب اليورانيوم وزيادة مناعته ضد مخاطر الفيروسات التي تمكنت من قبل من اختراق النظام وتعطيل عدد كبير من أجهزة التخصيب والوصول إلي الحد الواجب في هذه العملية الحرجة. والعملية قد لا تقتصر علي تخصيب اليورانيوم فحسب, بل قد تمتد بالتوازي إلي إعداد مزيد من القدرات العسكرية الأخري مثل الصواريخ بعيدة المدي, وإمداد الطائرات بالوقود في الجو حتي تصل إلي هدفها والعودة, وكذلك إعداد الصواريخ المحمولة علي متن الطائرات وتجهيزها وخصوصا الصواريخ جو-جو, وكذلك التفتيش علي أجهزة المسح الجوي. ويتبقي في النهاية تقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية عن البرنامج الإيراني وما حدث فيه من تغيير مقارنة بحالته السابقة. ولقد زار رئيس الوكالة البيت الأبيض في28 أكتوبر2011 قبل أن يعلن تقرير الوكالة بإثني عشر يوما وأشار فيه إلي وجود مصنع للماء الثقيل في إيران لم يتم تفتيشه حتي الآن, كما أشار التقرير إلي أنشطة تطوير لمتفجرات خاصة جدا تعمل علي بدء إشعال القنبلة في فترة زمنية صغيرة للغاية. وهذه النوعية من الأنشطة تتعلق مباشرة بتطوير سلاح نووي وتشغيله في زمن محدد وبدقة معينة مقارنة بأنشطة أخري معنية بتخصيب اليورانيوم لاستخدامه في أنشطة أخري ليس لها علاقة بالأنشطة العسكرية. ويحيط ضباب كثيف بتصرفات إيران في الفترة الزمنية الحالية, وعلي سبيل المثال اتهامها بواسطة الولاياتالمتحدة بأنها كانت وراء اغتيال الدبلوماسي السعودي في كراتشي في مايو الماضي, وكذلك اكتشاف مؤامرة أخري لاغتيال سفير السعودية الحالي في واشنطن. ونعود مرة أخري إلي إسرائيل ووضعها الإقليمي والدولي الذي تزعزع ولم يعد كما كان عليه من قبل. فأن تصبح فلسطين عضوا في اليونسكو بأغلبية كبيرة وبدعم من دول كبري فهذا يعني أن الدول الغربية تري إسرائيل في وضعها الحالي من منظور جديد كدولة احتلال وليست دولة يحيط بها الأعداء من كل جانب. كما يرونها كدولة تمتلك قنابل نووية كثيرة وليست قنبلة واحدة, وأنها لم تعد عنصرا إيجابيا في مستقبل النظام الدولي, وأنها لابد أن تتغير إذا أرادت العيش في الشرق الأوسط. فلم يعد أحد يقبل الآن هجوما إسرائيليا بالصواريخ ضد إيران كحل إنساني مقبول للمعضلة الإيرانية في زمن يردد الناس فيه نداء الشعب يريد العدل والكرامة والديمقراطية والحرية.