ارتفاع أسعار النفط وسط توقعات بإعادة ملء الاحتياطي الإستراتيجي الأمريكي    متى تصبح العمليات العسكرية جرائم حرب؟.. خبير قانوني يجيب    «البنتاجون»: أوستن أكد لنظيره الإسرائيلي ضرورة ضمان تدفق المساعدات إلى غزة    «الأرصاد» تكشف موعد انتهاء رياح الخماسين.. احذر مخاطرها    عاجل.. تعطيل الدراسة بالسعودية وعمان وتحذيرات بالإمارات واليمن بسبب الطقس    أول ظهور ل أحمد السقا وزوجته مها الصغير بعد شائعة انفصالهما    بتهمة التحريض على الفسق والفجور.. القبض على حليمة بولند وترحيلها للسجن    طريقة عمل الآيس كريم بالبسكويت والموز.. «خلي أولادك يفرحوا»    جامعة إيرانية تقدم منح دراسية لطلاب وأساتذة جامعات أمريكا وأوروبا المطرودين بسبب الاحتجاجات    بشرى سارة لجماهير الزمالك بشأن نجم الفريق    ملف رياضة مصراوي.. فوز الأهلي.. قائمة الزمالك.. وتصريحات كولر    حسن مصطفى: كولر يظلم بعض لاعبي الأهلي لحساب آخرين..والإسماعيلي يعاني من نقص الخبرات    وفاة الفنانة حسنة البشارية عن عمر ناهز ال 74 عاما    مسلسل البيت بيتي الجزء الثاني يواصل تصدره التريند بعد عرض الحلقة ال 3 و4    الصليبي يبعد نجم برشلونة عن الملاعب حتى 2025    بعد تثبيت الفائدة بالفيدرالى الأمريكي..سعر الذهب اليوم وعيار 21 الآن الخميس 2 مايو 2024    لاعب الزمالك السابق: إمام عاشور يشبه حازم إمام ويستطيع أن يصبح الأفضل في إفريقيا    سعر الموز والخوخ والفاكهة بالأسواق اليوم الخميس 2 مايو 2024    مُهلة جديدة لسيارات المصريين بالخارج.. ما هي الفئات المستحقة؟    عاطل ينهي حياته شنقًا لمروره بأزمة نفسية في المنيرة الغربية    قوات الاحتلال تعتقل شابًا فلسطينيًا بعد اقتحام منزله في مخيم الجلزون شمال رام الله    واشنطن: العقوبات الأمريكية الجديدة ضد روسيا تهدف إلى تقويض إنتاج الطاقة لديها    كيف يؤثر الذكاء الاصطناعي في الموارد البشرية؟    احذر الغرامة.. آخر موعد لسداد فاتورة أبريل 2024 للتليفون الأرضي    هاجر الشرنوبي تُحيي ذكرى ميلاد والدها وتوجه له رسالة مؤثرة.. ماذا قالت؟    عميد أصول الدين: المؤمن لا يكون عاطلا عن العمل    بشروط ميسرة.. دون اعتماد جهة عملك ودون تحويل راتبك استلم تمويلك فورى    هذه وصفات طريقة عمل كيكة البراوني    أهمية ممارسة الرياضة في فصل الصيف وخلال الأجواء الحارة    "ديربي إنجليزي والزمالك".. جدول مباريات اليوم والقنوات الناقلة    هل يستحق ربيعة الطرد؟.. حكم دولي يفجر مفاجأة بشأن صحة ركلة جزاء الإسماعيلي أمام الأهلي    صندوق مكافحة الإدمان: 14 % من دراما 2024 عرضت أضرار التعاطي وأثره على الفرد والمجتمع    مواقيت الصلاة اليوم الخميس 2 مايو في محافظات مصر    ترابط بين اللغتين البلوشية والعربية.. ندوة حول «جسر الخطاب الحضاري والحوار الفكري»    حكم دفع الزكاة لشراء أدوية للمرضى الفقراء    مظهر شاهين: تقبيل حسام موافي يد "أبوالعنين" لا يتعارض مع الشرع    بسام الشماع: لا توجد لعنة للفراعنة ولا قوى خارقة تحمي المقابر الفرعونية    أخبار التوك شو|"القبائل العربية" يختار السيسي رئيسًا فخريًا للاتحاد.. مصطفى بكري للرئيس السيسي: دمت لنا قائدا جسورا مدافعا عن الوطن والأمة    الأنبا باخوم يترأس صلاة ليلة خميس العهد من البصخة المقدسه بالعبور    يوسف الحسيني : الرئيس السيسي وضع سيناء على خريطة التنمية    اشتري بسرعة .. مفاجأة في أسعار الحديد    حيثيات الحكم بالسجن المشدد 5 سنوات على فرد أمن شرع فى قتل مديره: اعتقد أنه سبب فى فصله من العمل    مفاجأة | عقوبة قاسية لتجار الذهب في السوق    برج الميزان .. حظك اليوم الخميس 2 مايو 2024 : تجاهل السلبيات    أول تعليق من الصحة على كارثة "أسترازينيكا"    لبنان.. الطيران الإسرائيلي يشن غارتين بالصواريخ على أطراف بلدة شبعا    بعد أيام قليلة.. موعد إجازة شم النسيم لعام 2024 وأصل الاحتفال به    حي الدقي ينظم قافلة طبية لأهالي مساكن روضة السودان وصرف العلاج بالمجان    مفاجأة للموظفين.. عدد أيام إجازة شم النسيم في مصر بعد قرار ترحيل موعد عيد العمال    مسؤول أمريكي: قد يبدأ الرصيف البحري الجمعة المقبلة العمل لنقل المساعدات لغزة    القوات الأوكرانية تصد 89 هجومًا روسيًا خلال ال24 ساعة الماضية    الوطنية للتدريب في ضيافة القومي للطفولة والأمومة    أكاديمية الأزهر وكلية الدعوة بالقاهرة تخرجان دفعة جديدة من دورة "إعداد الداعية المعاصر"    ميدو: جوميز مرحب ببقاء هذا اللاعب مع الزمالك في الموسم المقبل    حمالات تموينية للرقابة على الأسواق وضبط المخالفين بالإسكندرية    النيابة تستعجل تحريات واقعة إشعال شخص النيران بنفسه بسبب الميراث في الإسكندرية    بقرار جمهوري.. تعيين الدكتورة نجلاء الأشرف عميدا لكلية التربية النوعية    وزير الأوقاف: تحية إعزاز وتقدير لعمال مصر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الموت نسيانا.. النسيان موتا
نشر في أخبار الأدب يوم 09 - 05 - 2015

لم يكن المصريون بدعة بين شعوب الأرض في تعاملهم مع ظاهرة الموت. لكن هذه الحقيقة ربما لا تنفي إمكان المجادلة في الحيّز الكبير، اللافت، من الاهتمام الذي نالته هذه الظاهرة في الحياة المصرية القديمة ولا من الاهتمام الذي تناله في زمننا الراهن، كما لا تنفي إمكان ملاحظة «خصوصية» ما، كانت ولا تزال ماثلة، في تعامل المصريين مع تجربة الموت.
لم ير المصريون القدماء في الموت »حدثا« تنتهي الحياة بانتهائه؛ »بل كان المرء يواصل حياته فيه«. وتأسيسا علي هذا، لاح الموت بمثابة »انفصال العنصر الجسماني عن العناصر الروحية»، أو بدا محض »انتقال من حالة إلي حالة أخري ». وقد حفلت المعتقدات المصرية القديمة برؤي شتي حول العالم السفلي والحساب، ومن ثم الراحة المطلقة أو العذاب الدائم في »الحياة الأخري« (وهذه الرؤي تتناثر في أدبيات الموروث المصري المتنوعة، ومنها »كتاب الموتي«).
من هذه الرؤي انبثقت وتبلورت، في الحياة المصرية، صيغة خاصة للعلاقة بين الأحياء والموتي، اقترنت بطقوس وشعائر بعينها في التعامل مع واقعة الموت نفسها/نفسه. وامتدت هذه الصيغة وتناسلت، بأشكال متنوعة، عبر مسار اجتاز فترات تاريخية طويلة. وليس بعيدا عن هذا السياق، المتصل بما يبقي وبما يندثر من تصورات وممارسات، ما طرحه جمال حمدان حول علاقة الاتصال/الانفصال بين فترات تاريخ مصر القديم والوسيط والحديث، فيما وصّفه بجدل »الاستمرارية« و»الانقطاع«. وليس بعيدا أيضا عن هذا السياق نفسه تناولات سيد عويس لظاهرة »الموت« وطقوسه ولفكرة »الخلود«. وقد توقف عويس، وقفات متعددة، عند هذه الظاهرة وتلك الفكرة وعند امتدادهما من الحياة المصرية القديمة إلي الحياة المعاصرة.
ثمة كثير »من العادات والتقاليد فيما يلاحظ جمال حمدان والممارسات والطقوس، وكذلك من المعتقدات والأفكار (...)..إلخ، انحدر إلينا من مصر القديمة وظل حيا لآلاف السنين«. وفي مجال هذه الاستمرارية يتأكد امتداد الظواهر الثقافية بالمجتمع المصري، «خصوصا فيما يتصل بعاداته وتقاليده» كما يلاحظ سيد عويس خلال أكثر من سياق. ولعل تجربة الموت واحدة من أوضح تلك الظواهر التي استمر عدد من معالمها عبر العصور، وارتبطت تصورات وممارسات وشعائر بها، منذ زمن الفراعنة وحتي الآن.
حضور الموت والموتي، في تلك الممارسات والشعائر والطقوس الممتدة، عابرة الأزمنة إن صح التعبير اقترن بنزوع ظل دائما يناوئ الموت من حيث هو تلاش وغياب نهائي، وسعي هذا النزوع دوما، سعيا دائبا، إلي أن يتلمّس نوعا من الألفة في تجربة مفجعة أو مؤلمة. وفي هذه الوجهة، هناك تعبيرات مصرية »ملطّفة« كانت ولا تزال تستخدم في الحديث عن الموت والموتي؛ فالموت في الموروث المصري القديم «يعني حرفيا الرحيل»، وكان يشار إلي الموتي علي أنهم »الذين ذهبوا إلي هناك«. وكأن الموت، بهذين التعبيرين، ليس سوي محض انتقال من مكان لمكان، وإن ظل التشبّث بالمكان الأول ماثلا في فكرة »الخلود«؛ إذ تراءي التوق إلي »الأجل الخالد« أو إلي «الوجود السرمدي الدائم«ماثلا في كثير من الأدبيات المصرية، كما ظلت فكرة »الحياة الأخري« مسلّما بها، غير مطروحة للتساؤل، ساعية إلي التخفيف من وطأة الوحشة المتخيّلة في ذلك المكان الآخر.
هناك، إذن، »كوين« خاص جعل تجربة الموت التي استوقفت البشر جميعا، عبر الأزمنة المتباينة، وفي الحضارات المختلفة، وخلال المعتقدات والديانات المتعددة هاجسا ملحّا في كثير من المعتقدات والتصورات والتناولات الإبداعية المصرية. وقد جعل هذا الهاجسُ مناوأة الموت المتواشجة وفكرة «الخلود» عنصرا أساسيا، قارا وثابتا، في »التكوين« المصري، عبر فترات ممتدة من التاريخ. وقد ترسّخ هذا العنصر في المعتقد والفكرة والطقس والشعيرة، وتجسّد في الأواصر والروابط الممتدة بين الأحياء والراحلين، بما يجعل هؤلاء الأخيرين، حتي بعد رحيلهم الذي لم يُتصوَّر أبدا علي أنه رحيل نهائي يظلون «مقيمين» بين الأحياء، حاضرين في ذاكرتهم، علي نحو أو آخر.
ولعل جزءا من هذه »الخصوصية«، في رؤية المصريين للموت، ماثل، مثولا إبداعيا متنوعا، في عدد من الروايات المصرية التي عبّرت عن تجربة الموت، وكيفيات مدافعته. ومن هذه الروايات (كتاب التجليات) لجمال الغيطاني.
يحلق (كتاب التجليات) في فضاءات شاسعة، تجاوز تخوم الأزمنة والأماكن، الشخصيات والمشاهد، التجارب والمعارف، وينوس بين عالم التجليات والرؤي والإشراقات الداخلية، الصوفية، وعالم المشاهد والوقائع والأسماء المرجعية، ويخلق من ذلك كله كيانا يتجاور فيه ما لا يتجاور عادة. وفي مركز هذه الحركة الواسعة، ثمة حضور لافت وأساسي للموت، وللموتي؛ للشهداء وللراحلين ممن يتماسون مع تجارب الراوي، المسمي، »جمال«، الذي يتقاطع صوته في غير موضع مع صوت المؤلف: جمال الغيطاني سواء ممن ينتمون للتاريخ العام أو للسيرة الشخصية؛ حيث تمحي المسافات بين »عبدالناصر« و»الحسين« و»ابن عربي« و»ابن إياس«، ووالد الراوي وأمه وأخيه. وفضلا عن ذلك، ثمة تأملات في تجربة الموت نفسه، في كينونته وتعريفه وكنهه الغامض، وفي مراوحته بين الحضور والغياب، وفي موضعه علي متصّل الذاكرة /النسيان.
تجارب الراوي المتكلم تترامي عبر أسفار »الكتاب« الثلاثة، التي تنبني متمثلة بعض الكتابات التراثية العربية القديمة بعناوين إجمالية خارجية وأخري فرعية داخلية، تجاوز جميعا محض كونها »حليات« لتصبح مكونا أساسيا من مكونات عالم الرواية؛ إذ تمثل جزءا من الأحداث أو اختزالا لها أو تعليقا عليها أو انتقالا فيما بينها. تتحرك الأسفار الثلاثة من ال»تجليات» وال»مواقف»، إلي ال»المقامات»، إلي ال»الأحوال». السفر الأول يمضي بين تجليات الفراق، والتجليات الديوانية، وتجليات الأسفار ومنها تجليات الغربة، ثم «المواقف» (التأهب، الظمأ، الحنين، اللقاء والتلقي، كان وسيكون، الندم، النجم، الشدة، الجمع). والسفر الثاني، بعد «مدرج» البداية، يتنقل بين مقام الاغتراب، ومقام الضنا، ومقام القربي، ومقام الحزن، وسريان بين مقامين، ومقام الجوي، ثم «منتهي». والسفر الثالث، بعد «مفتتح»، ينوس بين حال الوداد، وحال الفوت، وحال الجهات الأربع، وحال الوداع. عبر هذه الأسفار، وعبر انتقالاتها بين التجارب والمشاهدات والتأملات، تتحقق ارتحالات تجاوز المألوف، يتجاور فيها الأحياء والموتي، وتجوب مساحات تقع فيما وراء حدود الحياة وحدود الموت.
منطق «التجلي»، الذي يتأسس عليه عالم (كتاب التجليات) ويفصح عن مغامرتها الأساسية، يسمح بإمكانات لا تتيح الارتحال عبر تخوم الأزمنة والأماكن فحسب، وإنما أيضا تفتح مجالات رحبة لرؤية ما لا ُيري، وبالإمساك بما لا يُمسك، عادة، اعتمادا علي «طاقة» استثنائية، تتماسّ وبصيرة الراوي الداخلية ثم تفارقه وقد دخل في حال غير الحال، وأصبح كائنا غير الكائن، ممتلكا قدرة غير القدرة، نافيا المسافة بين ذاته وما يراه، أو بين عالمه الداخلي، الباطني، والعالم الماثل خارجه. في موقف «التأهب»، مثلا، يقول الراوي: »أوقفني في موقف التأهب، ثم فارقني، هجرني ونأي عني فصرت إلي غربة وفقر بعد أنس وألفة (...) صرت بمفردي، غريبا في غربتي، نائيا في نأيي، بعيدا في بعدي، لكنني أشبه بمن يستجمع كافة قواه تأهبا لانطلاق عظيم، كنت قادرا علي رؤية ما أمامي وما ورائي، فوقي وتحتي بدون حركة من عيني أو رأسي، صرت بصرا كلي، كأني الناظر والمنظور إليه كأني الرائي والمرئي..« (الرواية، ص 146). وانطلاقا من هذه الطاقة ينزع الراوي، الذي أصبح صاحب قدرة علي استبصار ما لا يُستبصَر، عن الغامض غموضه، وعن المستتر أستاره، وعن الظلام ظلمته، وتتكشف له إجابات عن أسئلة محيّرة ، ويتاح له علم بكل ما هو مجهول، ومن ضمن هذا الغامض المستتر، المظلم المجهول، المستثير للأسئلة والتساؤلات، تجربة الموت؛ تجارب من ماتوا وتجربة الموت ذاته.
وجوه النائين بفعل الموت ُتستعاد مع وجوه البعيدين بفعل السفر والغربة، كما تستعاد وجوه المشرفين علي هذا النأي المزدوج قبل تمامه. كذلك ُتبتعث، مع الجميع الذين قطعوا بعض الرحلة، اجتازوا مسافات من مسيرة، وجوهُ القادمين إليها ولمّا يبدأوا بعد خطواتهم الأولي فيها: »رأيت وجوها مثقلة بالغربة، بالوحدة، بالعزلة (...) رأيت وجوها قادمة إلي الدنيا لتوها وأخري ماضية إلي مجهول غامض (...) رأيت وجوها في وجوه. مبحرة عبر الشظايا، تغوص، تطفو.. إلخ« (الرواية، ص 75). لا تنفصل هذه الاستعادة، ولا ذلك الابتعاث، عن »تأمل« ما يتواري وراء ملامح الوجوه، في الأزمنة المنقضية وفي الأزمنة الراهنة وفي الأزمنة المقبلة؛ استكناه تفاصيل حياتها وموتها، واستبطان الموت ذاته بعد التحديق في عينيه.
في مجال تأملات الموت ما يستكشف أبعادا متنوعة لحدوده ومعناه ولبّه وامتداداته. من هذه التأملات ما يصل الموت بالميلاد؛ حيث تتجاور أسفار كل منهما (انظر الرواية ص 59). ويسري هذا المعني علي الكون كله؛ فالنهاية دائما »متصلة بالبداية، لابد من نهاية وإلا ما كان ثمّ بداية« (الرواية، ص 68). ومن هذه التأملات أيضا ما يجعل الموت الواحد يتكشف عن موتين: »موت أعظم وموت أصغر، أما الموت الأعظم فيتمثل في السكون علي الجور، والتغاضي عن الزيف، وإخماد الضمائر (...) أما الموت الأصغر فهو بطلان الحواس، وتوقف الأنفاس، وهجوع القلب..إلخ» (الرواية، ص 135)، وبذلك ينسحب معني الموت علي كثيرين يتحركون حول الراوي أو يتحرك هو بينهم. ومن هذه التأملات كذلك ما يسعي إلي الإحاطة بمعني الموت؛ يتصوره بمثابة »الهول الأكبر« (الرواية، ص 494)، أو »اكتمال الدائرة الكبري« (الرواية، ص 360)، أو الانتقال إلي »أبد الأبد« (الرواية، ص 801)، أو يري أنه »نزع« و»جهل» و»غيبة» و»فراق« (انظر الرواية ص 805 واقترانات الموت والفراق تتكرر في مواضع شتي بالرواية، انظر صفحات: 15، 289، 460، 474، 512، 791)، أو ينظر إليه علي أنه «القطع» في ثنائية «الوصل والقطع»؛
»الوصل حياة والقطع موت (...) الوجود مبنيّ علي وصل، الأنفاس المتصلة تعني استمرار الحياة فإذا انقطعت الوصلة بين النفَسين مات الإنسان«(الرواية، ص 112)، أو يجسده في استرداد »صاحب الأمانة وديعته« (انظر الرواية ص 779)، أو يتخيله في »الوحدة« المطبقة، حيث الجيران الموتي «رقود يجهل كل منهم الآخر، جيران لكن لا يتزاورون» (الرواية، ص 265)، أو يؤكد أنه فيما يستعيد الراوي كلمات شيخه ابن عربي عودة بالجسم إلي أصله: »الجسم خلق من تراب، وعاد بالموت إلي أصله، فلا فرق بينه، في حال انفصاله وبروزه، كونه علي وجه الأرض أو حصوله تحت التراب، فهو منها» (انظر الرواية ص 495). وخلال هذه التأملات يلوح «العالم الدنيوي الذي نحن فيه الآن له انتهاء يؤول إليه لأنه محدث، وحكم المحدث أن ينقضي» (الرواية، ص 79)، وهكذا يقترن الموت بتصور ابن عربي أيضا بلحظات فارقة، هي جزء من مواجهة للنتائج التي انبنت علي أسباب، أو للمصائر المتباينة التي ترتبت علي أعمال/بدايات مختلفة: «الموت فزع للمؤمن لما قدم من إساءة، وفزع للعارف لحيائه من الخالق عند القدوم إليه، وندم للكافر لفقد المألوفات..» (انظر الرواية ص 805). لكن، مع كل ما تمنحه هذه التأملات من مقاربات لحقيقة الموت، واسكتشافات لكنهه، فإنه يظل محاطا بتساؤلات أخري عصيّة علي الإجابة؛ منها ما يتوقف عند موقع لحظة الموت من الزمن المعدود (انظر الرواية ص 129)، وما يتصل بتوقيته وكيفيته (انظر الرواية ص 799)، وما يحدد الفارق بين صورته أو صوره بعد أن يحلّ، عند إغماضة العينين، ثم بعد عام أو عامين أو مائة (انظر الرواية ص 805).
يُطرح النسيان في الرواية كأنه الامتداد الأوضح للموت، أو التمثيل الأظهر له. وفي (كتاب التجليات) حشد من العبارات والمواقف التي تؤكد هذا المعني، بعبارات تستند أحيانا إلي نبرة من نبرات اليقين، وتصاغ أحيانا بإيحاءات لا تخلو من تساؤل. فالموت تارة هو النهاية حيث يلوح الإنسان نسيا منسيّا (انظر الرواية ص 29 و ص 480)، والموت تارة ثانية هو التلاشي «في منزل النسيان» (انظر الرواية ص 85)، والموت تارة ثالثة هو المحاق أو النسيان (انظر الرواية ص 97). وإذا كان النسيان بهذا المعني هو الموت الحقيقي، حيث يتأمل الراوي بصوت الشهيد: «إذا تم النسيان .. يكون الموت» (الرواية، ص 456)، فإن الموت يظل غير منفصل عن فعل الزمن الذي يمضي بالحضور، ثم بالذكري، إلي غياهب النسيان، شيئا فشيئا أو عبر رحلة تبدأ متريثة الإيقاع ثم تتسارع؛ وبذلك يتم الانتقال من نسيان ملتبس إلي نسيان تام مكتمل. يجسد الراوي اكتمال موت من ماتوا بتمام نسيانهم الذي يتحقق عبر درجات متصاعدة؛ موت الأب، مثلا، يبدأ بعد اختفاء لفظ «أبي» من»قاموس» الراوي، ثم مع انقضاء عام كامل باعتياده القسم ب»رحمة أبيه» (انظر الرواية ص265، وانظر أيضا ص 769)، وعبدالناصر، أيضا، يكتمل موته عبر مراحل النسيان الذي يتم بمرور السنوات، من نهاية العام الأول حيث بدت الطرق المؤدية إلي ضريحه «مزدحة [مزدحمة] غاصّة. الوفود تتري، والجماعات تتوالي والخلق كثير، والممر وبهو المسجد يفيض بالورود. في العام الثاني لم يعد الجمع هو الجمع، وفي الثالث قلّ المدد، وفي الرابع اتسعت المسافات وصار الضريح وجهة المخلصين الأشداء المحبين..» (الرواية، ص 266). كذلك يلوح متصل «الموت/النسيان» ماثلا مع أخ يفقده الراوي؛ «كمال» الذي اختطفه الموت ثم رسّخ النسيان المتدرّج فقدانه، شيئا فشيئا (انظر الرواية ص 651 وص 654). يبدأ النسيان بالأصوات؛ «أول ما يستسلم للنسيان، ثم تتبعها العادات الصغيرة، كطريقة النظر إلي الموجودات وحركة الأيدي عند الحديث (...) وهيئة الضحك والإطراق عند التفكير وجوهر الحضور. يندغم هذا، وتبهت الفواصل..إلخ» (الرواية، ص 268).
في مواجهة الموت/ النسيان، يلوح «التذكّر» وسيلة لمدافعة الغياب. في عبارات «الشهيد» الراحل، كما تصل للراوي، تأكيد لهذا المعني: « لا تنس. إذا استمر ذكر الإنسان، أو اللفظ باسمه بعد موته، أو اجترار سيرته مع من أحبوه وعرفوه، فإنه يصبح في اعتبار الحي» (الرواية، ص 456). كذلك، في نصائح الأم للراوي ما يبدو سعيا لمدافعة نسيان موت الابن/ الأخ «كمال»: «لا تنسَ كمال أخاك، اطلب له الرحمة واقرأ الفاتحة» (الرواية، ص 651)، «اذكر شيئا عن أخيك كمال» (الرواية، ص 653)، ثم يطل من نصائح الأمّ لومٌ واضحٌ: «يعني ما من ذكر لكمال»، ثم تفصح عباراتها، في زمن لاحق، عن عتاب وتقريع: «نسيته [أنت تقول للراوي] كما نسيت سورة يس..» (انظر الرواية ص 654). وفي هذا المنحي، تعبّر زيارات الراوي لقبر أبيه عن محاولة لمدافعة نسيانه ولمناوأة التسليم بحقيقة غيابه (انظر الرواية ص 264). وهكذا يغدو التذكر نفيا للنسيان الذي يجلبه الزمن، فيما يجلب من تحوّل وتبدّل، فلا يثبت العالم قط علي حالة واحدة (الرواية، ص 283 وانظر أيضا ص 103). ومن هنا، تقترن مدافعة الموت/ النسيان بمغالبة الزمن، أو بمغالبة ما يأتي به من تغّير. وتندرج في هذا زيارات أهل الراوي للأضرحة التي تضم «مراقد البيت»، «سيدنا الحسين، والسيدة زينب، والسيدة نفيسة، والسيدة رقية..إلخ» (انظر الرواية ص 176، وانظر أيضا ص 311)، كما يندرج في هذا رصدُ الراوي زيارتَه لقبر أبيه، وحواره معه كأنه حي: «وعندما طلع صباح الواقعة كان الأربعاء يقابل الثلاثاء، عقدتُ الهمّة وقصدتُ زيارة المثوي.. إلخ»، و: «قعدت فوق حجر عند موضع قدميه (...) حدثت أبي بكلام كثير بددت به صمتي، عللت النفس أنه ربما يصغي..إلخ» (الرواية، ص 264).
ارتباطا بهذا المعني، يغدو منطق «التجلي» عطية ثمينة في مدافعة الموت/ النسيان. وبجانب قدرة الراوي، الآن، في زمن خارج الأزمنة، علي أن يري بالتفصيل وجوها معروفة لمن من ماتوا عبر بعض فترات التاريخ، فوق تراب كربلاء أو فوق رمال سيناء (انظر الرواية ص ص 74، 75، وص 88)، فإنه أيضا في زمن خارج الأزمنة يستحضر شهداء وغير شهداء، مجهولين، ممن غيبهم الموت في عصور عدة، وفي بقاع متعددة من الأرض؛ بعضهم كان قادما من الريف إلي المدينة في الزمن المملوكي (انظر الرواية ص 94)، وبعضهم كان يلتف حول علي ابن أبي طالب (انظر الرواية ص 73)، وبعضهم كان حول الحسين الشهيد (انظر الرواية ص 116، وص 77)، وبعضهم كان من شهداء حرب أكتوبر «التي قيل إنها آخر الحروب» (الرواية، ص 21). ومن هؤلاء جميعا، وبعضهم قد توارت ملامحه، تبرز في تجليات الراوي، في سعيه لمناوأة النسيان/ الموت، شخصيات بأعيانها يتكافأ علي مستوي ما حضورُها الراهن بعد موتها وحضورها القديم حينما كانت بين الأحياء: «الأب» (انظر الرواية صفحات: 10، 11، 28، 477، 479)، «الحسين» (انظر الرواية صفحات: 38، 39، 83، 85)، «عبدالناصر» (انظر الرواية صفحات 12، 15)، «الأم» (انظر الرواية صفحات 794، 795، 811)، «ابن عربي» (انظر الرواية ص 84)، «الجدة» (انظر الرواية ص ص 80، 81)، «الشهيد مازن» (انظر الرواية ص 77)، مع كل من «كمال» و»اسماعيل»، أخوي الراوي (انظر الرواية ص ص 545: 547، ثم ص 785 وص 787). ومع هؤلاء جميعا يتجلي مشهد شخصيات «الديوان»، الأقطاب الراحلين الذين تترأسهم السيدة زينب، تتصدرهم هي وتُجلس إلي يسارها الحسين وإلي يمينها الحسن (انظر الرواية ص 37)، وتتجلي هذه الشخصيات جميعا بهيئات مفعمة بالحياة. هؤلاء الراحلون، المبتعَثون، يطلون علي الراوي أو يطلّ هو عليهم أحيانا في «اللامكان»، وأحيانا في أمكنة بأعيانها؛ تتداخل أزمنتهم أحيانا مع زمنه، وتجاربهم مع تجربته، وهم في هذا كله يبزغون من غيابهم فيكون لهم حضور كبير، وربما الحضور الأظهر، داخل الرواية.
كما تمحي فواصل الأزمنة والأماكن في حضور هؤلاء جميعا، تتلاشي أيضا المسافات بين أصواتهم المتنوعة، أو بين شخصيات بعضهم وبعض؛ فيتحاور الراوي مع واحد منهم يتراءي له بهيئة واحد آخر أو يتكلم بلسانه. يتكلم عبدالناصر، مثلا، بصوت الأب: «رأيت عبدالناصر، مكشوفا، حاسرا، مبهدلا، أقبلت عليه وعندما تكلم، تكلم بصوت أبي» (الرواية، ص 20)، ويتحدث صاحبه الشهيد أيضا بصوت أبيه: «سمعته يقول بصوت أبي..إلخ» (الرواية، ص 97)، كما تتراءي له ملامح أبيه «في جسم عبدالناصر» (الرواية، ص 112).
حضور الموتي في حياة الراوي لا ينفصل عن حضور الهاجس المراود بموته هو. يقول: «ثقل قلبي حتي موتي» (الرواية، ص 18)، ويعذبه «ما فات»، «ما انقضي وما ينقضي» (الرواية، ص 27)؛ إنه موقن من موته، أو من موت وجوده المادي الذي «يهوي في قرار سحيق (...) اليقين عندي أنني راحل بعد ثوان، الموت سيتم في اللحظات التالية، سأغمض عيني ولن أفتحها قط، ماض إلي مجهول..إلخ» (الرواية، ص 480). قد يعتريه أسي ما علي نهايته «التي [بكلماته] لا أدري متي ستحين؟ فأرثي ذاتي لحظة ميلادي، وأبكي علي رحيلي بعد سفري» (الرواية، ص 513)، وقد يتساءل عما سيبقي منه، وعمن سيتذكره بعد رحيله: «ما الذي سيبقي مني، ومنذا سيتطلع إلي رسمي؟ إلي ظلي بعد اندثاري؟ ومن سيخلو إلي نفسه ويتطلع إلي صوري التي ستمسي قديمة بالية؟ من سيجيء ومن سيتذكر نبرة صوتي؟» (الرواية، ص 579).. ولكنه مع ذلك يسلّم بمنطق جَمعيّ متوارث للموت، كانت جدته قد أشارت إليه، فيه يغدو الموت محض استرداد «وديعة لابد أن تردّ» (الرواية، ص 507)، ومعه يكون الموت، كلّ موت، هو نهاية طبيعية لكل حي؛ إنه فقط يظل يخشي أن يموت بعيدا عن أهله: «تنتابني خشية موت الفجأة، فلا أري الأهل والصحب» (الرواية، ص 291)، كما يظل يخشي أن يموت ميتة تتشوّه معها هيأته؛ فيغدو رأسا بلا بدن، أو بدنا بلا رأس، فجمال «الجسم البشري وكماله في اتصاله» (الرواية، ص 218). إنه، في النهاية، موقن من أنه سيغمض عينيه يوما ولن يفتحهما قط، كما أغمض عينيه بكلماته «أبي، وجمال عبدالناصر، ومازن، وإبراهيم، وخالد، وكل صحبي الذين راحوا»، ولكنه أيضا يتمني أن تتم مناوأة الغياب خلال الذكري؛ خلال عدم نسيان هؤلاء الراحلين وعدم نسيانه هو؛ يظل يأمل، بكلماته، «أن يتأخر مغيب شمسهم، وألا تنطوي ظلالهم، كما أدعو وأرنو إلي بقاء شمسي، ونأي ليلي» (الرواية، ص 360).
نعم. هو الرجاء بأن الراحلين لم يتلاشوا، ولن يتلاشوا. لن تغيب شمسهم أو تنطوي ظلالهم ما بقيت ذكراهم قريبة وما دام نسيانهم بعيدا. لا يمكن أن يتمّ تلاشيهم وموتهم، أو تلاشي الذات ونسيانها وموتها أيضا، إلا إذا استتب النسيان واكتمل وغامت الذكري وغابت. نعم. هو الموت الذي يستوي والنسيان، أو هو النسيان الذي يتكافأ والموت.
مستعيدة ومثرية موروثا قديما متجددا، بنبرتها السردية الجميلة، المتعددة والمركبة والمؤسية أيضا، تناوئ (كتاب التجليات) الموت والنسيان معا.. تدفعهما وتدافعهما معا.
هوامش:
هذه المقالة مقتطع، مع تعديل، من دراسة بمجلة »ألف« عنوانها : »فجيعة الغياب.. ألفة الغياب: حول تناولات الموت في الرواية المصرية«.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.