تطورت صناعة الكتاب في الدول الغربية عبر القرون الماضية إلي أن وصلنا إلي صناعة تتكون من حلقات عدة وهي 1. الطباعة 2. النشر 3. التوزيع 4. المكتبات التجارية والعامة 5. ومؤخرا الوكيل الأدبي ومؤسسات الدعاية والإعلام المتخصصة. بالطبع فإن هذه الصناعة تمر الآن بتغييرات جذرية بسبب الكتب الرقمية ebooks) لكن لنترك هذا التحول جانبا كي نفهم مسار التطور الحاصل ووضع الدول العربية فيما يخص هذه الصناعة. لو عدنا إلي بدايات اختراع مطبعة جوتنبرج نجد أن أصحاب المطابع كانوا أيضا ينشرون الكتب ويبيعونها في الأسواق المحلية وبعد وقت قليل بدأوا يذهبون إلي مدن مجاورة ليسوّقوا كتبهم ثم بعد مرور ما يقارب المئة عام أصبحوا يذهبون إلي مناطق غير ناطقة بنفس لغات تلك الكتب، عندها بدأت حركة ترجمة بنطاق ضيق. وكانت المعارض الأوروبية في القرن السادس عشر والسابع عشر كما المعارض العربية اليوم أشبه بالسيرك المتنقل. من هنا ظهرت فرصة للتجار لشراء كتب من مدينة ما ونقلها ثم بيعها خارج إطار المعارض، تلك المنافذ لبيع الكتب كانت بداية المكتبة التجارية الحديثة. ظهور هذه المكتبات التي كان يخدمها ناقلون علي عربات بسيطة أدي إلي ازدياد الحركة التجارية وكانت دافعاً لتوسيع إنتاج الكتب. استقلت الطباعة تدريجيا وفقًا لمبدأ اقتصاديات الكم حيث أصبح الناشر متفرغاً أكثر لمهام إصدار كتب متنوعة وجاذبة، وأصبح هناك اعتبار لمسألة الجودة في صناعة الكتاب فيما يتعلق بالنص والإخراج والطباعة والتجليد، وبهذا بدأت ملامح مهنة النشر بالتشكل.
مع اختراع المحرك البخاري وثورة الانتقالات بواسطة القطارات والسفن ازداد عدد المكتبات وبالتالي عدد الكتب وكان مصحوبًا بالتوازي مع ازدياد في نسبة محو الأمية وازدياد في نسبة القراءة وظهور عادات القراءة. ففي بداية الأمر كان الإنجيل يشكل الكتاب الأساسي ولم يكن هناك كتب كثيرة لكن مع الوقت أصبح هناك قوائم الكتب الأكثر مبيعًا وأصبح هناك مؤلفون كبار سواء في الأدب أو في العلوم أو الإنسانيات. ازدياد الاصدارات وسهولة نقلها دفعا بأصحاب المكتبات لتطوير قوائم وقواعد بيانات الكتب المتداولة ولكن مع كثرة الناشرين وتراكم العناوين المتاحة أصبح هذا الأمر بالغ التعقيد خصوصًا أن المكتبات كانت تقوم بالعملية اللوجيستية بأكملها ونتيجة لهذه المشكلة انتهز البعض الفرصة للقيام بإعداد قوائم وتخزين مركزي وخدمة توصيل وتحصيل للناشر مما أتاح للمكتبات التفرغ بشكل أكبر لمسألة توسيع نشاط منافذ البيع وتطوير إدارتها. ونشأت بالتوازي ظاهرة دور النشر المتخصصة في كل مجال وقامت دور النشر الكبري بحيازة الدور المتخصصة مع الحفاظ علي أسمائها الخاصة تحت مظلة الاسم الأكبر لكي تضم محررين مختصين لكل مجال وجاءت بعدها التخصصات الفرعية في كل حلقة لتشكل صناعة كتاب. وآخر حلقة جاءت كانت الوكيل الأدبي كوسيط بين الكاتب ودار النشر وشركات الدعاية التي تتعامل معها أحيانًا دار النشر لترويج أعمالها. كان هذا التطور مصحوبا بالهجرة من الريف إلي المدينة ومحو الأمية وتطورات في مجال الصحافة حيث كانت الجرائد والمجلات تباع مع الكتب.إذًا نجد أن تطور تاريخ النشر ليس عبارة عن تطورٍ تقنيٍ فقط لكنه مرتبط أيضًا بالتطور الاجتماعي.
إذا أردنا أن نفهم أين نحن اليوم من صناعة الكتاب فنجد أننا بعيدون كل البعد عن التخصص، فالناشر الكبير هو أيضا صاحب مطبعة و سلسلة مكتبات وينشر في كل المجالات ويذهب إلي المعارض لبيع كتبه ويدير مسألة البيع ويروج لكتبه ويتعامل مع المؤلفين ونادرا ما نري أن الناشر يقوم بعمليه التحرير فباختصار إن جميع حلقات صناعة الكتاب تتلخص في الناشر العربي مما يعوق قيام صناعة كتاب متطورة. نلاحظ أن العالم العربي في القرن العشرين لم يخل من ظاهرة الهجرة إلي المدينة ترافقت مع انخفاض في نسبة الأمية، لكن هذا لم يكن مصحوبًا بازدياد نسبة انتاج الكتب أو نسبة القراءة. شهدنا عبر السنين الماضية ظهور مكتبات متعددة الأفرع ومكتبات تبحث عن عناوين متميزة من دول عربية أخري، وحتي الآن هذه التجارب لم تنتشر بشكل جيد لأن مجال بيع الكتب لايزال محدوداً فالكثير ممن يعملون فيه دخلاء غير محترفين ويفقدون سمعتهم سريعاً بسبب عدم الالتزام مع دور النشر وبالتالي عدد المكتبات ذات المستوي الرفيع التي يمكن التعاون معها لم يصل إلي مستوي ما يسمي (الكتلة الحرجة) بمعني وجود عدد من هذه المكتبات يضطرنا إلي إحداث تطوير جذري في عملية صناعة الكتاب وبالمقابل فإن الناشرين الكبار عادة يطبعون ألف نسخة فقط من كتابٍ ما يُوزع عربيًا علي ما يقارب ثلاث مائة مليون نسمة! ولا يتجاوز عدد الكتب المطبوعة سنويًا الخمسين عنواناً. رغم ذلك فهناك العديد من الظواهر الإيجابية، مثل ظاهرة الجوائز الأدبية في العالم العربي التي أسهمت بشكل أساسي في انتشار بعض الأسماء المحلية علي صعيد إقليمي، كما يلاحظ أن بعض المكتبات الصغيرة انتبهت إلي نقص في الكتب الهامة الصادرة في بلدان أخري تقوم مكتبات متوسطة الشهرة بالمجازفة في استيراد مثل هذه الكتب وتوزيعها لها علي نطاق ضيق وشبه عشوائي. مع ازدياد منافذ البيع الأكثر مهنية والتي تهتم بتنويع كتبها وانتشار فروعها وبالتالي ازدياد عدد دور النشر والإصدارات سنجد أن هناك حاجة ملحّة لدور الموزع حيث أن من المستحيل لمكتبة أن تفتح حسابات مع مئات دور النشر في بلدان مختلفة في نفس الوقت. الحل يكون بوجود قاعدة بيانات متكاملة يقوم بكتابتها وتحديثها موزع مع مخازن كبري وعمليات لوجيستية تضم نقل الكتب ومتابعة حركة بيع المكتبات لكي تزودها بالكتب الناقصة وتُحّدث القوائم ومخزون الكتب وفق الكتب الجديدة في السوق ثم محاسبة دور النشر والمكتبات معًا. في حالة وجود عدد كافٍ من المكتبات رفيعة المستوي وعدد قليل من الموزعين (أي صناعة كتاب متطورة لا تضم الكثير من الموزعين) سيعني ذلك الانتهاء من السيرك المتنقل الذي نطلق عليه معارض وسيستبدل بمعارض مهنية لتبادل الخبرات وبيع وشراء الحقوق وبالطبع لا علاقة للجمهور بهذه الأنشطة. من المؤكد حدوث تطور خلق الحاجة لإضافة حلقة التوزيع إلي حلقات مهنة النشر، وبالطبع تستطيع الدول أن تتدخل لتسريع هذا المسار الذي تأخرنا فيه ببعض الخطوات: دعم المكتبات التجارية من خلال قروض وإيجارات منخفضة في أماكن متميزة. دعم دور النشر من خلال دعم الطباعة والترجمة والنشر بالتكليف (أي أن يُكَلِّف الناشر مؤلف أو مجموعة من المؤلفين بكتابة دراساتٍ متخصصة). دعم للقاريء من خلال كوبونات لشراء الكتب وتشجيعه من خلال مسابقات ونوادي قراءة. تسهيلات في عملية الشحن وإلغاء أجهزة الرقابة ودعم عملية الشحن. تنظيم معارض في الأقاليم والمناطق الفقيرة باشتراكات زهيدة.
رغم أن هذه المشاريع تبدو مكلفة إلا أنها ممكنة التحقيق بنسبة بسيطة من الميزانية الهائلة لوزارة الثقافة. فعلي الدولة إدراك فشل نموذج مركزيتها في الانتاج الثقافي والبدء بالمساهمة في بناء صناعة نشر حدثية لأن الإحصائيات تشير إلي نتائج فاضحة ومخيفة، فعلي سبيل المثال قيمة صناعة الكتاب في العالم العربي لم تتعد المليار دولار (لا يوجد إحصائيات موكدة) في مقابل أكثر من 27 مليار دولار في أمريكا. لذلك فمن غير المفاجئ أن العالم العربي لا ينتج معرفة في الحقول الأدبية والعلمية سواء لنفسه أو للعالم. إن صناعة النشر هي من أهم وسائل تداول المعرفة، فالرهان الذي نواجهه الآن هو توسيع نطاق تداول المعرفة في العالم العربي كي نستطيع لاحقًا انتاجها.