في «أمام العرش»، يقدم نجيب محفوظ مجموعة حوارات مع أبرز حكام وزعماء مصر، من الملك مينا حتي الرئيس السادات، ثم يستخلص الكاتب الكبير مجموعة من الوصايا التي تبلور في مجموعها برنامجا متكاملا لمشروع النهضة الوطنية المنشودة. بعد أن تنتهي الحوارات - المحاكمات، يقلب أوزوريس عينيه في الخالدين الذين ظفروا بالنجاة، ويقول لهم: «ها هي حياة مصر قد عُرضت عليكم بكل أفراحها وأحزانها، قد وحدها مينا حتي استردت استقلالها علي يد السادات، فلعل لبعضكم رؤية يريد أن ينوه بها؟». الرؤي العشر المقدمة بمثابة عصير الحكمة وخلاصة التجربة، ولا سبيل إلي الإفادة من دروس الماضي، قريبة وبعيدة، حلوة ومرة، انتصاراته وانكساراته، إلا عبر التوقف أمام وصايا كالتي يقدمها الكاتب النجيب، علي ألسنة أفذاذ صنعوا التاريخ المصري، واجتهدوا فأصابوا وأخطأوا. - التوحيد والوحدة البداية مع إخناتون: «أدعو للاستمساك بعبادة الإله الواحد باعتباره المعني والخلود والتحرر من أي عبودية أرضية» للدين خصوصيته وخطورته وجلاله في الحياة المصرية، ومما يتسم به المصريون في كل العصور، ومع تنوع وتباين الدين السائد الذي تعتنقه الأغلبية، هو ذلك الحرص الأصيل علي الإيمان بالله الواحد، ويتوافق هذا التوجه مع المعطي الحضاري والتشبث بفكرتي الضمير والخلود. المسألة هنا لا تتعلق بالإسلام والمسيحية وحدهما، لكنها في مبدأ العقيدة الدينية وضرورتها، الصراعات الساخنة التي تدور الآن حول مدنية الدولة أو دينيتها، تتغافل عن حقيقة لا ينبغي إنكارها أو إهمالها، ونعني بذلك أن عتاة الحريصين علي الدولة الديمقراطية المصرية لا يتنكرون لأهمية الدين، ولا يجادلون في أنه أداة فعالة لتحرر الإنسان من لعنة دول العبودية الرخيصة للبشر، وصولا إلي الخلاص الروحي الذي يحقق الانسجام والصفاء. وصية نجيب محفوظ الأولي هي الإعلاء من شأن الدين والتمسك به، أما الوصية الثانية، التي يطرحها الملك مينا، فهي: «الحرص علي وحدة الأرض والشعب، فالنكسة لا تجيء إلا نتيجة لخلل يصيب هذه الوحدة». قد يكون الحديث عن وحدة الشعب شائعًا معروفًا متفقًا عليه بين ملايين المصريين الذين يذوبون حبًا في وطنهم، لكن وحدة الأرض لا تقل أهمية، النوبة جزء أصيل من النسيج المصري عبر حلقات التاريخ الممتد، وشبه جزيرة سيناء لا تختلف عن القاهرة والصعيد والدلتا. ما أعظم الاحتياج لاستيعاب نصيحة مينا، والتركيز علي ترسيخ وحدة الأرض التي تُحاك المؤامرات لتفتيتها وزرع الفتن والقلاقل فيها. لا تقتصر وحدة مصر المنشودة علي الائتلاف الضروري الحتمي بين المصري المسلم والمصري المسيحي، لكنها تمتد إلي الأرض التي يعيشون فوقها، ويُدفنون تحت ثراها. - العمل والعلم يتطرق الملك خوفو في وصيته إلي منحي مختلف ذي أساس مادي عملي: «علي مصر أن تؤمن بالعمل، به شيدت الهرم، وبه تواصل البناء». العمل قيمة مقدسة سامية مهملة في مصر المعاصرة، والمثير للدهشة أننا نفاخر بالأمجاد الشامخة التي شيدها العاملون من أجدادنا القدماء، لكننا لا نحتذي بهم ونعمل لنضيف للهرم الذي شيده خوفو رمز يتحدي الزمن، وينهض دليلا عمليا علي الإصرار وبراعة التنظيم، ولا ينبغي أن نقنع به منصرفين عن تشييد مزيداَ من الأهرامات التي تليق بالعصر: مصانع وشركات ومؤسسات إنتاجية. لن تتحقق النهضة المصرية بمعزل عن العمل الجاد المنظم المتقن، فضلا عن التوازن العقلاني الرشيد بين الحقوق والواجبات، ذلك أن الشائع الآن هو الإسراف السفيه في المطالبة بحقوق لا نهائية، والقصور المشين في الالتزام بالحد الأدني من الواجبات. لا عمل بلا علم، ومن هنا تأتي الوصية الرابعة علي لسان إمحتب وزير الملك زوسر: «وأن تؤمن بالعلم فهو القوة وراء خلودها». الخلود الذي صنعه المصريون ليس روحيا معنويا ينتسب إلي المعابد، فالآثار المادية التي تتحدي الزمن وليدة علم رائد سبقنا به في شتي المجالات: الهندسة والطب والكيمياء، والفلك، والجغرافيا. النظام التعليمي المصري يحتاج إلي زلزال يطيح بالفاسد المترهل من قواعده، وعلي النظام السياسي الجديد أن يدفع بالعلماء إلي الصف الأول، فيتحملون مسئولية بناء النهضة، بالتخطيط الواعي والتنفيذ الرشيد، والمتابعة الجادة. لا ينبغي لطموح في بناء مصر الجديدة القوية أن يتوقف عند الشعارات السياسية، فليس بالسياسة وحدها يعيش الإنسان! - الثقافة والتحديث يدلي الحكيم بتاح حتب بدلوه: «وأن تؤمن بالحكمة والأدب لتنعم بنضارة الحياة وتنهل من رحيقها». بالعلم والعمل يشيد الإنسان مملكته المادية، لكن العظمة الشاملة لا تكتمل إلا بالثقافة الإنسانية الرفيعة، منتجة الأدب والشعر والموسيقي والباليه والنحت والفن التشكيلي والمسرح والسينما والعمارة. ليس مثل مصر في الثروة الإبداعية التي تمتلكها، ففي كل قرية ونجع وشارع وحارة وزقاق، مواهب متألقة تبشر بالكثير، لكن الوجه الآخر السلبي يتمثل في الإجهاض المبكر الذي لا يصل بالجنين الواعد إلي مرحلة النضج والاكتمال. الخطر الداهم الذي نواجهه الآن هو ارتفاع الأصوات المعبرة عن اتجاهات رجعية متخلفة، تحرِّم الثقافة وتجرِّمها، وتدعو إلي قيم الجاهلية والبداوة والعصور الوسطي. التحديث مطلب ثوري ملح، والإمساك بجذوة الثورة يتجسد في كلمات يضعها نجيب محفوظ علي لسان الثائر أبنوم، صاحب الوصية السادسة: «وأن تؤمن بالشعب والثورة لتطرد مسيرتها نحو الكمال». لا يحق لاتجاه سياسي وفكري بعينه أن يحتكر الحديث باسم الشعب ويصادر علي مستقبله، فالشعب هو صاحب المصلحة في التطلع إلي الكمال والتقدم، والمسلح بوعي يمتزج فيه الموروث والمستحدث للبسطاء من أبناء الشعب ثقافتهم التي لا تحتاج إلي راكبي الموجة وسارقي الإنجاز، ولا شك أن الساحة المصرية تشهد الآن حراكا سيقود الفرز والإضاءة، فيعرف المصريون من يؤمن بهم وينتمي إليهم، ومن يكفر ولا ينتمي. - القوة والديمقراطية يمثل الملك تحتمس الثالث رمزا من رموز القوة الخارقة في التاريخ المصري، وينعكس ذلك علي الوصية التي يقدمها: «وأن تؤمن بالقوة التي لا تتحقق حتي تلتحم بجيرانها». الجيش القوي ضمانة للحفاظ علي النهضة المأمولة وتطويرها، ومن البديهي أن مثل هذه القوة لا تستهدف البطش والعدوان، ولا تراود الاستعمار والتوسع. الجيش القوي المتماسك المنضبط أداة دفاعية لا غني عنها، فالمخاطر المحيطة بمصر ظاهرة للعيان، والقوي الإقليمية التي تبحث عن مصالحها معروفة للجميع، ولن يتورع هؤلاء عن السعي إلي الانتقاص من سيادة مصر إذا سنحت لهم الفرصة المواتية، المؤسسة العسكرية المصرية هي صاحبة هذا الملف، شريطة أن تبتعد عن الحكم والصراع السياسي، فلا ينبغي للجيش أن يتورط فيما يؤثر علي قوته وتماسكه، وإذا اقتضت الظروف أن يتدخل، فليكن الأمر استثنائيا مؤقتًا، حتي يستتب الأمن وتعود الحياة إلي إيقاعها المألوف. لمن السلطة والسيادة؟ إنها للشعب وحده دون شريك، وهكذا تأتي الوصية الثامنة لسعد زغلول، حيث التأكيد الواضح علي أن الديمقراطية هي السبيل الوحيد الذي لا تراجع عنه: «وأن يكون الحكم فيها من الشعب بالشعب من أجل الشعب». يقترن اسم الزعيم الخالد سعد زغلول بالثورة الشعبية الأعظم في تاريخ مصر الحديث، وجوهر هذه الثورة هو مراودة الحكم الشعبي: الديمقراطية والدستور وحرية الفكر ودولة القانون، خاضت مصر تجربة ليبرالية منقوصة خلال ثلث قرن تقريبا، ثم تراجعت واتخذت مسارا مختلفا، ودفعت ثمنا فادحا للتراجع أليست العودة إلي الدرب الصحيح هي الاختيار الذي لا ينبغي أن يثور حوله خلاف أو جدال؟ لتكن الأمة دائما فوق الحكومة، وليكن الشعب دائما هو المصدر الأول والوحيد للتشريع والسلطة. لا تحتاج مصر إلي مستبد عادل يزعم أنه الأب الحنون، فالمستبد لا يمكن أن يكون عادلا. الاحتياج الحقيقي إلي النظام الديمقراطي القائم علي المؤسسات، وبمعزل عن هذا لن توجد نهضة أو تقدم. - العدالة الاجتماعية والسلام الزعيم جمال عبدالناصر هو من يقدم الوصية التاسعة: «وأن تقوم العلاقات بين الناس علي أساس العدالة الاجتماعية المطلقة». العدالة الاجتماعية ليست شعارا سياسيا تحتكره أيديولوجية بعينها، فالنظام السياسي الرشيد لا مهرب له من الحرص علي تحقيق الحد الأدني من احتياجات المواطنين، وفي الدول الرأسمالية العريقة نجد هذا المبدأ ساريا ومحترما، فالمواطن دافع الضرائب يحق له الحصول علي الخدمات الضرورية، في مجالات التعليم والعمل والعلاج والإسكان والمواصلات والترفيه. لا سبيل إلي هذا كله إلا بالتوازن الطبقي، ومحاربة الفساد، والحرص علي الشفافية، والمساواة أمام القانون. لقد اجتهد الرئيس عبدالناصر وأحب مصر والمصريين علي طريقته، ثم جاء السادات وأعاد النظر في الكثير من السياسات والتوجهات، وها هو يقدم الوصية العاشرة والأخيرة، في ختام الحوارات التي يقدمها نجيب محفوظ: «وأن يكون هدفها الحضارة والسلام». الحرب ليست هدفا أو غاية، والهدف الأسمي للشعوب المتحضرة هو تجنب الحروب والتفرغ للبناء. الحضارة والسلام مفهومان متداخلان متكاملان، ومصر الجديدة تحتاج إلي الاستقرار والبحث عن آفاق المستقبل الذي يعيد إليها وجهها المشرق المضيء، فهي بتعبير إيزيس: «منارة للهدي والجمال». -- مائة عام علي ميلاد نجيب محفوظ، وخمس سنوات بعد رحيله، لكنه حاضر بحكمته ووصاياه، بمصريته الجميلة الجليلة. يليق بنا أن نسمع ونصغي، وليتنا نقاوم لعنة النسيان.