طوال الطريق إلي قصر الأندلس بطريق العروبة للقاء الرئيس محمود عباس- أبو مازن- لإجراء حوار للتليفزيون المصري لم أدر لماذا لم أكف عن التفكير في الرئيس ياسر عرفات. وربما كان ذلك لأنني سرت علي الطريق ذاته منذ ثلاثة عشر عاما لعقد لقاء مماثل, ولكن الزمن أيامها كان غير هذا الزمن, فقد كان العام هو1997, ورغم أن نتنياهو أيامها كان هو نفس نتنياهو هذه الأيام, إلا أن الأمل في السلام كان لا يزال قويا. فقد عاد عرفات ورفاقه من منفاهما الطويل في تونس وغيرها من العواصم العربية إلي أرض فلسطين, وكانت هناك اتفاقية أوسلو التي وضعت القضية الفلسطينية التي لم يكن هناك حل لها علي طريق الحل. ولا يقل أهمية عن ذلك كله أنه رغم كل الخلافات كان هناك معسكر إسرائيلي حقيقي للسلام يرغب في تسوية الصراع التاريخي مع الفلسطينيين والعرب. في هذه المقابلة كان عرفات واثقا من التسوية, فقد كان الجبل الفلسطيني لا يهزه ريح كما كان يقول, وكانت القدس أمامه قريبة, ورغم أنني كنت أعرف أن كثيرا من ذلك كان لرفع الروح المعنوية المنخفضة بفعل وصول اليمين الإسرائيلي إلي السلطة, ومع ذلك صدقته فقد كانت له طريقته في الإقناع. وكان جزءا من الاطمئنان راجعا إلي وجود أبو مازن الذي فاجأني عندما استمعت إلي خطابه في المجلس الوطني الفلسطيني المنعقد في عمان بخطاب فلسطيني جديد لم أعهده من قبل عارفا بحقيقة العالم وتوازن القوي, ولديه خطة مختلفة لإنقاذ القضية الفلسطينية من ضياع الكلمات الضخمة والجوفاء. وعندما أتيحت لي أول فرصة للقاء طويل مع أبو مازن في تونس في أواخر عام1989 تكونت لدي فكرة أنه ربما كان عرفات باعتباره الزعيم التاريخي لحركة التحرر الوطني الفلسطينية هو الذي عليه القيام بكل ما يجب أن يقوم به السياسي من تعبئة ورفع الروح المعنوية وإعطاء الأمل لشعبه وتمثيله في العالم الخارجي. ولكن أبو مازن, رغم تعدد القيادات الفلسطينية الأخري ذات الوزن مثل أبو إياد, فقد كان هو مصدر الفكر الإستراتيجي الذي بدأ يضع القضية لأول مرة في تاريخها علي أرض الواقع من الناحية السياسية وعلي أرضها الفعلية من الناحية المادية. كان اللقاء مرتبا من قبل الأستاذ لطفي الخولي رحمه الله وكانت صلته بالقيادات الفلسطينية تجعله أحيانا وكأنه جزء منها, حينما كلفني وصديقي الدكتور محمد السيد سعيد رحمه الله بوضع ورقة عمل لحل القضية الفلسطينية نناقشها مع القيادات الفلسطينية في تونس. وحينما وصلنا إلي هناك وجدنا احتفالا بذكري اغتيال زعيم فلسطيني آخر هو القائد أبو جهاد, ووسط أجواء الخطب والمزايدات المعتادة جاءنا الخبر بلقاء مع أبو مازن الذي قال عنه لطفي الخولي إنه العقل المفكر الحقيقي في السياسة الفلسطينية, وإذا كان أبو جهاد هو ذراعها العسكرية فقد كان صاحبنا هو ذراعها السياسية. وعلي مدي ثلاث ساعات تقريبا من الليل استعرضنا ما جئنا به, واكتشفنا أن ما لدينا كان فيه قدر كبير من الأكاديمية, وبعض من السذاجة السياسية; وعلي الجانب المقابل كان هناك فيض من الحنكة الإستراتيجية التي جعلتني فيما بعد وعندما انفض الستار عن اتفاق أوسلو لا أندهش مطلقا أن يكون العقل المفكر وراءه هو محمود عباس الشهير بأبو مازن. وعلي مر السنوات في التسعينيات قابلت الرئيس الفلسطيني أبو مازن عدة مرات في رام الله, ورغم بعد الوقت ما بين كل مرة وأخري فقد كان دوما مرحبا وودودا, مع قدر غير قليل من الألفة التي تكثر ما بين أصحاب الرؤي المتقاربة, والتي تشعر بقدر من العزلة حالة أن تكون الأغلبية في اتجاه آخر شعبوي وحماسي وعاطفي. وفي القضية الفلسطينية كانت هناك دائما بحار من العاطفة والحماس, وندرة فيما هو عملي وواقعي يعطي للشعب الفلسطيني الفرصة للتخلص من الشتات والعودة إلي وطنه وإقامة دولة مستقلة وعاصمتها القدسالشرقية. وحينما جلسنا خلال الفترة السابقة علي إجراء الحديث التليفزيوني وجاء حديث السلام والحرب كما هي العادة وتطرقت الكلمات إلي التجربة المصرية إذا به يقول بصوت قاطع إن الرئيس أنور السادات هو أكثر الزعماء العرب جرأة وشجاعة وشرفا. كان ذلك بالطبع قريبا إلي قلبي خاصة أنه كان قد فرغ توا من الحديث عن الدور المصري, ودور الرئيس مبارك شخصيا, في مساعدة القضية الفلسطينية, والجهود المصرية من أجل المصالحة; وكم تمنيت ساعتها أن تستمع كل القوي السياسية المصرية إلي كلمات الرجل وتقديره للدور المصري. وساعتها بدا الدور ممتدا, وخارجا من إستراتيجية كبري بدأها الرئيس السادات لاستعادة الأرض المصرية والعربية, وكان أبو مازن هو الرجل الفلسطيني الذي يقدر علي فهم أبعاد هذه الإستراتيجية. علي أي الأحوال فما قال به أبو مازن هو أننا علي أبواب مرحلة جديدة من المفاوضات من قريب أو بالإنجليزيةProximityTalks, وعلي أي الأحوال فيبدو أن التسمية التي سوف تسود هي المفاوضات غير المباشرة. وهذه نوعية من المفاوضات شائعة في الدبلوماسية عموما, ولكنها كثيرة في جولات الصراع العربي الإسرائيلي المختلفة عندما تصبح السياسة امتدادا للعنف أو الحرب بوسائل أخري. فعندما جرت أول جولات المفاوضات العربية الإسرائيلية في نهاية مارس1949 كان ذلك في أحد فنادق جزيرة رودس, وساعتها كان علي الوسطاء الحركة بين طابقين في فندق يوجد العرب في واحد منهما والإسرائيليون في الطابق الآخر. وفي أعقاب حرب أكتوبر1973 ابتكر هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي تعبير الدبلوماسية المكوكية التي جرت بين مصر وإسرائيل, وبعد ذلك بين سوريا وإسرائيل أيضا لتوقيع اتفاقيات لفصل القوات. ولكن انعقاد مؤتمر مدريد في نهاية أكتوبر1991 وضع أساسا للمفاوضات المباشرة بين الأطراف حيث يجلس الجميع وجها لوجه ويناقشون جدول الأعمال المعروف. العودة إلي المفاوضات غير المباشرة يعكس الحال التي وصلت إليها العلاقات العربية الإسرائيلية, والتدهور الذي جري لعملية التسوية ابتداء من الانتفاضة الفلسطينية الثانية حتي حرب غزة. وهي حالة يحاول الأمريكيون, تحت قيادة باراك أوباما هذه المرة, إنقاذها من الهوة التي وصلت إليها من خلال حركة جورج ميتشيل بين رام اللهوالقدسالغربية لعله يجد أرضية مشتركة وساعتها يمكن اللقاء المباشر. والإستراتيجية الفلسطينية هنا هي أن المفاوضات لا تبدأ من فراغ, وكما قال أبو مازن, فإن الجانبين حققا تقدما كبيرا خلال الفترة التي جرت فيها المفاوضات مع حكومة أولمرت/ليفني سواء علي جبهة الحدود أو في قضية القدس وكلها تقوم علي ما سبق الحديث عنه والتفاوض حوله في اجتماعات كامب دافيد2000, ومن بعدها ما عرف بمحددات كلينتون التي طرحها علي الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي في24 ديسمبر2000 قبل أن يعيد طرحها علنا في خطاب ألقاه في7 يناير2001 قبل خروجه من البيت الأبيض بأيام قليلة. الآن فإن الفلسطينيين والإسرائيليين سوف يعودون مرة أخري للمفاوضات غير المباشرة لفترة معلومة هي أربعة أشهر, بعدها وإذا ما جري اتفاق تبدأ المفاوضات المباشرة للتوصل إلي اتفاق وكل ذلك تحت الرعاية الأمريكية. الجديد هذه المرة هو أن الولاياتالمتحدة, وحلفاءها الأوروبيين سوف يعلنون موقفا إذا لم يتم التوصل إلي اتفاق, وأن الملف كله قد ينتقل إلي مجلس الأمن كما ترغب الجماعة العربية التي تراقب من خلال لجنة متابعة تنفيذ المبادرة العربية عملية المفاوضات. وجوهر الحل هو قيام دولة فلسطينية مستقلة وآمنة وفاعلة علي الأراضي الفلسطينيةالمحتلة عام1967 بعد الانسحاب الإسرائيلي منها في زمن معلوم, مع قيام ممر آمن لربط الأراضي الفلسطينية في غزة والضفة الغربية. وتقوم إسرائيل بضم المناطق الاستيطانية الثلاث الكبري, علي أن تعطي للجانب الفلسطيني ما يوازيها في المساحة والقيمة من الأراضي الإسرائيلية. أما في القدس فإن القاعدة الرئيسية فيها هي أن ما لليهود لليهود, وما للعرب للعرب, مع بقاء القدس مفتوحة للجميع من كل الأديان والثقافات. ويقع الخلاف الرئيسي بين الجانبين في أن الجانب الفلسطيني يقدر مساحة المستوطنات ب1.9% من الضفة الغربية بينما تقدرها إسرائيل ب6.5% محاولة أن تجعل الممر الآمن جزءا من عملية التبادل هذه. وبالطبع توجد خلافات أخري تتعلق باللاجئين والمياه, ولكنها كلها قابلة للحل, ولكن المعضلة الكبري تبدأ من حكومة نتنياهو التي تريد بدء القصة من أولها والتفاوض من جديد علي ما سبق التفاوض عليه. وفي غيبة خيارات أخري كما قال أبو مازن, فإن الفلسطينيين يواجهون الآن فرصة أخري, وهي كما هو الحال في كل الفرص تفتح نافذة لمستقبل آخر للقضية الفلسطينية كلها. هذه النافذة ليست فلسطينية فقط بل إنها عربية أيضا, فما يحتاجه العرب هو إحاطة الوفد الفلسطيني بما يعينه علي مفاوضات صعبة وفي الوقت نفسه تشجيع إسرائيل وأطراف أخري علي بدء المفاوضات علي الجبهة السورية أيضا. وإذا كان اللجوء إلي مجلس الأمن حال فشل المفاوضات أو خروجها عن مهمتها وطريقها يمثل العصا العربية التي تستعين بالمجتمع الدولي الذي يعلم الثمن الذي يدفعه نتيجة التعنت الإسرائيلي; فإن هناك الجزرة المتمثلة في المبادرة العربية التي تقول بالانسحاب مقابل العلاقات الطبيعية بين الدولة العبرية وكل العرب.[email protected] المزيد من مقالات د.عبد المنعم سعيد