أسامة علام روائي مصري يعيش في كندا حيث يقوم بإكمال دراساته العليا في الطب في مونتريال(مرحلة الدكتوراة )، و هناك له حضوره الثقافي و الانساني البارز، و من قلب تلك المدينة، و معايشته لسكانها، و من خلال ثقافته و خياله و رؤيته الخاصة للعالم هناك، كتب روايته »الاختفاء العجيب لرجل مدهش«(2013). داخل مدينة مونتريال تعيش هذه الشخصية العجيبة، شخصية "فرنسوا ليكو"، مزين الموتي، شخصية غريبة ونادرة في الأدب، تجمع بين الموت والحياة، تقوم بتزين الموتي وتجميلهم، واللعب مع الأطفال وإسعادهم، علي الرغم من انه،هو نفسه، ليس سعيدًا. فنان شوارع يمثل في المهرجانات (أحيانًا) عروضًا قصيرة مضحكة، هي ليست مهنته.انه، مهووس بكثرة العمل،ومهووس بعدم القدرة علي الإنجاز لشيء تام (مثل دافنشي في الكثير من اعماله و لوحاته غير المكتملة). و قد كان و قبل الشروع في عمله الخاص الغريب هذا، يطلب صورًا فوتوغرافية للمتوفي في أكثر لحظات حياته سعادة، ويحاول مستخدما براعته الفنية ومهاراته الابداعية أن يظهره أمام المودعين له في أبهي صوره، وكما لو كان يعيده الي الحياة من جديد؛ يعيده أبهي و اجمل و اكثر سعادة و حضورا و ألقاً من حضوره السابق العابر القديم. هكذا تحول الموت، لديه، إلي فن،فن للاحتفاء بالموتي وإسعادهم، وإسعاد من يرونهم للمرة الأخيرة، هنا أصبحت الحياة موجودة في الموت، الموت الذي قد يكون-لدي البعض -غاية الحياة، و كما كان فرويد يقول. يقول بعض النقاد إن ما أثار الاضطراب لدي أفلاطون في أعمال بعض الفنانين هو أن هذه الأعمال التشكيلية كانت تتعلق بأشخاص موتي، لكنهم، بفعل ما يقوم به الفنان ومهارته، يبدون كأنهم أحياء، هذا ومن ثم بدت هذه الأعمال غريبة،ومخيفة،وكأنها تومئ إلي إمكانية عودة الموتي والأشباح الي الحياة.ولا ينطبق مثل هذا التحريم علي ما كان يقوم به فرانسوا ليكو، بل ان ما كان يقوم به كان مطلوبا و مرحبا به ويحصل ايضا علي اجر نظير قيامه به. لقد كان يبالغ في بذل الجهد من اجل تزيين الميت حتي يبدو اكثر سعادة وبهجة و هو يغادر هذه الحياة الفانية، وقد كانت وسيلته الاساسية في اتقانه لعمله هذا هي تلك الصور التي كان المتوفي- كما قلنا- يبدو سعيدا فيها. هكذا يصبح جسد المتوفي موجودا في صورة رمزية، موجودا كلوحة، او كصورة فوتوغرافية، وكما لو كان هنا-اي فرانسوا ليكو- هنا هو المصور، او الخالق، الذي يعيد التكوين او التصوير للميت ويبعث فيه الحياة من جديد. في هذه الرواية ايضا نجد الولع بالأشياء، بالأجساد، بالموتي، نزعة أقرب إلي النيكروفيليا، ممارسة الجنس مع الجثث، هنا نواجه علي نحو لافت بذلك الولع بالموتي والعزوف عن الأحياء، إلا من لم يتلوثوا بعد منهم، وبخاصة الأطفال، هنا نجد الولع بالأحذية، بالجثث، بالألحان التي تسيطر علي بعض الشخصيات بشكل قهري، بالأسماء، كما كان حال تلك الغانية التي تضع أسماء عشاقها علي جسدها.هنا تتجسد الذات في أشياء لأنها لا تستطيع أن تتجسد في آخر، وهنا نوع من الهوس المستحوذ، الهوس بالأشياء، بالآخرين، بالجمال. هنا نجد "نينا جانيون" المرأة المولعة بالأقدام والأحذية. هنا نجد أن الأشياء كما لو كانت مفعمة بالحياة، وفيها أرواح تحركها ربما أكثر من البشر، كما ان أرواح الآخرين تعود ايضا من خلال الأشياء. و مونتريال كما يصفها أسامة علام في روايته هذه "مدينة شابة موسومة بطيش المراهقات، مدينة باردة تعطيك الانطباع بأنها لن تسمح لك بأن تحبها؛ لأنها لا تعرف كيف تحب، وهي بذلك لا تطلب منك ذلك أبدًا، مدينة الانضباط والسعادة، المدينة المشبعة بالأحلام، يأتي إليها المفعمون بالحلام ويبقون فيها جريًا وراء دفع الضرائب والفواتير التي لا تنقطع أبدًا وكذلك الانتحار". هنا، في هذه المدينة، نجد الموت المادي والموت المعنوي أو الرمزي، موت المشاعر وموت الحب موت الإنسان، والموت كمهنة، و كيف يصبح الإنسان في ألفة مع شيء غير مألوف (الموت) وعلي غير ألفة مع المألوفين (البشر).هنا نواجه تلك الحياة الموجودة في الموت،و يواجهنا عالم الأرواح والأشباح، البشر الأحلام. فالبشر الذين لا يتحققون في الحياة، يتحولون إلي أحلام خاصة بهم أو خاصة بغيرهم. والشخصيات في هذه الرواية شخصيات بينية الطابع، تقف أو توجد علي العتبة في المسافة الفاصلة بين الحياة والموت، الحلم وعدم تحققه او تحوله الي كابوس، هنا عالم البشر، وعالم الأشباح، وعالم البشر الاشباح، والاشباح البشر. ومثلما هي شخصيات بينية من حيث تكوينها، وشبحية من حيث وجودها في هذا العالم، فهي كذلك، في معظم الاحوال، مغتربة وغريبة، جاءت لتحقق أحلامها فضاعت أحلامها وضاعت هي معها. إنها شخصيات غير مستقرة، بلا مأوي، إلا بيت العجائز، أو في الحياة مع الموتي، او الاستغراق في المعتقدات الودونية والشامانية. وهكذا فإن الشخصيات هنا موجودة في منطقة بينية تقع بين التحقق والإحباط،ثم الآمال والتوقعات وتحطم الآمال وانكسار التوقعات أو ارتطامها بواقع مؤلم شديد القسوة، ينتهي بعدد كبير منهم الأمر بالعمل في مهرجانات ومدن ملاهي وارتداء أقنعة وافتعال الضحك أو الانتحار والمرض والموت أو العيش في اقبية الذات وكهوفها المظلمة. هنا شخصيات فرت من مكانها الأصلي لتذهب إلي مكان جديد لا يعترف بها ولا يهتم، ومن ثم فإنها تتحول تدريجيا إلي شخصيات منقسمة أيضًا بين ماضيها وحاضرها، ثم انها تواجه مستقبلها من خلال الاستعادة لماضيها، أو الاستسلام لمصيرها المحتوم. في هذه الرواية نجد عالم التنكر والسيرك، عازفي الطبول الإفريقية، فنانات السيرك، والبهلوانات وعمليات التنكر (وهي آلية ترتبط بالتهكم) حيث إخفاء الوجه الحقيقي والإظهار لوجه آخر (الباكي) بالأشياء كبدائل للعلاقات الإنسانية، ونجد ايضا الحديث مع الموتي، إقامة علاقات كاملة معهم: علاقات جنسية أو روحية، أو حتي الإقامة في عالمهم والعودة منه، كما لو كانت هناك "طقوس عبور" تجعل الشخص يمر من عالم إلي عالم، كما في نهاية الرواية، وهناك ايضا حالات الخروج من الجسد، الوجود خارج الجسد، العيش في عالم الموتي والأشباح، العيش معهم، الحوار معهم، تناول الطعام معهم.و في هذه الرواية نجد تجليات عديدة ايضا للغياب و الاختفاء وليس الاختفاء العجيب لفرانسوا ليكو في نهاية الرواية، عندما اختطفه الموتي الذين كان يزينهم، و أخذوه الي عالمهم،و احتفوا به علي نحو كرنفالي؛ الشاهد الوحيد علي حالات الاختفاء او الغياب الموجودة بكثرة في هذه الرواية، فعمليات تزيين الموتي ذاتها فيها اخفاء لوجه الميت الشاحب الباهت وربما المخيف، واحضار بديل لوجهه الاخر الباسم السعيد. كذلك تنطوي عمليات التنكر واخفاء ملامح الوجه التي يقوم بها المهرجون عبر الرواية علي آلية مماثلة ايضا، وغياب الشخصيات بالخطف او القتل او الموت او النسيان او الانكار ينطوي كذلك علي امر مماثل. واخيرا فإن ذلك الاقصاء للمشاعر الانسانية و الاخفاء لها والولع بدلا منها بالاشياء فيه ايضا اختفاء لما هو حميم و احضار لما هو بارد او محايد او غير انساني وعلي نحو مخيف.ومثلما هناك احتفالية كارنفالية نعرفها في عالم الأحياء، فيها تحتشد الأقنعة والرقص والولائم والموسيقي والبهجة والفرح؛ فهنك أيضًا كارنفالية الموتي، مهرجان الموتي الأحياء والأحياء الموتي، عالم شبيه بذلك العالم الموجود في القسم الخاص بالحفلة في فيلم shining (تأليف ستيفن كينج، بطولة جاك نيكلسون، اخراج ستانلي كوبريك-1980). هنا ايضا عالم شبحي، حيث الموسيقي ليست الموسيقي و الطعام ليس الطعام، لكن السعادة اكبر. مع انفتاح بوابات الذاكرة، يكتشف كل شخص ماضيه ويكشف عن جرائمه و مآسيه. هناك عوالم من الأساطير والاشباح و الظلال و الفلكلور الافريقي والكندي واستعادة للصدمات عبر الوعي واللاوعي والاحلام والهذيان من اجل الشفاء و امام المرآة.هناك داخل الرواية استطرادات غير ضرورية احيانا، كتلك الحكايات المشحونة بالذكريات والانطباعات التي ترويها ناتالي سان بير او تتذكرها عن والد الطفلة فرح الذي حمل معه الي كندا قوة الفراعنة و سحر كليوباترا و ذكاء الاسكندرية و قوة الرومان و حكمة العرب وجشع المماليك...الخ. وهناك آلية مهمة في هذه الرواية تتعلق بالتهكم، وروح التهكم والسخرية موجودة لدي الراوي، ولدي العديد من الشخصيات، لكن التهكم هنا له معنيان: أولا كآلية في السرد، كأن يقول الشخص شيئًا ويقصد غيره وهذا هو التهكم السقراطي، أو، ثانيا، أن يحدث ذلك علي مستوي الشخصيات؛ كأن تبني الشخصية عالمًا ما وتصدقه وتقيم فيه ثم تأتي شخصية أخري لتنفيه وتهدمه وكما نجد ذلك القسمين 4، 5 من الرواية، حين حدث ذلك التفاوت والاختلاف الجلي ما بين ما سرده فرنسوا ليكو وما سردته ناتالي سان بير حول وقائع كثيرة حدثت عبر الرواية، هنا يمكن أن يوجد ما أسميه "التهكم عبر الشخصيات"، حيث تقوم بعض الشخصيات بالهدم لما تقيمه شخصية أخري وتؤسسه. هكذا تضيع الحقيقة، الحقيقة هنا تتجلي علي أنحاء شتي، وهذه الأنحاء هي وجهات نظر الشخصيات، هكذا يحكي فرنسوا ليكو شيئًا ويقيم عالمًا من الأفكار والمشاعر والحقائق، ثم تأتي ناتالي وتنفيه فتضيع الحقيقة، تصبح منسية، أو لحظية، أو حتي غير موجودة.