المتابع لتاريخ الانسانية منذ البدايات الاولي لعصر النهضة الاوروبية الحديثة, التي يعد القرن السادس عشر الميلادي بداية عملية لها يلحظ ان الانتقال من عصر الاقطاع وحكم الطغاة المستبدين إلي عصر الدولة المدنية الحديثة بمؤسساتها السياسية والاجتماعية والقانونية لم يتحقق الابعد صراعات دموية دفعت الشعوب ثمنا باهظا في سبيل حصولها علي حقوقها الديمقراطية والاجتماعية, التي اصبحت في النهاية بمثابة عقد اجتماعي شكل كل ملامح الدولة الحديثة. لقد كان تاريخنا كله نتاجا طبيعيا لحكم المستبد الطاغية, وقد ازددنا قناعة ويقينا بعوامل تخلفنا حينما فقدنا انسانيتنا ووعينا بذاتنا وضيعنا آدميتنا وقتلنا في نفوسنا الخلق والابداع, واصبح المبدع الجاد ان وجد.. منحرفا,والمفكر الحقيقي.. شاذا ومنبوذا من الجماعة, وتاريخنا المعاصر فيه امثلة كثيرة لهؤلاء! ان ثمة اختلافات جوهرية بين الطاغية والمستبد, فالاخير غالبا يتفرد برأيه ويصر عليه, وقد يكون مخلصا في نواياه ومقاصده لكن علي الاعم لاتتحقق افكاره الوطنية, ولاتكلل اعماله الا بالخسران والهزائم اما الطاغية فهو يلجأ احيانا الي القوانين والشرائع, يضعها وفق هواه بقصد تزييف الواقع, ورغبة في ايقاع الهلاك بمخالفيه واحيانا مايلبس جرائمه ثوب العدل! الناس غالبا ماينهزمون نفسيا ولايعبرون حتي عن الامهم من حكم الطغاة, اتقاء لشر نقمتهم, لايهم ان يكون الطاغية رئيسا او ملكا, حيث تتمركز كل السلطات في يده, فلاقانون إلامايقول به, وغالبا مايصدر قوانين و تشريعات متضاربة تنعكس سلبا علي حياة الناس!لقد كان عبدالرحمن الكواكبي (1854 1902) علي وعي كامل بكل هموم العرب ومآسيهم, وكأنه يعيش بيننا, عالما بطبيعة المستبد,عارفا بالاعيب الطغاة, معتقدا بأن الخلاص من هذا كله هو طريق وعر طويل, لقد لخص فكرته الرائعة في كتابة الشهير طبائع الاستبداد الذي جاء بمثابة كلمة حق وصرخة في واد! وعلي الرغم من ان كتاب الكواكبي قد مضي علي صدوره قرن بالتمام والكمال, لكنه جاء بمثابة مرآة عاكسة لواقعنا المعاش, فقد تنبأ بثورات العرب, بعدأن فاض بهم الكيل من حكامهم, لذا اهدي الرجل كتابه الي الشباب, باعتبارهم حملة جذوة النار المقدسة (هوهدية مني للناشئة العربية المباركة الابية, المعقودة امال الامة علي نواصيها) وقد صدقت نبوءة الرجل,حينما هب الشباب في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن و سوريا, وراحت عروش المستبدين تترنح في كثير من البلاد العربية. ليس صحيحا أن ربيع الثورات العربية قادم من المجهول, فكتابات الرواد العرب من امثال رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وقاسم امين وفارس الشدياق وغيرهم, جميعها بمثابة ضوء أنار لنا طريق المستقبل! لقد تنبه الكواكبي الي خطورة الاستبداد باسم الدين,لان الدين في مفهوم المستبد هو مايقول به الفقهاء الذين جعلوا طاعة ولي الامر قضية دينية خالصة, بينما يبغض المستبد النابهين في علوم الحياة والمستقبل, الذين يسعون الي تنوير العقول واشاعة المعرفة, بمعناها الانساني والاجتماعي والقانوني. كان ابن خلدون قد سبق كل المفكرين العرب حينما تحدث عن العمران وخراب الدول, ووصله لنتائج مؤكدة من قبيل العدل أساس العمران والظلم مؤذن بخراب العمران, مؤكدا ان الاستبداد خطر علي الحياة برمتها, لأنه مؤذن بانقطاع النوع البشري! ليس من قبيل المصادفة أن الدول الديمقراطية ذات المؤسسات القانونية والدستورية هي لتي قطعت شوطا كبيرا في التقدم والرقي, حيث تستهدف النهوض بالمجتمع, كل المجتمع.. صناعة.. وثقافة.. ووعيا.. إلخ, بينما المجتمعات التي عاشت في ظل حكم مستبد ستسلم الناس فيها الي الهوان, أو وفق مقولة المؤرخ التونسي الشهيرأحمد بن أبي الضياف (عبيد الجباية) حيث يتحول الناس الي هوام, يعيشون في أوطانهم أجسادا بلا روح, مما يدفعهم غالبا الي تصرفات بائسة, أقلها خطرا عزوفهم عن المشاركة الإيجابية في بناء أوطانهم. لم تكن الثورات العربية مع مطلع هذا العام مجرد انتفاضات, بسبب تدني مستوي لمعيشة فقط, ولابتهميش الشعوب, وإنما بسبب الوعي الجمعي الذي أحدثته تكنولوجيا المعلومات وثورة الاتصالات وعي شعر معه الشباب بأهميتهم, بينما راحت الأنظمة تسعي جاهدة الي المطاردة والتضييق علي الحريات العامة, لكن الزمن كان قد ولي الي غير رجعة والحكام قابعون خلف وسائلهم البالية لقد توصل الكواكبي الي نفس النتيجةالتي سبق اليها ابن خلدون الظلم لا يفسد الحياة فحسب, بل يعطلها ويبددها. المستبدون في عالمنا المعاصر يحيطون أنفسهم غالبا بجيوش مجيشة من المستبدين الصغار في شتي مناحي الحياة, أخطرهم بطانة المثقفين فهم سدنة الاستبداد وخدامه في كل الأزمنة, والكواكبي لايدين هؤلاء فقط, بل يخرجهممن دائرة لمثقفين ويرمي بهم في دائرة الجهال والخبثاء والمرائين! اللافت للنظر أن الثورات الكبري في العالم قادها ونظر لها المثقفون الجادون, بينما في عالمنا العربي كان بعض المثقفين يتفانون في خدمة المستبد, يزينون له كل شطط, وحينما هبت الثورات الربيعية لبس هؤلاء لبوس الثوار, وخرجوا علينا منظرين مناضلين, ولم يتورع البعض من أن يستخرج من كتاباته السابقة كلاما منزوعا من سياقه دليلا علي نبوته الثورية, ونقائه الوطني! لقد كان الكواكبي علي معرفة بحقيقة هؤلاء وغيرهم, لذا عول علي الشباب الذين ناشدهم: أناشدكم يانشئة الأوطان حماكم الله من السوء أود لوشيدتم قصور فخاركم علي الهمم ومكارم الأخلاق, تأكدوا أنكم خلقتم أحرارا لتموتوا أحرارا.