محمد صبحى: تقدم الجامعات المصرية بالتصنيفات الدولية بلورة لتوجيهات القيادة السياسية    وزير الصحة يفتتح الدورة التدريبية عن «الإدارة المعاصرة»    مسابقة 18 ألف معلم 2025.. اعرف شروط وخطوات التقديم    أصول البنك المركزي المصري تقترب من 6 تريليونات جنيه بنهاية أبريل    هيئة الاستشعار عن بُعد تستقبل وفدا صينيا لتعزيز التعاون في مجال بيانات الأقمار الصناعية    محمد الباز: مصر تحملت ما لا يتحمله بشر فى إدارة مفاوضات صفقة الرهائن    أحمد أيوب ل"هذا الصباح": ثبات موقف مصر تجاه فلسطين أقوى رد على أكاذيب إسرائيل    البطل التاريخي.. 6 مباريات رسمت طريق مانشستر سيتي نحو لقب الدوري الإنجليزي    موعد نتيجة الشهادة الإعدادية 2024 بورسعيد    الشركات توقفت عن إنتاج ألف صنف دوائي والمرضى لا يجدون العلاج في زمن الانقلاب    تطهير شبكات ومواسير المياه بقرية الأبطال في الإسماعيلية    العمل تنظم فعاليات "سلامتك تهمنا" بالمنشآت الحكومية في المنيا    «المالية»: نصف مليار جنيه تمويلًا إضافيًا لدعم سداد أجورالعاملين بالصناديق والحسابات الخاصة بالمحافظات    عاجل| مصدر رفيع المستوى يستنكر تعمد الإساءة إلى الجهود المصرية لوقف النار بغزة    باحثة سياسية: دور أمريكا أساسي لترسيخ الاعتراف بالدولة الفلسطينية    مصدر مصري رفيع المستوى يستنكر الاتهامات المغرضة للأطراف الوسيطة في أزمة غزة    رئيس الوزراء: برامج التعاون مع البنك الدولي تستهدف دعم القطاع الخاص    عاجل..توني كروس أسطورة ريال مدريد يعلن اعتزاله بعد يورو 2024    "لحصد المزيد من البطولات".. ليفاندوفسكي يعلن البقاء في برشلونة الموسم القادم    هاني شكري: الكاف المسؤول عن تنظيم نهائي الكونفدرالية ونتمنى فوز الأهلي بدوري الأبطال    البنوك الرقمية تُحدث نقلة نوعية في القطاع المصرفي المصري    تأجيل محاكمة طبيب نساء شهير وآخرين بتهمة إجراء عملية إجهاض بالجيزة    المشدد 7 سنوات للمتهم بقتل ابن زوجته بالقليوبية    ترقب المصريين لموعد إجازة عيد الأضحى 2024: أهمية العيد في الحياة الثقافية والاجتماعية    انتقاما من والده.. حبس المتهمين بإجبار شاب على توقيع إيصالات أمانة بالمقطم    المتحف القومي للحضارة يحتفل باليوم العالمي للمتاحف    أدعية الحر.. رددها حتى نهاية الموجة الحارة    كيفية الحفاظ على كفاءة التكييف في فصل الصيف    افتتاح ورشة "تأثير تغير المناخ على الأمراض المعدية" في شرم الشيخ    غادة عبد الرازق تعود للسينما بعد 6 سنوات غياب، ما القصة؟    «مواني البحر الأحمر»: تصدير 27 ألف طن فوسفات من ميناء سفاجا ووصول 742 سيارة لميناء بورتوفيق    جوارديولا: أود مشاركة جائزة أفضل مدرب بالدوري الإنجليزي مع أرتيتا وكلوب    تريزيجيه جاهز للمشاركة في نهائي كأس تركيا    لمواليد برج القوس.. اعرف حظك في الأسبوع الأخير من شهر مايو 2024    بروتوكول تعاون بين نقابة السينمائيين واتحاد الفنانين العرب و"الغردقة لسينما الشباب"    « وتر حساس » يعيد صبا مبارك للتليفزيون    الأزهر يطلق صفحة مستقلة بفيس بوك لوحدة بيان لمواجهة الإلحاد والفكر اللادينى    فدوى مواهب تخرج عن صمتها وترد على حملات المهاجمين    الأكبر سنا والمربع السكني.. قرارات هامة من «التعليم» قبل التقديم للصف الأول الابتدائي 2024    بإجمالي 37.3 مليار جنيه.. هيئة قناة السويس تكشف ل«خطة النواب» تفاصيل موازنتها الجديدة    الصحة: برنامج تدريبي لأعضاء إدارات الحوكمة في مديريات الشئون الصحية ب6 محافظات    لمدة يومين.. انطلاق قافلة طبية إلى منطقة أبوغليلة بمطروح    حفظ التحقيقات حول وفاة طفلة إثر سقوطها من علو بأوسيم    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الأربعاء 22-5-2024 في المنيا    تعديلات جديدة على قانون الفصل بسبب تعاطي المخدرات    صدمه القطار.. مصرع تلميذ أثناء عبوره «السكة الحديد» بسوهاج    رئيس جهاز مدينة 6 أكتوبر يتابع أعمال التطوير بالقطاعين الشرقي والشمالي    سيدة «المغربلين»    هكذا تظهر دنيا سمير غانم في فيلم "روكي الغلابة"    طلاب جامعة القاهرة يحصدون المركزين المتميز والأول فى مسابقة جسر اللغة الصينية    5 نصائح غذائية للطلاب خلال فترة الامتحانات من استشارية التغذية    دبلوماسي سابق: الإدارة الأمريكية تواطأت مع إسرائيل وتخطت قواعد العمل الدبلوماسي    رئيس نادي إنبي يكشف حقيقة انتقال محمد حمدي للأهلي    قرار جديد من الاتحاد الإفريقي بشأن نهائي أبطال إفريقيا    مأساة غزة.. استشهاد 10 فلسطينيين في قصف تجمع لنازحين وسط القطاع    هل تقبل الأضحية من شخص عليه ديون؟ أمين الفتوى يجيب    الحكومة العراقية تطالب بإنهاء بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق «يونامي»    هل ملامسة الكلب تنقض الوضوء؟ أمين الفتوى يحسم الجدل (فيديو)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وصايا نجيب محفوظ العشر لحكام مصر

في «أمام العرش»، يقدم نجيب محفوظ مجموعة حوارات مع أبرز حكام وزعماء مصر، من الملك مينا حتي الرئيس السادات، ثم يستخلص الكاتب الكبير مجموعة من الوصايا التي تبلور في مجموعها برنامجا متكاملا لمشروع النهضة الوطنية المنشودة.
بعد أن تنتهي الحوارات - المحاكمات، يقلب أوزوريس عينيه في الخالدين الذين ظفروا بالنجاة، ويقول لهم: «ها هي حياة مصر قد عُرضت عليكم بكل أفراحها وأحزانها، قد وحدها مينا حتي استردت استقلالها علي يد السادات، فلعل لبعضكم رؤية يريد أن ينوه بها؟».
الرؤي العشر المقدمة بمثابة عصير الحكمة وخلاصة التجربة، ولا سبيل إلي الإفادة من دروس الماضي، قريبة وبعيدة، حلوة ومرة، انتصاراته وانكساراته، إلا عبر التوقف أمام وصايا كالتي يقدمها الكاتب النجيب، علي ألسنة أفذاذ صنعوا التاريخ المصري، واجتهدوا فأصابوا وأخطأوا.
- التوحيد والوحدة
البداية مع إخناتون: «أدعو للاستمساك بعبادة الإله الواحد باعتباره المعني والخلود والتحرر من أي عبودية أرضية» للدين خصوصيته وخطورته وجلاله في الحياة المصرية، ومما يتسم به المصريون في كل العصور، ومع تنوع وتباين الدين السائد الذي تعتنقه الأغلبية، هو ذلك الحرص الأصيل علي الإيمان بالله الواحد، ويتوافق هذا التوجه مع المعطي الحضاري والتشبث بفكرتي الضمير والخلود.
المسألة هنا لا تتعلق بالإسلام والمسيحية وحدهما، لكنها في مبدأ العقيدة الدينية وضرورتها، الصراعات الساخنة التي تدور الآن حول مدنية الدولة أو دينيتها، تتغافل عن حقيقة لا ينبغي إنكارها أو إهمالها، ونعني بذلك أن عتاة الحريصين علي الدولة الديمقراطية المصرية لا يتنكرون لأهمية الدين، ولا يجادلون في أنه أداة فعالة لتحرر الإنسان من لعنة دول العبودية الرخيصة للبشر، وصولا إلي الخلاص الروحي الذي يحقق الانسجام والصفاء.
وصية نجيب محفوظ الأولي هي الإعلاء من شأن الدين والتمسك به، أما الوصية الثانية، التي يطرحها الملك مينا، فهي: «الحرص علي وحدة الأرض والشعب، فالنكسة لا تجيء إلا نتيجة لخلل يصيب هذه الوحدة».
قد يكون الحديث عن وحدة الشعب شائعًا معروفًا متفقًا عليه بين ملايين المصريين الذين يذوبون حبًا في وطنهم، لكن وحدة الأرض لا تقل أهمية، النوبة جزء أصيل من النسيج المصري عبر حلقات التاريخ الممتد، وشبه جزيرة سيناء لا تختلف عن القاهرة والصعيد والدلتا.
ما أعظم الاحتياج لاستيعاب نصيحة مينا، والتركيز علي ترسيخ وحدة الأرض التي تُحاك المؤامرات لتفتيتها وزرع الفتن والقلاقل فيها. لا تقتصر وحدة مصر المنشودة علي الائتلاف الضروري الحتمي بين المصري المسلم والمصري المسيحي، لكنها تمتد إلي الأرض التي يعيشون فوقها، ويُدفنون تحت ثراها.
- العمل والعلم
يتطرق الملك خوفو في وصيته إلي منحي مختلف ذي أساس مادي عملي: «علي مصر أن تؤمن بالعمل، به شيدت الهرم، وبه تواصل البناء».
العمل قيمة مقدسة سامية مهملة في مصر المعاصرة، والمثير للدهشة أننا نفاخر بالأمجاد الشامخة التي شيدها العاملون من أجدادنا القدماء، لكننا لا نحتذي بهم ونعمل لنضيف للهرم الذي شيده خوفو رمز يتحدي الزمن، وينهض دليلا عمليا علي الإصرار وبراعة التنظيم، ولا ينبغي أن نقنع به منصرفين عن تشييد مزيداَ من الأهرامات التي تليق بالعصر: مصانع وشركات ومؤسسات إنتاجية.
لن تتحقق النهضة المصرية بمعزل عن العمل الجاد المنظم المتقن، فضلا عن التوازن العقلاني الرشيد بين الحقوق والواجبات، ذلك أن الشائع الآن هو الإسراف السفيه في المطالبة بحقوق لا نهائية، والقصور المشين في الالتزام بالحد الأدني من الواجبات.
لا عمل بلا علم، ومن هنا تأتي الوصية الرابعة علي لسان إمحتب وزير الملك زوسر: «وأن تؤمن بالعلم فهو القوة وراء خلودها».
الخلود الذي صنعه المصريون ليس روحيا معنويا ينتسب إلي المعابد، فالآثار المادية التي تتحدي الزمن وليدة علم رائد سبقنا به في شتي المجالات: الهندسة والطب والكيمياء، والفلك، والجغرافيا. النظام التعليمي المصري يحتاج إلي زلزال يطيح بالفاسد المترهل من قواعده، وعلي النظام السياسي الجديد أن يدفع بالعلماء إلي الصف الأول، فيتحملون مسئولية بناء النهضة، بالتخطيط الواعي والتنفيذ الرشيد، والمتابعة الجادة. لا ينبغي لطموح في بناء مصر الجديدة القوية أن يتوقف عند الشعارات السياسية، فليس بالسياسة وحدها يعيش الإنسان!
- الثقافة والتحديث
يدلي الحكيم بتاح حتب بدلوه: «وأن تؤمن بالحكمة والأدب لتنعم بنضارة الحياة وتنهل من رحيقها».
بالعلم والعمل يشيد الإنسان مملكته المادية، لكن العظمة الشاملة لا تكتمل إلا بالثقافة الإنسانية الرفيعة، منتجة الأدب والشعر والموسيقي والباليه والنحت والفن التشكيلي والمسرح والسينما والعمارة. ليس مثل مصر في الثروة الإبداعية التي تمتلكها، ففي كل قرية ونجع وشارع وحارة وزقاق، مواهب متألقة تبشر بالكثير، لكن الوجه الآخر السلبي يتمثل في الإجهاض المبكر الذي لا يصل بالجنين الواعد إلي مرحلة النضج والاكتمال.
الخطر الداهم الذي نواجهه الآن هو ارتفاع الأصوات المعبرة عن اتجاهات رجعية متخلفة، تحرِّم الثقافة وتجرِّمها، وتدعو إلي قيم الجاهلية والبداوة والعصور الوسطي.
التحديث مطلب ثوري ملح، والإمساك بجذوة الثورة يتجسد في كلمات يضعها نجيب محفوظ علي لسان الثائر أبنوم، صاحب الوصية السادسة: «وأن تؤمن بالشعب والثورة لتطرد مسيرتها نحو الكمال».
لا يحق لاتجاه سياسي وفكري بعينه أن يحتكر الحديث باسم الشعب ويصادر علي مستقبله، فالشعب هو صاحب المصلحة في التطلع إلي الكمال والتقدم، والمسلح بوعي يمتزج فيه الموروث والمستحدث للبسطاء من أبناء الشعب ثقافتهم التي لا تحتاج إلي راكبي الموجة وسارقي الإنجاز، ولا شك أن الساحة المصرية تشهد الآن حراكا سيقود الفرز والإضاءة، فيعرف المصريون من يؤمن بهم وينتمي إليهم، ومن يكفر ولا ينتمي.
- القوة والديمقراطية
يمثل الملك تحتمس الثالث رمزا من رموز القوة الخارقة في التاريخ المصري، وينعكس ذلك علي الوصية التي يقدمها: «وأن تؤمن بالقوة التي لا تتحقق حتي تلتحم بجيرانها».
الجيش القوي ضمانة للحفاظ علي النهضة المأمولة وتطويرها، ومن البديهي أن مثل هذه القوة لا تستهدف البطش والعدوان، ولا تراود الاستعمار والتوسع. الجيش القوي المتماسك المنضبط أداة دفاعية لا غني عنها، فالمخاطر المحيطة بمصر ظاهرة للعيان، والقوي الإقليمية التي تبحث عن مصالحها معروفة للجميع، ولن يتورع هؤلاء عن السعي إلي الانتقاص من سيادة مصر إذا سنحت لهم الفرصة المواتية، المؤسسة العسكرية المصرية هي صاحبة هذا الملف، شريطة أن تبتعد عن الحكم والصراع السياسي، فلا ينبغي للجيش أن يتورط فيما يؤثر علي قوته وتماسكه، وإذا اقتضت الظروف أن يتدخل، فليكن الأمر استثنائيا مؤقتًا، حتي يستتب الأمن وتعود الحياة إلي إيقاعها المألوف.
لمن السلطة والسيادة؟ إنها للشعب وحده دون شريك، وهكذا تأتي الوصية الثامنة لسعد زغلول، حيث التأكيد الواضح علي أن الديمقراطية هي السبيل الوحيد الذي لا تراجع عنه: «وأن يكون الحكم فيها من الشعب بالشعب من أجل الشعب».
يقترن اسم الزعيم الخالد سعد زغلول بالثورة الشعبية الأعظم في تاريخ مصر الحديث، وجوهر هذه الثورة هو مراودة الحكم الشعبي: الديمقراطية والدستور وحرية الفكر ودولة القانون، خاضت مصر تجربة ليبرالية منقوصة خلال ثلث قرن تقريبا، ثم تراجعت واتخذت مسارا مختلفا، ودفعت ثمنا فادحا للتراجع أليست العودة إلي الدرب الصحيح هي الاختيار الذي لا ينبغي أن يثور حوله خلاف أو جدال؟
لتكن الأمة دائما فوق الحكومة، وليكن الشعب دائما هو المصدر الأول والوحيد للتشريع والسلطة.
لا تحتاج مصر إلي مستبد عادل يزعم أنه الأب الحنون، فالمستبد لا يمكن أن يكون عادلا. الاحتياج الحقيقي إلي النظام الديمقراطي القائم علي المؤسسات، وبمعزل عن هذا لن توجد نهضة أو تقدم.
- العدالة الاجتماعية والسلام
الزعيم جمال عبدالناصر هو من يقدم الوصية التاسعة: «وأن تقوم العلاقات بين الناس علي أساس العدالة الاجتماعية المطلقة».
العدالة الاجتماعية ليست شعارا سياسيا تحتكره أيديولوجية بعينها، فالنظام السياسي الرشيد لا مهرب له من الحرص علي تحقيق الحد الأدني من احتياجات المواطنين، وفي الدول الرأسمالية العريقة نجد هذا المبدأ ساريا ومحترما، فالمواطن دافع الضرائب يحق له الحصول علي الخدمات الضرورية، في مجالات التعليم والعمل والعلاج والإسكان والمواصلات والترفيه. لا سبيل إلي هذا كله إلا بالتوازن الطبقي، ومحاربة الفساد، والحرص علي الشفافية، والمساواة أمام القانون.
لقد اجتهد الرئيس عبدالناصر وأحب مصر والمصريين علي طريقته، ثم جاء السادات وأعاد النظر في الكثير من السياسات والتوجهات، وها هو يقدم الوصية العاشرة والأخيرة، في ختام الحوارات التي يقدمها نجيب محفوظ: «وأن يكون هدفها الحضارة والسلام».
الحرب ليست هدفا أو غاية، والهدف الأسمي للشعوب المتحضرة هو تجنب الحروب والتفرغ للبناء. الحضارة والسلام مفهومان متداخلان متكاملان، ومصر الجديدة تحتاج إلي الاستقرار والبحث عن آفاق المستقبل الذي يعيد إليها وجهها المشرق المضيء، فهي بتعبير إيزيس: «منارة للهدي والجمال».
--
مائة عام علي ميلاد نجيب محفوظ، وخمس سنوات بعد رحيله، لكنه حاضر بحكمته ووصاياه، بمصريته الجميلة الجليلة. يليق بنا أن نسمع ونصغي، وليتنا نقاوم لعنة النسيان.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.