عن الهيئة العامة للكتاب صدرت مؤخراً الرواية الأخيرة للكاتب الراحل إبراهيم أصلان، وفيها يتنبأ الكاتب الكبير بموته. هذه ليست بلاغة عن تنبؤ الموت بأثر رجعي، وإنما أمر واضح من جميع تفاصيل الكتاب. التفسير الروحاني يقول إن الأديب الكبير كان يتنبأ بموته، والتفسير المادي سيقول إن الرجل كبير السن كان يفكر في الشيخوخة. تشير كلمة ظهر الغلاف إلي عنصرين أساسيين في الكتاب، الإحساس بدنو الأجل، وتداخل الذاتي في الخيالي، وهما عنصران يلوحان بقوة في فقرة قصيرة من الكتاب: "كثيراً ما أقول لنفسي إن الواحد وقد أوشك علي الانصراف لن يمكنه أن ينسج رقعة متماسكاً عن ماضيه إلا عبر خيوط مما حدث وما لم يحدث". عنصر ثالث يلوح أيضاً في هذه الفقرة. هل لاحظتم "رقعة متماسكاً"؟ تلازم الأخطاء المطبعية الكتاب من صفحاته الأولي وحتي الأخيرة. في النهاية، الرواية ليست مكتملة، علي الأقل ليست مكتملة ككتاب جاهز للنشر. العديد من الأخطاء المطبعية، واو عطف تختفي وتظهر وتربك السياق، حروف زائدة وناقصة، وحمادة، أحد أصدقاء الراوي في شبابه، يتحول اسمه مرة في الكتاب ليصبح "حمادة هلال". كما أن هذا يتصل ببنية الكتاب نفسها، فمع التقدم في الصفحات، نكتشف أن هناك صديقاً قديماً آخر، هو جونيور الذي يرسل له الراوي بأسئلته، ونكاد نشك في هوية "الصديق القديم جداً"، للراوي. تتجاور بدون روابط قوية قصة سليمان الذي فقد صوابه بقصة جعفر عمران الذي نصب علي الحكومة وكاد يتسبب في حبس الراوي. علي ما يبدو، كانت لدي أصلان فكرة ما لمعالجة هذا، لسبك الخطوط الدرامية المنفصلة في سبيكة واحدة، ولكن القدر لم يمهله لتنفيذها ولا لمراجعة الكتاب، ولذلك فالكتاب ليس رواية وإنما "مسودة رواية". يؤكد القاص هشام أصلان، ابن الروائي إبراهيم أصلان، هذه المعلومة ل"أخبار الأدب". يقول إن الكاتب الراحل بدأ في كتابة حلقات "صديق قديم جداً"، في جريدة الأهرام، وعندما اجتمع لديه عدد كبير من الحلقات فكر أنها قد تصلح لرواية، وكان من المفترض أن يعد لها صياغة نهائية وشاملة لضمها بين دفتي الكتاب ولم يمهله القدر قبل أن ينجز هذه المراجعة والصياغة. لم يتدخل هشام في النص مطلقاً، لم يحب مثلاً وضع عناوين علي الجزء المقسم لفقرات مرقمة، ليتوائم مع الأجزاء المقسمة لفقرات معنونة. فكر هشام في كتابة تنويه بأن الكتاب هو "مسودة رواية"، ولكن أصدقاء أقنعوه أن كلمة "مسودة" ستدفع القارئ للبحث عن أخطاء الكتاب بدلاً من الاستمتاع به، ولذلك عدل عن الفكرة. وفكر أن القارئ سيفهم ضمناً أن الكتاب هو "مسودة" وليس "رواية جاهزة للنشر".
الموت، والتقدم في العمر، وصورة الإنسان عندما يتقدم في العمر، هي كلها ثيمات شائعة في الكتاب، الذي يبدأ بمكالمة يتلقاها الراوي من ابنة توفيق، تخبره فيها أن أباها "تعيش إنت". مات صديقه القديم جداً فجأة "دي حتي الحكاية دي لما حصلت، كان ماشي في الشارع". الموت وصورته هما الأساس، المزعج في موضوع موت توفيق، يفكر الراوي عبد الله (الذي هو بعض من أصلان الكاتب)، أن أولاده لن يكترثوا بموته لأنهم لا يعرفونه. الراوي نفسه يجرب ارتداء البنطلون وهو واقف، وأولاده يحذرونه من هذا، "لأن الرجل الكبير إذا سقط ربما لن يستطيع القيام مرة أخري"، وهناك الحاج الذي بني عمارة وانتهي من تشطيبها وعاد إلي البيت ومات "الرجل أخذ مقلب ابن كلب"، انتهاء بخصلة شعر العم محمود التي كانت تتدلي علي جانب وجهه، وحرص علي إبقائها تتدلي حتي والشعر يفقد كثافته ولم يعد باقياً منه إلا شعرتان أو ثلاث، "وهكذا مات، وهو يبدو في نظري نفس الرجل الذي عرفت". من الصعب جداً الكلام عن كتابة أصلان، لأنه من الصعب جداً الإمساك بالمعني في تفاصيله. كعادته يدلل أصلان التفاصيل الصغيرة، التفاصيل التي ليست مدهشة علي الإطلاق، بأن يدفعها إلي متن حكايته. ينقسم القسم الأول من الكتاب لعدة فقرات مرقمة. الفقرات قد تقصر وقد تطول بحسب محتواها. بعضها ينتهي نهاية لاذعة، وبعضها هو العادي المطلق، مثل هذه الفقرة: "عندما عاد الأولاد من الخارج أخبروني أن الناس كلها سألت عني أثناء كتب الكتاب في دار الإفتاء، وإنهم يرسلون إليّ بالسلام، وأنا توقفت عن المضغ وقلت: الله يسلمهم". هكذا تبدأ الفقرة وتنتهي. يرسلون إلي بالسلام، الله يسلمهم. كان يمكن لهذه الفقرة أن تكون جزءاً من فقرة أطول، فقرة أطول تتحدث عن أشياء أكثر غرابة، وينتج فيها معني أكثر "أدبية"، ولكن اختيار أصلان لفقرته أن تبدأ بالعادي وتنتهي بالعادي ولا يتخللها إلا العادي، هو بالتحديد ما يدل علي اختياره غير العادي.
ما بدأه أصلان في "وردية ليل"، من استرجاع لفترات عمله في "البوسطة"، يكمله في هذا الكتاب. يميز لنا بين عادات استقبال الرسائل في المناطق الشعبية والمناطق الغنية في القاهرة، ثم يستكمل رحلته في المحلة الكبري التي نُقل إليها بعد خطأ غير مقصود، وهناك تكون وسيلة تنقله هي الدراجة أو الحمار ولا ثالث لهما، وهناك عطش أكثر ضراوة للرسائل. "كلما مررت في الطريق الرئيسي لأي قرية، لا بد وأن أسمع صوتاً عالياً يصيح ورائي: معاك جوابات؟ ولما أخفف سرعتي وألتفت، أري قروياً يتطلع إليّ بوجه ضاحك، يمشي وحده أو يسحب بقرة أو جاموسة. وما أن أعتدل وأبدأ في الابتعاد، حتي يلاحقني نفس الصوت عالياً: اتفضل. كيف يحدث ذلك في القري كلها، أسأل سليمان، ويقول: طبعاً". وفي الريف يظهر شيء آخر، القصة الساحرة لسليمان الشاعر، زميلهم في البوسطة، الذي يكتب شعراً يثير ضحك زملائه، ويشاركهم سليمان الضحك، ويضحك الراوي عبد الله، ولكن في مرة: "عندما انتهي السهر، رافقني إلي باب البيت، حيث وقفنا نتكلم حتي دعوته للدخول ولكنه اعتذر. وقال إنهم لا يجدون ما يضحكون عليه إلا حكاية الشعر، مع إنه شرح لهم أنه غير مستعد الآن لكي يقرأه علي أحد. وقال إن أحداً لم يجبره علي أن يشرح لهم أي شيء، ولكنه فعل ذلك بخاطره، ثم أوضح لي أنه غير متضايق من ضحكهم، والدليل علي ذلك أنه يضحك معهم، ثم تطلع إلي وقال إنه يرجوني أن لا أضحك معهم. لا يحب أبداً أن يراني أشاركهم في هذا: إنت بالذات يا عبد الله". وينتهي الفصل بهذا. "المعني الكبير"، الغامض والمشوش كما يحبه أصلان، سينتج فيما بعد، سليمان هذا سيتعرض لصدمة عصبية، سيقال إنه رأي ذئباً وهرب منه قفزاً في الترعة. ولكن الراوي سيتشكك دائماً في هذا، ولن يخبرنا الكاتب بالحقيقة أبداً، كما لن تأتي قصة الذئب هذه في نهاية الفصل. من سيحوز ب"نهايات فصول" كثيرة هو حمار سليمان الذي هرب عندما رأي الذئب. "وقف هذا في بردعته التي كساها سليمان بقطعة من القطيفة الخضراء وقد رفع رقبته إلي أعلي ومال بوجهه ناحيتي وهو يهزه مبتسماً وقلت: "إيه الحكاية دي، هو الحمار بيضحك ولا ايه؟". وسليمان قال: "طبعاً. الحمير مش زي بعضها". الحمار، لا الذئب، هو ما ينتج المعني الذي يحبه أصلان.