تليق رواية إبراهيم أصلان الأخيرة "صديق قديم جدا"-هيئة الكتاب- والصادرة بعد رحيله بعامين، تليق لأن تكون اللحن الأخير لهذه الرحلة الفاتنة منذ "بحيرة المساء"-مجموعته القصصية في سبعينيات القرن الماضي، وحتي كتابه الأخير الصادر في الوقت نفسه مع الرواية" انطباعات صغيرة حول حادث كبير", السطور التالية ليست نقدا ولا قراءة ولا رأيا، بل هي محاولة لتلمس كيف يتسلل السرد ويفتنك ،وهو يجري مثل جريان الماء، لا تشعر به من فرط بساطته بل عاديته أيضا. تحتشد تلك الرواية الصغيرة بأزمان متعددة وإن كانت ليست متتالية، وأماكن مترامية ،وبشر يولدون ويعيشون ويستأذنون في نهاية الأمر ويغيّبهم الموت، في سلاسة آسرة حقا وساحرة مثل جريان الماء. ومن فرط بساطة الرواية ،تبدأ بحادثة عادية للغاية: أحد أصدقاء الراوي مات .وهكذا تبدأ رحلة الشجن لأيام الصبا ،ويتحدث الراوي عن صاحب عمره توفيق وأيامهما معا، وأيام عمله في البوستة ،وعقابه علي إهماله وإلقاء خطابات مواطني جاردن سيتي في الشارع تقريبا،وسفره إلي المحلة الكبري لقضاء فترة العقوبة. وباستثناء قصته القصيرة"الطواف"في أواخر ستينيات القرن الماضي، لم يقترب أصلان مطلقا من القرية المصرية، أما في "صديق قديم جدا" فيقدم تناولا مدهشا والراوي يقطع الحقول والقري علي دراجته..هناك في كل هذا شئ ما عصي علي الوصف.. هناك بساطة مفرطة وتحرر من الزمن. تأمل يختلط بشقاوة وإشارات حسيّة لبنات ونساء وشيخوخة قادرة علي اللعب . ليست هناك حكاية يحكيها أصلان، بل حكايات تجري جريان الماء،كما أن الزمن في الرواية لا علاقة له بالتتابع أو الفلاش باك أو تيار الوعي أو كل هذه الحنشصة والهلفطة، الزمن هو ما يقود إليه السرد ويجري جريان الماء . ليست هناك نوستالجيا أو استعادة أو ذكريات، واللغة هي لغة أصلان التي كانت قد وصلت إلي الذُري في "حجرتان وصالة"، آخرعمل روائي صدر له قبل رحيله، اللغة التي لا يعنيها إلا التوصيل ،اللغة المٌصفّاه المتقشفة، وبالطبع في الرواية ما يميّز أصلان من حيث الاستبعاد والاستغناء والمزيد من الاستبعاد، وهذه الاستقامة في الابتعاد عن الغنائية . تتناثر كل حكايات وشخوص واماكن وأزمنة "صديق قديم جدا" علي مدي صفحات الرواية، وتتفرق السُبل ،وتأخذ دوامة الدنيا بشر أصلان وترمي بهم في كل اتجاه، لكنهم ما يلبثون أن يعودوا خطفا.يستخدم أصلان كل التقنيات والأساليب ويتحرر منها جميعا في الوقت نفسه.ويتحرك حاملا حشدا من الأولاد والرجال والنساء ويستغرق في المُضيّ مثل جريان الماء.حكايات فضل الله عثمان وأيام البوستة في قصر الدوبارة والطواف في قري المحلة الكبري علي دراجة لتوزيع الجوابات ..كل هذه الخيوط يلمّها أصلان ليهدينا بعد أن غيّبه الموت عملا بالغ الحنوّ والرقة .. أبو خليل ..نهاره أبيض.