أسعار سبائك الذهب اليوم الثلاثاء 21-5-2024 محليا وعالميا    صحيفة عبرية: نتنياهو إلى قفص الاتهام بعد قيادة إسرائيل لأكبر كارثة في تاريخها    «القاهرة الإخبارية»: حزب الله أعلن رفضه التفاوض قبل وقف العدوان على غزة    رسميًا.. الزمالك يعلن إصابة أحمد حمدي بقطع في الرباط الصليبي    ساوثجيت يكشف سبب استبعاد راشفورد وهندرسون من قائمة إنجلترا في يورو 2024    تقارير: ماتيب قريب من البقاء في الدوري الإنجليزي    المنتخب المغربية: لاعب بركان منقذ عماد نبيل ضمن اهتمامات الزمالك    مبروك للناجحين..نتيجة الشهادة الابتدائية 2024 بالاسم ورقم الجلوس كل المحافظات    موعد عيد الاضحى 2024 اجازة العيد الكبير لموظفين القطاع العام والخاص    خالد الجندي: أهل القرآن قوة ناعمة مصرية غزت العالم    تحية وتهنئة بمناسبة قدوم عيد الأضحى المبارك لعام 2024    خالد الجندي: حافظ القرآن يشفع لوالديه ودعاؤه مستجاب    يوم الشاي العالمي.. حقائق مذهلة عن المشروب الأكثر شعبية في التاريخ    رئيس مكتبة الإسكندرية: الرئيس السيسي يلعب دورا كبيرا لتحقيق السلم بالمنطقة    رئيس الوزراء يتابع موقف منظومة رد الأعباء التصديرية    سامح شكرى لوزيرة خارجية هولندا: نرفض بشكل قاطع سياسات تهجير الفلسطينيين    موقع إلكتروني ولجنة استشارية، البلشي يعلن عدة إجراءات تنظيمية لمؤتمر نقابة الصحفيين (صور)    لست وحدك يا موتا.. تقرير: يوفنتوس يستهدف التعاقد مع كالافيوري    البنك المركزي يسحب سيولة بقيمة 3.7 تريليون جنيه في 5 عطاءات للسوق المفتوحة (تفاصيل)    الهيئة الوطنية للإعلام تعتمد 12 صوتا جديدا من القراء بإذاعة القرآن الكريم    محافظة أسوان تستعد لإطلاق حملة التوعية "اعرف حقك" للأمان الإلكترونى    جنايات المنصورة تحيل أوراق أب ونجليه للمفتى لقتلهم شخصا بسبب خلافات الجيرة    دعاء اشتداد الحر عن النبي.. اغتنمه في هذه الموجة الحارة    "السرفيس" أزمة تبحث عن حل ببني سويف.. سيارات دون ترخيص يقودها أطفال وبلطجية    جيفرى هينتون: الذكاء الاصطناعى سيزيد ثروة الأغنياء فقط    تأجيل محاكمة 12 متهمًا في قضية رشوة وزارة الري ل25 يونيو المقبل    العثور على جثة طفل في ترعة بقنا    وزير الري: إيفاد خبراء مصريين في مجال تخطيط وتحسين إدارة المياه إلى زيمبابوي    أبو علي يتسلم تصميم قميص المصري الجديد من بوما    خليفة ميسي يقترب من الدوري السعودي    محافظ أسيوط: مواصلة حملات نظافة وصيانة لكشافات الإنارة بحي شرق    جهاد الدينارى تشارك فى المحور الفكرى "مبدعات تحت القصف" بمهرجان إيزيس    كيت بلانشيت.. أسترالية بقلب فلسطينى    لمواليد برج الثور.. توقعات الأسبوع الأخير من شهر مايو 2024 (تفاصيل)    برلمانية تطالب بوقف تراخيص تشغيل شركات النقل الذكي لحين التزامها بالضوابط    مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى.. والاحتلال يعتقل 14 فلسطينيا من الضفة    أمين الفتوى: قائمة المنقولات الزوجية ليست واجبة    هل يجبُ عليَّ الحجُّ بمجرد استطاعتي، أم يجوزُ لي تأجيلُه؟.. الأزهر للفتوى يوضح    محكمة بورسعيد تقضي بالسجن 5 سنوات مع النفاذ على قاتل 3 شباب وسيدة    رئيس الوزراء يتابع عددًا من ملفات عمل الهيئة المصرية للشراء الموحد والتموين الطبي    «الرعاية الصحية» تدشن برنامجا تدريبيا بالمستشفيات حول الإصابات الجماعية    أفضل نظام غذائى للأطفال فى موجة الحر.. أطعمة ممنوعة    الجامعة العربية والحصاد المر!    «غرفة الإسكندرية» تستقبل وفد سعودي لبحث سبل التعاون المشترك    «بيطري المنيا»: تنفيذ 3 قوافل بيطرية مجانية بالقرى الأكثر احتياجًا    يوسف زيدان يرد على أسامة الأزهري.. هل وافق على إجراء المناظرة؟ (تفاصيل)    «الشراء الموحد»: الشراكة مع «أكياس الدم اليابانية» تشمل التصدير الحصري للشرق الأوسط    لهذا السبب.. عباس أبو الحسن يتصدر تريند "جوجل" بالسعودية    وزير التعليم: مدارس IPS الدولية حازت على ثقة المجتمع المصري    حفل تأبين الدكتور أحمد فتحي سرور بحضور أسرته.. 21 صورة تكشف التفاصيل    «القومي للمرأة» يوضح حق المرأة في «الكد والسعاية»: تعويض عادل وتقدير شرعي    «ختامها مسك».. طلاب الشهادة الإعدادية في البحيرة يؤدون امتحان اللغة الإنجليزية دون مشاكل أو تسريبات    صعود جماعي لمؤشرات البورصة في بداية تعاملات الثلاثاء    اليوم.. «خارجية النواب» تناقش موازنة وزارة الهجرة للعام المالي 2024-2025    مندوب مصر بالأمم المتحدة لأعضاء مجلس الأمن: أوقفوا الحرب في غزة    عمر العرجون: أحمد حمدي أفضل لاعب في الزمالك.. وأندية مصرية كبرى فاوضتني    مساعد وزير الخارجية الإماراتي: مصر المكون الرئيسي الذي يحفظ أمن المنطقة العربية    بوتين: مجمع الوقود والطاقة الروسي يتطور ويلبي احتياجات البلاد رغم العقوبات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عن الموت والجمال والحب المثلي:
الاحتفال الأزلي بعنفوان الرغبة!
نشر في أخبار الأدب يوم 03 - 07 - 2010

هناك جسور خفية تمتد بين بعض الأعمال الأدبية، المكتوبة في أماكن وأزمنة متباينة، في لعبة من ألعاب بيت المرايا، دون أن تحيل بالضرورة إلي جدلية التأثير والتأثر بصيغتها المباشرة، بل هي جسور تكاد لا توجد إلا في ذهن قارئ ما في إطار فعل قراءة محدد، أي أن مسئولية هذه العلاقات الخفية تقع في أغلب الأحيان علي عاتق القارئ وحده. هذا المستهل غرضه الأساسي إعلان مسئوليتي الكاملة عن الربط ما بين نوفيلا سيد الوكيل الصادرة مؤخرا عن دار الناشر، بعنوان "شارع بسادة"، أو بين بعض خيوطها علي وجه التحديد، وبين أجواء " الموت في فينسيا" لتوماس مان.
ينتمي العملان إلي نوع أدبي واحد هو النوفيلا، وهي مصادفة لا دخل لها بالجسور التي أتخيلها هنا إلا قليلا، والنوفيلا حالة سردية وسطي ما بين القصة والرواية، وغالبا ما يشار لهذين الطرفين عند تعريفها، وأحيانا ما تعرف بعدد كلماتها، الذي يترواح من 10 آلاف إلي 70 ألف كلمة، لتمييزها عن الرواية، أختها الكبري، والقصة الابنة الصغري، لكن هذه التعريفات أيضا تولي اهتمامها لمسألة الصراع والحبكات، فتشير لاحتواء النوفيلا علي عدد أقل من الصراعات مما تحتويه الرواية، ولكن علي نحو أكثر تعقيدا من القصة القصيرة.
حرص سيد الوكيل علي الإشارة إلي كتابه السردي الأحدث شارع بسادة بوصفه نوفيلا، رغم توفر هذا الشكل في سردنا الحديث عند أسماء كبيرة مثل يحي حقي وعبد الحكيم قاسم، دون إشارة واضحة لمسماه، ومع هذا فإن الوكيل يميل لكسر حدود النوفيلا، بصيغتها التقليدية، من ناحيتين، أولا كل فصل (فقرة أو قطعة سردية) من فصول كتابه له عنوانه الخاص ويمكن قراءته منفصلا والتعامل معه باعتباره وحدة سردية مستقلة، دون مشقة أو ابتسار، وبعض تلك الفقرات تم نشره في نص سابق للكاتب، في أول مجموعته القصصية "مثل واحد آخر"، وظهرت في شارع بسادة دون تغييرات ذات شأن. الأمر الثاني _ ولعله يرتبط من بعيد بمسألة الوحدات السردية المتصلة المنفصلة _ هو أن النوفيلا في صيغتها التقليدية لا تلتفت لحبكات أو صراعات ثانوية فرعية، بل تمسك بخيط واحد أساسا لا تفلته إلي النهاية، وهو ما تحقق بصرامة في نوفيلا توماس مان "الموت في فينسيا". أما "شارع بسادة" فتقوم عن عمد بإفلات هذا الخيط الواحد، بل لا تمسك به من البداية، وربما من الفصل الأول للنوفيلا، مشهد محطة القطار، حيث يقدم لنا الرواي شخصيات تمر بالسرد مرور الكرام، رغم أنها واعدة، وهؤلاء أغلبهم من الغرباء ليسوا من السكان الأصليين للبلدة، ولا يستعيدهم السرد في ثنايا اللوحات والفصول التالية بالمرة، وبعد ذلك تقدم شارع بسادة مجموعة لوحاتها أو حكاياتها الصغيرة التي يمكن اعتبارها جميعا، حبكات ثانوية وفرعية. هي دوائر متواشجة، يضمها إطار مكاني وزمني موحد، تغلفها الحالة اللغوية نفسها، كل هذا صحيح، لكن أيا منها لا يقدم نفسه بوصفه صاحب الثقل المركزي بينها، منطلقا مفترضا لبقية الخيوط والحالات. وكأن هذا الانزياح الجزئي عن حدود النوفيلا إلي حدود المتتالية القصصية، دون التورط كذلك في معضلات بنية العالم الروائي باحتمالاته المتنوعة، يتم نشدانا لحرية الشكل وللتمويه علي أي دلالة مركزية قد تنتج عن قراءة متسرعة، إلا إذا انحازت هذه القراءة أو تلك، عن وعي وقصد، إلي تلك الحكاية دون الأخري واصطنعتها منطلقا لرؤية كلية مفترضة للعمل.
الحب المثلي
وهكذا فهناك الكثير مما قيل ويمكن قوله حول شارع بسادة، بناء علي تلك الخيوط المتناثرة، نسكت عنه عامدين هنا، كما نسكت عما يمكن قوله حول مغامرتها اللغوية، ومدارها نقل التجربة الحسية الحية بلغة لا تخجل من شعريتها الخاصة، ولا تكتفي بالوقوف باردة محايدة إزاء التجربة... ننحي هذا كله جانبا لصالح التريث أمام خيط الحب المثلي الذي طرحه العمل، وذلك أساسا لندرة الأعمال الأدبية المصرية الجديدة التي تتناول مسألة الميل الجنسي المثلي، دون ابتذال أو تسطيح، ودون أن يضطر المؤلف لقتل النموذج "الشاذ" في نهاية العمل (حاتم رشيد نموذجا _ عمارة يعقوبيان) إذعانا _ ربما _ لقانون العدالة الشعرية: الآثم نهايته بشعة، أو مغازلةً _ ربما _ لوعي ما نسميه برجل الشارع العادي: الآثم نهايته بشعة كذلك.
وهنا تلتقي نوفيلا شارع بسادة _ علي الجسر الذي تتخيله هذه القراءة _ بنوفيلا الموت في فينسيا التي نكتفي بوضعها فقط في خلفية المشهد كمجرعية هامة، لأهمية ما طرحته _ جماليا ومعرفيا _ من هواجس وتأملات حول الحب المثلي، ليس فقط باعتباره ذلك النزوع الآثم والمدان من قبل الأديان والأعراف والأخلاق، ولكن أساسا باعتباره دراما إنسانية، يغزل خيوطها الموت عند قدمي المعبود، وفقدان الأمل في تحقق الرغبة، وضعف أدوات الفن إزاء اكتمال الجمال البشري الحي. هواجس الموت والجمال تلك تتناثر أيضا في جنبات شارع بسادة، علي طريقتها الخاصة.
الحب والقتل والجمال
في فبراير من العام 1907 نشر الروائي الفرنسي مارسيل بروست مقالا بعنوان "عواطف ولد يريد قتل أمه"، مستوحيا مقاله من حياة صديقه هنري فان بلارنبرج، والذي أقدم بالفعل علي قتل أمه التي يحبها ثم انتحر. ورأي بروست في هذا الحادث دليلا علي الحب، ووصف عملية قتل الابن لأمه بأنه عمل يكاد يكون جميلا. واختتم بروست مقاله كالتالي: "وددتُ أن أبين كيف أن تفجر اللوثة وسفك الدماء قد حدثا في جو من الجمال الأخلاقي الذي يجمع بين النقاء والدين. ورغم هذا فإن الدماء المسفوكة لم تنجح في تلطيخ هذا الجمال."
كأن بروست يري هنا أيضا جسرا خفيا معلقا بين الموت (وهو هنا قتل، للأم) وبين الجمال، وكأن القتل هو الحد الأقصي لفعل الحب، وهي فكرة لا يصعب أن نجدها، حتي في أدبيات الحب والغرام الأشد سوقية وابتذالا، غير أن ارتباطها هنا بعشق الأم والرغبة في التحرر من هذا العشق هو ما يضعها في إطار مغاير. وللأم كنموذج أول _ وربما متوحش _ للجمال حضور خاص في واحد من أهم وحدات السرد بشارع بسادة، إنه الولد الذي يرسم الوجوه في حجرة مهجورة، كان مرصودا للعشق، وممسوسا بالجمال... وهذا هو عنوان هذه الوحدة السردية. هذا الولد الذي أتي إلي شارع بسادة، حيث سيعيش مع جدته، بصحبة أمه التي سرعان ما تتركه هناك، وتظل حاضرة رغم ذلك، فلا يكاد يتسع هذا الفصل الصغير إلا لها، ولتأمل مشهدها الفاتن، بعيني الولد، وهو نفسه الذي يطارده الصغار، قائلين: "ابن الحلوة أهه"، وكأنهم _ بتعليق السارد- يحررون أنفسهم من الموت، أما سؤال الولد فكان: فمن يحرر نفسه من الجمال؟
ما الذي يجعل هذا الولد يرسم صورا لناس وملائكة وشياطين ويطمع أن ينفخ فيهم الله من روحه؟ وهل لما يرسمه هذا الولد علاقة بكل من يجمعهم شارع بسادة من ناس وملائكة وشياطين؟ ألا يمكن لقراءة منحازة لهذا الخيط عما عداه أن تري في هذا الولد البدين الخجول صورة مصغرة لصانع العالم كله من أوله لآخره، يقول: "فيما بعد سيتعلم كيف يكتب ذلك علي الورق" متحدثا عن لحظات الاشتهاء الأولي، ذكرته بها امرأة يقابلها في جنازة أمه.
سؤال الفن شيء آخر، إنه يكافح، مستنفدا كل حيلة، للإمساك بالجمال، ذلك الهش، والعابر وسريع الزوال. الولد البدين الخجول يرسم شوارع وبيوت ويجعل ناسا يسكنوها، فإذا أعجبت الله، كما أسر له الملاك، سيمنحها أرواحا ملونة. يرسم أمه، ولدي موتها أشرف بنفسه علي وضع اللمسات الأخيرة في لوحته الأولي. وكأن ميزان الموت والجمال هنا تتأرجح علي جانبيه كفتان، تعلو هذه لتهبط أختها، في رقصة متوازنة وعجيبة.
ولكن الفن لا ييأس من المحاولة، إذ يأتي سقوط الكاتب جوستاف فون آشنباخ، الذي يطارد تاجيو، الفتي البولندي علي شاطئ منتجع في فينيسا أوائل القرن العشرين، دون كلمة أو إشارة، غير "أحبك" واحدة يتيمة أسر بها إلي نفسه وهو يكاد يموت خجلا وتعبا. يطارده وكأنه شبح يتقدمه علي الدوام، ويروغ منه في المنعطفات مع أسرته، سرب إناث صامتات مثل راهبات متشابهات، ومع ذلك لا ييأس فون آشنباخ، يظل يحاول، فقد : "أصبح فجأة راغبا في إضاءته بنور كلماته، اتجهت رغبته في شوق إلي التعبير عن الحالة الراهنة لتاجيو، بالكتابة عن بنية الغلام واتخاذها مادة لعمله، وسيتابع بأسلوبه خطوط هذا الجسد الذي يبدو له ربانيا، وسينظر في جماله بطريقة عقلانية" وظلت محاولته تلك نوعا من المرواغة أمام المكتوب، لا في صفحة الكتاب، ولكن علي صفحة العالم المادي، نوعا من المقاومة اليائسة، التشبث الأخير بحيل الفن ورصانة الفكر. فكاتبنا الجليل لن يتتبع خطوط جسد الولد بأصابعه، كما سيكشف له عن ذلك حلم مقتضب ومشوش قبل موته بساعات، ولكن بأسلوبه، وكأنه يرجئ بهذا الموت، يعانده، موته هو وقد صار شيخا هرما، ولم تفلح لمسات الزينة أو الصبغة التي وضعها له الحلاق أن تخفي آثار الزمن، وموت الولد _ أو علي الأقل تغيره _ رغم أنه جماله نفسه مهدد، إذ يبدو عليه شحوب المرض طوال الوقت.
هشاشة الجمال وظل الموت المخيم عليه دائما، معان من السهل تتبعها في الخيوط السردية الأخري بشارع بسادة، حتي بعيدا عن الولد البدين الخجول، صانع العالم ومكتشف الأسرار. هذه الهشاشة نلمحها أيضا عند تأمل شخصية حسونة، الحسون، عصفور الحقول الشارد بحثا عن رزقه الشحيح من الملاليم ومن الحب كذلك، بائع سريح في زحام الأسواق بين الفلاحين، رافعا ذيل جلبابه كاشفا عن مؤخرته بلا خجل، علي هامش الهامش، بلا أهل أو سند.
عصفور الحقول حسونة، يرفض الموت، علي طريقته، وكأنه في الحين نفسه يرفض الحب كذلك، الحب المعمر، الحب طويل الأجل، حب البيوت أو حتي أوكار المتعة السرية. وهو يرفض الموت حين يتجنب الذهاب بمن يصطادهم من الشباب العابرين إلي المقابر، ذلك أن حارس الجبانات هناك، يعرفه جيدا ولن يفوت تلك الفرصة، وهو _ حسونة _ مهما كان، يكره، أن تمس مؤخرته يد اعتادت أن تجوس في جثث الموتي. وفي مقابل الأم، النموذج الأولي للجمال الوحشي عند الولد البدين الخجول أو الفتي تاجيو، لدي حسونة سيدة آلاجا، المومس القديمة، التي اكتفت الآن بنصبة شاي وقهوة، تستقبل تحت مظلة الخيش عشاقها القدامي، وتحنو هناك علي حسونة. تبنته، شريطة أن يجري علي رزقه، وأن "يسترجل" شوية، وتروح تحكي له في الأمسيات كثيرا من قصص العشق.
ثنائيات أخري
مع حسونة، لا وجود للدراما الثقيلة التي تنتجها تناقضات مثل الحياة والموت والذكورة والأنوثة والشياطين والملائكة، وهي الثنائيات التي اعتمدتها نوفيلا شارع بسادة، لا لشئ إلا لتفككها وتتلاعب بها، وهو ما يظهر بوضوح لا مزيد عليه في شخصية الحاج سمير وهدان، وهنا تبرز التناقضات وصار من الممكن بالتالي إنتاج الدراما.
هناك _ في فينسيا _ ثنائيات أخري فاعلة بقوة، من ناحية شموخ الفكر وأنصاب الإرادة الإنسانية المتعالية، وعلي الطرف الآخر الشغف الحسي وتدفق الأهواء والغرائز الطليقة، ولم تكن معضلة الكاتب الكبير صاحب اللقب السامي فون آشنباخ سوي الاتكاء المبالغ فيه علي أحد طرفي المعادلة، بعد أن قضي عمره كله متساميا، آخذا نفسه بالشدة، مكرسا نفسه لروتين عمله الصارم، محققا الصورة المثالية التي ينشدها القراء والمعجبون، والأهم أعضاء الأسرة الكبيرة التي ينتمي إليها، وهكذا وحين يعتصره الشغف في قبضته، يقاوم مقاومة اليائس، ويعلن رغبته في مغادرة فينسيا، ويحزم حقائبه، ويصل للمحطة التالية، وهناك كانت تنتظره مفاجأة صغيرة، حيث فقدت حقائبه وسافرت في اتجاه آخر، وراح يبالغ في إظهار نقمته وسخطه، مواريا الفرح المرتعش بداخله، يمكنه الآن أن يستسلم لقدره، يعود من جديد إلي فينسيا، إلي
حيث يتمشي المعبود، تاجيو، علي الشاطئ كل صباح، ويلعب مع أقرانه. سيعود، لكنه لن يستطيع العودة إلي صباه، رغم جهود المزين ورشات البودرة وأقلام الحواجب والصبغة، بوسعه علي الأقل أن يموت، وقد سيطر الوباء علي فينسيا، أمام الهيكل الفاتن للغلام، هناك، يبدو مظللا بالكامل أمام نور الشمس الغاربة في الأفق... الاحتفال الأزلي بطاقة الحياة، واكتمال لوحة الجمال الحي وعنفوان الرغبة، كل هذا قادر علي إخراس صوت الفكر والإرادة وطموحات الفن في التقييد والتثبيت والخلود، الزوال جميل، والجميل زائل، ينكمش الفنان ويلملم أوراقه، ويأتون لحمله من مقعده علي الشاطئ، بعد أن فقد العالم واحدا من أهم كتابه.
جوستاف فون آشنباخ هو هنا أقرب إلي سمير وهدان، بطبيعة الحال، منه إلي حسونة، فالرغبة مقموعة بحكم تناقضات زرعتها المؤسسات الاجتماعية باختلاف ألوانها، وقيدت بها المنتمين إليها علي اختلافهم، واختلاف أهوائهم وميولهم. لدي هذه المؤسسات الاجتماعية يوجد أبيض وأسود، ويوجد خير وشر، تماما كما يوجد الذكر والأنثي. ونتعرف علي ميول سمير وهدان الجنسية، من خلال إطار أسطوري خرافي، يلقي عليه سمير نفسه _ وربما النوفيلا كذلك _ مسؤولية هذه الميول، وكأنه برئ منها، فأمه كانت تتمني الولد بعد البنات، فلمس ولي صالح البذرة التي في بطنها وجعل لها جسد ذكر فحل، لكن الولي الصالح ينسي أن يبدل الروح روحا أخري، فبقيت روح الأنثي سجينة جسد الذكر. هنا نلحظ أيضا ثنائية الروح والجسد، وكأن سمير وهدان _ بوعي أو بدون وعي _ يستخدم ثنائيات رسخها المجتمع وسكنت من فجر التاريخ في وعي الجماعة الإنسانية، وبدونها لا تنهض المؤسسة الاجتماعية الأقدم وهي الدين، يستخدم هذه الثنائيات نفسها، لكي يؤطر ميوله، يضعها في حكاية أسطورية مثل الحكايات التي يعتمدها الدين وتحمل في داخلها تاريخ الإنسان.
حسونة خارج أسطورة الثنائيات، خارج المؤسسة الاجتماعية ولا تقدم له النوفيلا دراما خاصة به؛ رغم ما يوجد من إمكانيات حيث يسعي لرزقه الشحيح من الجنس مع مرتادي السوق، ممن لا يبخلون عليه بسيجارة، أو يشترون بقرش سوداني، مغامرين بفضيحة لو رآهم أحد معه، "وهو يقبل عطاياهم باعتبارها عربون محبة، وتهيئة لموعد آمن لا يجيئون فيه عادة".
باستسلام فون آشنباخ لشغفه يستسلم للموت، لأنه مستسلم حتي النخاع إلي أحكام المؤسسة الاجتماعية وقوانينها، لم يحدث الفتي بكلمة، وتتبع خيوط جسده بالكلمات علي الورق، ولم يترك الزمام لانفعالاته الشبقية إلا في حلم هو أقرب إلي الكابوس، واحتمي بالأساطير علي الدوام في تغزله الخاص ومناجاته السرية للفتي، واستعان _ غير مرة _ بعلاقة الفيلسوف الشيخ بالمتعلم الشاب عند الفلاسفة الإغريق، ومال للجنس العقلي المتمثل في الحوار المنطقي وأسرار الوجود: "لم يسبق له أن وجد طعم الكلمات أكثر حلاوة مما هي عليه الآن، لم يعرف أبدا أن الحب يقيم في داخل الكلمات علي هذا النحو".
سمير وهدان يشعر بأنه متهم في قضية أمام الوجود كله، فلا يتوقف عن الدفاع عن نفسه _ عن ميوله _ لحظة واحدة، ولا يتحدث إلا بلسان المؤسسة، ثنائياتها وأساطيرها، ويؤكد مرة بعد أخري علي اختلافه عن حسونة، يخاطب علي، الذي استطاع أن يمس الروح الأنثوية التي بداخله مخترقا حجاب الجسد الذكوري: "أنا يا علي لست مثل حسونة..." ثم بعد قليل: "لا فرق عندك بيني وبين حسونة..." وأيضا: "هذه روحي يا علي، روحي التي نسيتها يد مباركة في جسدي الجميل فحولته إلي ثلاجة.. جسدي ثلاجة جميلة، تحفظ روحا لا تغني سوي بين يديك، أنا عاشقك وقاتلك، وأنت دفء روحي المنسية... روح منسية مثل روحي لا يوقظها سوي حيوان مثلك فيه رطوبة الطين ورائحة سعف النخيل..." نعم، دفاع هو أقرب للشعر، يصر علي الابتعاد عن نموذج حسونة، تماما كما اشمأز جوستاف فون آشنباخ من العجوز المتصابي ذي الشعر الأحمر علي متن السفينة، السكران مرافق الشباب، وكلاهما يستعين بتجليات المؤسسة الاجتماعية السامية لينأي بنفسه عن الابتذال، عن العار، عن الجنس بلا مشهيات ولا مقبلات، عن الجنس وفقط، كالحيوانات، إما بالفن، حيث يمكن للحب أن يقيم داخل الكلمات، وإما بالحب _ الابن الأشهر للمؤسسات الاجتماعية، بجميع تجلياته الدينية والشعرية _ حيث يمكن لرغبة سمير وهدان أن تتميز وتتسامي عن حسونة وأمثاله، من الحيوانات.
حسونة لا يدافع عن نفسه، ليس متهما، هو خارج الحسابات أساسا، ولعله فعلا لا يفرق بين الأجساد التي تتناوب عليه، ولكننا نعرف علي الأقل واحدا لم يستلم له حسونة، وهو حارس الجبانات، لأنه يكره الموت، لأنه يهيم علي وجهه بين الأجساد والأشواق غير المشبعة، مهما أشبعناها. وفي اللحظة التي يهرب فيها حسونة من الموت نجد سمير وهدان يقتل عليا، وإن لم يقتله بيده، يكتفي بأن وشي بمعبوده لزوج المرأة التي نام معها، ودله علي الأدلة والقرائن الدامغة، هذه هي نوعية الدراما التي تنتجها المؤسسات الاجتماعية، والنتيجة المتوقعة علي الدوام من صراع وجدلية المتنافضات: يقتل صاحب الرغبة غير المتحققة فتاه الذي أشعل فيه الحرائق ولمس روحه الأنثوية، وتمسك الكوليرا بالطبقات التي تعفنت علي شواطئ فينسيا، وقد فات الأوان للكاتب الكبير أن يعود عن مشوار عمره كله، فيتجمد مثل تمثال ملح أمام مشهد المعبود الحي، بعد أن رُفعت الأقلام وطويت الصحف.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.