بضغطة واحدة علي فأرة الكمبيوتر، انتقل ملف إيران النووي "إلكترونيا" من كمبيوتر الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلي كمبيوتر مجلس الأمن، وبذلك أصبح ملف إيران جاهزا للنظر فيه داخل المجلس خلال الأيام القليلة القادمة. من الآن فصاعدا سوف تخفت الأضواء التي كانت مسلطة علي الوكالة برغم أن البرادعي بذل كل جهده حتي اللحظة الأخيرة لتجنب ذلك، لتسطع بالتدريج علي خشبة مجلس الأمن وعليها نفس الممثلين تقريبا بمن فيهم البرادعي مع اختلاف لغة الحديث ونوع الموسيقي التصويرية. لم تكن إيران تتوقع تلك النتيجة المؤسفة، فقد كان هناك بصيص أمل أن تتجنب وصول ملفها إلي مجلس الأمن من خلال التلاعب بالمقترح الروسي الذي حاولت مد أجله إلي أقصي حد ممكن، لكن الأمر انتهي بحسم في 11 مارس إلي عدم إعادة النظر في الموضوع داخل مجلس محافظي الوكالة وإرسال الملف إلي مجلس الأمن بدون تغيير كلمة واحدة فيه. وكان مجلس المحافظين قد أعطي إيران من قبل في فبراير الماضي مهلة شهر واحد لتحديد موقفها النهائي. وبذلك انتهت مرحلة كاملة مهمة استمرت حوالي ثلاث سنوات، لعبت فيها إيران لعبة القط والفأر مع الوكالة، ومع الاتحاد الأوروبي، والقوي الكبري بشكل عام. وللتذكرة كانت بداية الثلاث سنوات اكتشاف موقع غير معروف من قبل للوكالة به عدد ضخم من أجهزة تخصيب اليورانيوم بدون إخطار من طهران كما تنص بنود معاهدة منع الانتشار، وانتهت الثلاث سنوات بوصول ملف إيران إلي مجلس الأمن، مرورا بكل صور المفاوضات الثنائية والثلاثية، والتوقف عن التخصيب ثم التهديد بالعودة إليه. ويمكن القول الآن أن مرحلة السنوات الثلاث الماضية قد انتهت بعدد من النتائج ذات الدلالة: أولا أن الصين وروسيا لم ينجحا _ أو لم يرغبا- في منع تحويل ملف إيران إلي مجلس الأمن، فقط انصب جهدهما علي تقديم اختيارات أوسع لطهران للتخلي عن عملية تخصيب اليورانيوم المثيرة للجدل داخل أراضيها. ثانيا أن تهديد إيران باستخدام سلاح النفط لم يكن مؤثرا كما ظن الإيرانيون ولم يلتفت إليه أحد. ثم ثالثا أن أوضاع أمريكا في العراق لم تثن الولاياتالمتحدة عن السير إلي نهاية المشوار ودفع القوي الدولية الأخري معها للسير علي نفس طريق منع إيران من تطوير قدرات نووية قد تؤدي في النهاية إلي امتلاكها للسلاح النووي. هناك اختلاف كبير بين المرحلة السابقة قبل وصول ملف إيران إلي مجلس الأمن والمرحلة القادمة في أن حجم السياسة في المرحلة الحالية سيكون أكبر بكثير من حجم التفاصيل الفنية والقانونية التي ميزت المرحلة السابقة. أيضا كان دور الولاياتالمتحدة في السابق أن تراقب من بعيد، والآن نجدها تتقدم الصفوف لتقود معركة مجلس الأمن التي خسرتها من قبل في حالة العراق. لذلك بادر مندوب أمريكا في مجلس الأمن مبكرا باستضافة سفراء الدول دائمة العضوية في مقره بمجرد تحويل الملف لعمل مناقشات أولية قبل أن يعقد المجلس جلساته الرسمية بكامل أعضائه الخمسة عشر. من المتصور أن يقدم مجلس الأمن فرصة إضافية لإيران باتفاق كامل أعضائه من خلال "بيان رئاسي" يطلب فيه من إيران وقف أنشطة التخصيب تماما مع إعطائها مهلة قصيرة للتنفيذ يتردد الآن أنها ستكون حوالي أسبوعين قد تمتد إلي شهر بدون أن تتيح هذه المهلة الأخيرة علي الأرجح العودة مرة أخري إلي الفرص الضائعة مثل تخصيب اليورانيوم في روسيا أو غيرها من الأفكار التي طرحت من قبل ورفضتها طهران. في هذه المرحلة سوف يُعرض علي النظام في طهران خيارات صعبة لا تمس فقط أهدافه النووية بل أيضا كرامته أمام شعبه، فأي حركة إلي الخلف سوف تُؤخذ بحسبها تراجعا أمام القوة الأمريكية وأمام المجتمع الدولي، وأي تقدم في اتجاه المواجهة سوف يُؤدي إلي مزيد من التورط في معركة غير متكافئة. مقارنة بحالة العراق التي أصبحت نموذجا يُقاس عليه، وبعد انتهاء فترة الإنذار المقدمة لإيران من خلال البيان الرئاسي، لن يكون صعبا هذه المرة الحصول علي قرار ضد إيران بفرض عقوبات بدون أن تعترض عليه دولة من الدول الخمس دائمة العضوية. وليس متوقعا أن يتكرر الموقف الذي اتخذته ألمانيا وفرنسا ضد الولاياتالمتحدة إبان حرب العراق؛ أولا لأن القرار لن يكون بالحرب بل مجرد فرض عقوبات، وثانيا لأن ألمانيا وفرنسا ومعهما بريطانيا قد مارست التفاوض مع الجانب الإيراني ولم يحقق شيئا وأصبحت في وضع أكثر تشددا من الولاياتالمتحدةالأمريكية. هناك جانب آخر مهم، أنه في حالة العراق كان هناك تعاطف شعبي واسع أوروبي وأمريكي ضد السياسة الأمريكية خلال مرحلة الحصار وفي فترة الإعداد للهجوم العسكري عليه، لكن من غير الوارد في حالة إيران أن يلقي النظام في طهران نفس مستوي التعاطف بسبب تغير اتجاهات الرأي العام الغربي تجاه العرب والمسلمين خلال الفترة الأخيرة. وبرغم أنه من المنتظر أن يصل إلي إيران شخصيات غربية علي المستوي الشعبي لإعلان تأييدها له، وأن تخرج بعض المظاهرات هنا وهناك تندد بالمعايير المزدوجة ووجود إسرائيل النووية في المنطقة، إلا أن ذلك لن يكون مؤثرا بنفس الصورة التي حدث بها في حالة العراق. هناك في الحقيقة حالة انعدام ثقة في إيران كدولة يمكنها امتلاك قنبلة نووية، وقد ساهم في ترسيخ هذا الانطباع لغة الخطاب الإيرانية التصادمية، وتكتيكات التفاوض المستخدمة، وتركيبة الحكم الداخلية الغامضة. ولا تنفرد الولاياتالمتحدة والدول الأوروبية بهذا الانطباع بل نجده أيضا بدرجات متفاوته عند الجانب الروسي والصيني وأيضا الهندي الذي حصل مؤخرا علي دعم نووي من الولاياتالمتحدة. أيضا جاء وقت الاستماع إلي وعود القادة الغربيين بأنهم سوف ينظرون في المستقبل في مصير السلاح النووي الإسرائيلي، وأن حل القضية الفلسطينية ستكون محور اهتمامهم بعد الانتهاء من قضية إيران، وهو نفس ما فعلوه من قبل في حالتي أفغانستان والعراق. وسوف نشاهد أيضا في تلك المرحلة بوادر حشد إيراني لقواته العسكرية، وقد يقوم بتجربة عدد من صواريخه بعيدة المدي لرفع الروح المعنوية وإظهار أنه قادر علي الوصول إلي الآخرين إذا جد الجد. الخيارات المطروحة أمام إيران محدودة. أن تعلن استجابتها لمطالب مجلس الأمن المقدمة إليها من خلال البيان الرئاسي وفي الوقت القصير المحدد لذلك. لكن طبيعة النظام الحاكم الحالي لن تسمح له بذلك، فقد كان تأكيده حاسما بأن الجمهورية الإسلامية ماضية في مشروعها النووي، وأن النمر الأمريكي الرابض علي بعد خطوات من إيران مجرد نمر من ورق. الخيار الثاني أن تعلن إيران انسحابها من المعاهدة، وبرغم أن ذلك من حقها قانونا إلا أن ذلك لم يصبح من حقها من المنظور السياسي المحض إذا قرر المجتمع الدولي من خلال مجلس الأمن أن إيران تمثل خطرا علي الأمن الدولي في كل الأحوال، وهو ما سوف تعمل الولاياتالمتحدة علي إثباته عن طريق معلومات ربما يجري جمعها الآن. وفي هذه النقطة بالذات لن يكون القانون أو العدالة هو الحكم، ولكن قدرة الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي علي حشد إجماع بذلك في مجلس الأمن مدعوم برأي عام أوروبي وأمريكي يري أن إيران تمثل خطرا عليه. الخيار الثالث أن تتكيف إيران مع عقوبات مجلس الأمن مع الاستمرار في نشاطها النووي المعتاد وفي وجود مفتشي الوكالة، علي أساس أن الوكالة تشتكي فقط من أنها لم تصل إلي كامل التحقق من طبيعة النشاط النووي الإيراني وأنها حتي الآن كما حدث مع العراق قبل الحرب لم تعثر علي دليل بأن إيران تمتلك برنامجا عسكريا لتصنيع القنبلة أو حتي تخصيب اليورانيوم إلي مستويات عالية. مشكلة سيناريو التكيف أن صعوبته سوف تزداد إذا كانت قرارات مجلس الأمن سوف تحدد مواعيد معينة لإيران لتنفيذ المطلوب منها، فإذا لم تستجب طهران سوف يُرفع سقف المطالب إلي أعلي إلي أن تقترب الأمور من حافة الصدام المسلح. أمام إيران في تلك المرحلة أن تستخدم سلاح النفط، أو أن تغلق مضيق هرمز، أو تغرق سفينة أمريكية، أو تقتل جنودا أمريكيين، لكن كل ذلك يمكن أن يتحول في لحظات إلي شرارة حرب ستكون المنشآت النووية الإيرانية أول أهدافها. المتوقع في هذه المرحلة أن القوي الإقليمية _ وليست الدولية _ ستكون الأكثر حرصا علي التدخل لحل المشكلة سياسيا لأنها هي التي سوف تطولها النار لو اشتعلت في الخليج. والأفضل أن يبدأ هذا التدخل من الآن ومؤتمر القمة العربية علي الأبواب، لأن الحل سيكون أيسر خاصة إذا تم ربطه بباقي المشاكل الأخري التي تعاني منها منطقة الشرق الأوسط.