طلاب «الإعدادية» في البحيرة يؤدون مادة الهندسة.. شكاوي من صعوبة الامتحان    نائب رئيس جامعة حلوان الأهلية يتفقد الامتحانات.. ويؤكد: الأولوية لراحة الطلاب وسلامتهم    جامعة كفر الشيخ الثالث محليًا فى تصنيف التايمز للجامعات الناشئة    وزيرة الهجرة تترأس أول اجتماعات اللجنة العليا للهجرة    تراجع السكر وارتفاع الزيت.. سعر السلع الأساسية بالأسواق اليوم السبت 18 مايو 2024    بطاقة إنتاجية 6 ملايين وحدة.. رئيس الوزراء يتفقد مجمع مصانع «سامسونج» ببني سويف (تفاصيل)    وزير النقل يتفقد «محطة مصر»: لا وجود لمتقاعس.. وإثابة المجتهدين    «أكسيوس»: محادثات أمريكية إيرانية «غير مباشرة» لتجنب التصعيد في المنطقة    مطالب حقوقية بمساءلة إسرائيل على جرائمها ضد الرياضيين الفلسطينيين    ب5.5 مليار دولار.. وثيقة تكشف تكلفة إعادة الحكم العسكري الإسرائيلي لقطاع غزة (تفاصيل)    استياء في الأهلي قبل مواجهة الترجي لهذا السبب (خاص)    إحالة الطالب المتورط في تصوير ورقة امتحان اللغة العربية والملاحظين بالشرقية للتحقيق    غرة ذي الحجة تحدد موعد عيد الأضحى 2024    القبض على 9 متهمين في حملات مكافحة جرائم السرقات بالقاهرة    ضباط وطلاب أكاديمية الشرطة يزورون مستشفى «أهل مصر»    بحضور قنصلي تركيا وإيطاليا.. افتتاح معرض «الإسكندرية بين بونابرت وكليبر» بالمتحف القومي (صور)    صورة عادل إمام على الجنيه احتفالًا بعيد ميلاده ال84: «كل سنة وزعيم الفن واحد بس»    جوري بكر تتصدر «جوجل» بعد طلاقها: «استحملت اللي مفيش جبل يستحمله».. ما السبب؟    مفتي الجمهورية: يجوز التبرع للمشروعات الوطنية    معهد القلب: تقديم الخدمة الطبية ل 232 ألف و341 مواطنا خلال عام 2024    صحة مطروح: قافلة طبية مجانية بمنطقة النجيلة البحرية    قمة كلام كالعادة!    وزارة الدفاع الروسية: الجيش الروسي يواصل تقدمه ويسيطر على قرية ستاريتسا في خاركيف شمال شرقي أوكرانيا    صحة غزة: استشهاد 35386 فلسطينيا منذ 7 أكتوبر الماضي    ما أحدث القدرات العسكرية التي كشف عنها حزب الله خلال تبادل القصف مع إسرائيل؟    وزير التعليم لأولياء أمور ذوي الهمم: أخرجوهم للمجتمع وافتخروا بهم    اليوم.. 3 مصريين ينافسون على لقب بطولة «CIB» العالم للإسكواش بمتحف الحضارة    وزيرة التعاون: العمل المناخي أصبح عاملًا مشتركًا بين كافة المؤسسات الدولية*    محافظ المنيا: استقبال القمح مستمر.. وتوريد 238 ألف طن ل"التموين"    بعد حادث الواحات.. تطورات الحالة الصحية للفنان جلال الزكي    موعد مباراة بوروسيا دورتموند أمام دارمشتات في الدوري الألماني والقنوات الناقلة    موناكو ينافس عملاق تركيا لضم عبدالمنعم من الأهلي    أبرزهم رامي جمال وعمرو عبدالعزيز..نجوم الفن يدعمون الفنان جلال الزكي بعد أزمته الأخيرة    استكمال رصف محور كليوباترا الرابط بين برج العرب الجديدة والساحل الشمالي    جهود قطاع أمن المنافذ بوزارة الداخلية خلال 24 ساعة فى مواجهة جرائم التهريب ومخالفات الإجراءات الجمركية    تشكيل الشباب أمام التعاون في دوري روشن السعودي    طريقة عمل الكيكة السحرية، ألذ وأوفر تحلية    وُصف بالأسطورة.. كيف تفاعل لاعبو أرسنال مع إعلان رحيل النني؟    محمد صلاح: "تواصلي مع كلوب سيبقى مدى الحياة.. وسأطلب رأيه في هذه الحالة"    متاحف مصر تستعد لاستقبال الزائرين في اليوم العالمي لها.. إقبال كثيف من الجمهور    فيلم شقو يحقق إيرادات 614 ألف جنيه في دور العرض أمس    «السياحة» توضح تفاصيل اكتشاف نهر الأهرامات بالجيزة (فيديو).. عمقه 25 مترا    وزير الري يلتقي سفير دولة بيرو لبحث تعزيز التعاون بين البلدين في مجال المياه    25 صورة ترصد.. النيابة العامة تُجري تفتيشًا لمركز إصلاح وتأهيل 15 مايو    مسئولو التطوير المؤسسي ب"المجتمعات العمرانية" يزورون مدينة العلمين الجديدة (صور)    "الإسكان": غدا.. بدء تسليم أراضي بيت الوطن بالعبور    "الصحة" تعلق على متحور كورونا الجديد "FLiRT"- هل يستعدعي القلق؟    خبيرة فلك تبشر الأبراج الترابية والهوائية لهذا السبب    بدء تلقي طلبات راغبي الالتحاق بمعهد معاوني الأمن.. اعرف الشروط    "الصحة": معهد القلب قدم الخدمة الطبية ل 232 ألفا و341 مواطنا خلال 4 أشهر    ما حكم الرقية بالقرآن الكريم؟.. دار الإفتاء تحسم الجدل: ينبغي الحذر من الدجالين    تراجع أسعار الدواجن اليوم السبت في الأسواق (موقع رسمي)    «طائرة درون تراقبنا».. بيبو يشكو سوء التنظيم في ملعب رادس قبل مواجهة الترجي    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 18-5-2024    حادث عصام صاصا.. اعرف جواز دفع الدية في حالات القتل الخطأ من الناحية الشرعية    عاجل.. حدث ليلا.. اقتراب استقالة حكومة الحرب الإسرائيلية وظاهرة تشل أمريكا وتوترات بين الدول    الأرصاد: طقس الغد شديد الحرارة نهارا معتدل ليلا على أغلب الأنحاء    قبل عيد الأضحى 2024.. تعرف على الشروط التي تصح بها الأضحية ووقتها الشرعي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ربُّ الحكايات
نشر في أخبار الأدب يوم 02 - 11 - 2013

لا يعرف كم مر من الوقت! حين فتح عيناه فتحهما علي دنيا غير الدنيا: أصوات باعة ولغط بشر وناس تمشي هنا وهناك، وعربات تجرها الخيول والحمير، وتجار يصيحون علي بضائعهم ويساومون الزبائن وكأنه في سوق لمدينة مزدحمة!
ماذا حدث؟ وكيف جاء إلي هنا؟
وانتزعه الجني الصغير من ذهوله. ربت الجني الصغير علي كتف خاله. لم يقوَ جلال علي السؤال حتي، كان متعبًا وحزينًا ومندهشًا! ولكن نظرته باحت بحاله.
قال الجني الصغير: "هذه المدينة الظالم أهلها كانت ملعونة فتحولت إلي جزيرة منعزلة، وتحول أهلها إلي صخور وحشائش وحبات رمل، وكان أبي المارد يحمل سر تلك اللعنة، وبقتله عادت المدينة إلي طبيعتها الأولي!"
وقال له أيضًا: "ستعود إلي الدنيا التي حرمت منها لأعوام، هؤلاء بني جنسك فتعامل معهم"
ثم قال: "وسوف أعود أنا لعالم الجن.. ليس لي مكانًا هنا"
وناوله ثلاث شعرات من شَعر المارد.
"اربط ذلك الشَعر حول خصرك، إن احتجت لي فكهم وسأحضر حالاً"
وقال كذلك: "الوداع يا خالي.. أتمني لك حياة سعيدة"
واختفي، وتركه وحيدًا لا يعرف ماذا يفعل في هذا الوطن الجديد!
في صباح اليوم التالي اشتد به الجوع فمر علي المحلات والدكاكين.
"أريد أن أعمل"
أو.
"هل ترغب فيمَن يساعدك مقابل أجر زهيد؟"
أو.
"عابر سبيل يبحث عن وظيفة"
كانت الإجابات تصدمه.
"لا عمل لدينا"
أو.
"الحال واقف.. لعن الله تلك الأيام"
أو.
"عد إلي أهلك.. ليس في هذه القرية سوي الفقر"
أكله اليأس فتركه جلدا علي عظم، وأنساه الجوع ابن أخته، وقرر أن يبحث عن مكان آمن ينام فيه. حام حول البيوت الصغيرة حتي وجد أرضا فضاء، ونام.
***
هزته ركلة عنيفة في جنبه. قال الرجل: "اصح، هل تحسبها أرض أبوك؟"
واستيقظ حزينًا ومهمومًا. سأله الرجل: "من أي المصائب جئتَ؟"
"غريب من البلاد البعيدة"
"وماذا تريد يا غريب؟"
"العمل"
سكت الرجل قليلاً وكأنه يفكر، ثم سأله: "وهل تجيد صنعة؟"
أحس جلال أن الفرج قريب، وأن الرزق قادم أخيرًا.
"سقاء وصياد.. وبإمكاني أيضًا أن أكون حمالاً لو اقتضي الأمر"
هز الرجل رأسه، وسكت، ثم هز رأسه، ثم قال: "هناك عائلة كانت تسأل عن خادم.. سأصف لك الطريق"
ودله الرجل علي الطريق. واتبع جلال العلامات. وسأل مَن سأل. وأجاب مَن أجاب حتي وقف أمام البيت، ودق الباب.. فسمع الصوت الأنثوي من الداخل: "مَنْ علي الباب؟"
فقال: "عبدك يا سيدتي"
وعاد الصوت: "مسلم أم يهودي؟"
"مسلم يا سيدتي"
وانفتح الباب. كانت المرأة قصيرة وبدينة وبيضاء.
"ادخل"
فدخل.
قالت: "هل تريد أن تخدم عندي؟"
شعر بالخجل. أجاب: "في خدمتك يا سيدتي"
قادته إلي البهو الكبير. لفحته نسمة عابرة ومنعشة فتذكر كهف النوم بسريره الواسع، وتذكر العمر الذي انقضي وسنوات الوحدة والشهوة والملل والقتل أيضًا. ونفض عن رأسه الأفكار. وكان البيت واسعًا وجميلاً وينم علي ثراء فاحش فاطمأن.
قالت: "إليك شروطي"
فقال بأدب: "تفضلي"
"من الطبخ إلي الطبخ معلقة واحدة، ومن الخبيز إلي الخبيز لقمة من رغيف، ومن الشتاء إلي الشتاء جلباب قديم... ومَنْ يغضب من الآخر يُسلخ وجهه. اتفقنا؟"
صدمة. هذا صك عبودية بلا شك. وهل هي جادة فيما تقول أم إنه تهديد لن يتحقق! رغبة في تخويفه كي يطيعها ليس أكثر! وما معني: مَنْ يغضب من الآخر يسُلخ وجهه؟
"اتفقنا؟" كررت سؤالها.
فقال: "اتفقنا"
بدا الشغل بسيطًا وسهلاً: غسل الأواني، وأزال الغبار عن الأثاث والتحف، ونفض السجادة الكبيرة، ثم ذهب إلي الفرن وعاد بالخبيز، واشتري الخضروات والفاكهة من السوق. وهي طهت الطعام ثم طلبت منه أن يذهب بالغداء إلي أبي حيين. حمل الصينية الضخمة علي رأسه، راح بها وجاء.. كل شئ علي ما يرام. اشتاق للأكل والراحة والنوم، وحمد الله في سره، وقال في نفسه: ليس العمل سيئًا كما ظننتُ.
وعما قليل سينعم بالطعام وإن كان قليلاً، وسينعم بالنوم أيضًا.
ولكنه لم يأكل، ولم ينم. قالت له: "ستأخذ ابني حيين إلي السوق، تشتري له الطعام والشراب وتفرجه علي الدنيا"
ناولته صُرة بها مائة دينار. وهو اندهش؛ مائة دينار من أجل طفل! مائة دينار مبلغ كفيل بإطعام أسرة كاملة لمدة أسبوع أو أكثر.. وكيف لها أن تستأمنه علي مبلغ كهذا دون ضمانات! ولكنه أخذ الولد، بمعني أوضح وأدق أخذه الولد. والولد كان عبارة عن كرش ضخم... والكروش أنواع وأحجام وأشكال مختلفة؛ منها ما هو مستدير وصغير وكأن الفرد قد ابتلع بطيخة بحالها. ومنها ما هو مترهل وملظلظ وهي كروش السمّنة. ومنها ما هو وراثي كلعنة تطارد صاحبها بصرف النظر عن كميات أو نوعيات الطعام التي يتناولها. أما حيين فقد كان كرشًا خالصًا، كرشًا ضخمًا نبت له رأس وذراعان وساقان، كرش يمشي ويأكل وينكد علي خلق الله، كرش واسع حتي خيّل إلي جلال أن بداخل تلك البطن الكبيرة حدائق وحيوانات وناس ترعي الغنم والإبل، وربما نهر يبدأ من حلقومه ويصب في مثانته!
في السوق أشار الولد ناحية المطعم، وفي صوت أقرب إلي النحيب قال: "آآآآآآ.. آكل.. آكل"
ودخلا المحل، واستقبلهما صاحب المحل بنفسه، واختار لهما أكبر وأفضل طاولة، وقال: "يا أهلاً بسيدنا وتاج رؤوسنا حيين"
وجلال استغرب من ردة فعل الرجل، وخمّن أنه ترحيب زائد بزبون قد يكون دائمًا.
وقال جلال: "احضر له طبق لحم وطبق خضار ورغيف خبز"
فضحك الرجل مستهزئًا. وضحك العمال أيضًا. وقال بسخرية: "يبدو أنك جديد.. يا خادم نحن نعمل طوال الليل من أجل بطن سيدك حيين.. حيين يا خادم لا يأكل طبقًا واحدًا، إنه يشق ريقه بهذا المحل وأكثر"
وعاد للضحك وهو يردد: "طبق لحم وطبق خضار! مسكين أنت مسكين، والله مسكين!"
ثم صاح في العمال: "انزل بطعام سيدنا وتاجنا"
وامتلأت الطاولة بشتي أنواع الطعام: كميات مهولة من المأكولات المختلفة، كميات تكفي لإطعام حي بأكمله.
وراح حيين ينقض علي الأكل بلا رحمة. وجلال ريقه شرع في السيلان، ومعدته تحركت جوعًا وشهوة، ومد أصابعه لإلتقاط قطعة لحم صغيرة، وهمّ أن يلقي بها في جوفه فانفجر حيين في الصراخ، وقال بصوت مزعج: "هااااا.. سأخبر أمي. هااااااااااااا.. سأخبر أمي"
خاف جلال، ودون تردد اخرج اللحم من فمه ووضعه مكانه، واكتفي بالنظر إلي هذا المخلوق الفظيع الذي يلتهم اليابس والأخضر.
بداخل محل الحلويات حصل نفس الشئ تقريبًا: سخر منه صاحب المحل، وأخبره أن كل هذه الصواني أعدت خصيصًا من أجل بطن العزيز حيين، وأنه الزبون الأول والمفضل هنا، وأنه حيين طبعًا- سيدهم وتاج رءوسهم.
وقال أيضًا: "سبحان الله الذي جعل رزقنا ورزق أولادنا في بطن طفل"
غير أن بائع العصير كان له رأي آخر... فبعد أن شرب حيين برميلا من التمر وآخر من العرقسوس واكتفي بنصف برميل من عصير القصب وهذا ليس من عادته كما عرف جلال من بائع العصير، فهو دائمًا ما يتجرع ثلاثة براميل الواحد تلو الآخر- علق بائع العصير:
"هذا طفل ممسوس من الجن... ممسوس ورب الكعبة!"
وفي طريقهما إلي البيت عاد الصوت المزعج يخترق أذن الجائع.
"هاااا... شيلني... هاااا.. شيلني"
كيف لفأر أن يحمل فيلاً؟ ونظر جلال له بغيظ. ولكن الفيل أصر.
"هااا.. شيلني.. شيلني"
وظل يرددها حتي خيّل إلي جلال أنه لن يسكت أبدًا.. قال في نفسه: الأمر لله من قبل ومن بعد.
وحمله كأنه يحمل جبلاً، ومشي به مترنحًا وحزينًا ومتعبًا كأن هموم الخلق جميعًا علي كتفيه. أما حيين فقد نام وكأنه طفل حقيقي، طفل طبيعي أكل وشرب وهده التعب فنام نومًا عميقًا!
لدي الباب فعلها حيين؛ تبول وتبرز علي جلال.. برّكة من الأوساخ. لعنه جلال ولعن الدنيا والقدر. فتحت هي الباب علي صراخ جلال.
سَألتْ: "ماذا حصل؟"
بصوت ملأه الغيظ أجاب: "سيدي حيين تبول وتبرز عليّ!"
"وهل يغضبك هذا يا خادم؟"
لم يتمالك نفسه.
"يغضبني.. ويغضب أي إنسان لديه كرامة!"
"ادخل يا خادم.. ادخل"
دخل جلال والرائحة الكريهة تفوح منه، وتمني أن يتخلص من جلبابه، وأن يغتسل جيدًا، وتمني أيضًا أن يشتري جلبابًا جديدًا.
قال لنفسه: حين ترجع أم حيين من المطبخ سأطلب منها مالاً، وسأطلب منها أن تأذن لي أن أذهب إلي الحمام الموجود بالسوق، أغتسل وأعود نظيفًا.
وفكر بأنها لن تمانع أبدًا.. وكيف يتسني لها أن تمانع؟ هذا أقل تعويض عن الجريمة التي اقترفها الولد حيين... وعادت أم حيين من المطبخ، وقالت له: "قلت إنك غضبان"
سكتَ.
"وقلت من قبل: اتفقنا"
ولمح الملاكين علي كتفيها. وكان أحدهما عابسًا متجهمًا، والآخر ساخرًا متهكمًا. ولوح له المتهكم بالصك وهو يبتسم. وكان جلال مؤمنًا بأن كل ما يمر به هو في الأصل مكتوب. فلماذا يعيد الملاك كتابة المكتوب؟ في الإعادة إفادة! صح؟ والمكتوب هنا أن جلال تذكر سلخ الوجه بعد فوات الأوان، وأنها ألقت بالزيت المغلي علي وجهه، فصرخ والنار تشوي جلده. لعنها وسبها. حاول أن يمس وجهه. غير أن الزيت المغلي كان لا يزال مغليًا فحرق أصابعه... كيف ينتقم منها؟ هل يقتلها أم يحرق البيت بما فيه؟ ولكن الحكاية لا بد أن تسير علي هواء مؤلفها، ومؤلفها يري أن زوج المرأة ووالد الولد طوق عنق جلال، وسحبه من قفاه، ورمي به في الطريق... وهكذا يود الراوي!
طاف بالمدينة كمجذوب، مجذوب ومسلوخ الوجه وذو رائحة منفرة يتقزز منها الزبال. وتحيطه هالة من حشرات نعرفها وحشرات لا نعرفها وأخري لا نريد أن نعرفها أو نراها أو نتعامل معها. بكي وصرخ وصاحب الهذيان. والناس ظنته ممسوسًا. أما الأطفال فقد قذفته بالحجارة ونعتوه بمسلوخ الوجه. واشمئز منه المارة.. ها هو مسخ يطوف مدينة لا تعرف الرحمة أو الشفقة. هو فاقد الأهل والوطن والأخت والحبيبة.. فمَن له؟
ونظر إلي السماء، وهمّ بالدعاء ولكن الغصة في حلقه منعته فاستسلم لبكاء مرير.
وعند الأرض الفضاء نام مرة أخري... وجاءت له زهرة في المنام، وأمه وأباه أيضًا، كلهم يرغبون في قتله: الأب يقيد ذراعيه، والأم تتشبث بقدميه، والأخت تدس السم بين فكيه. وحلم بالمارد كذلك، وبأن المارد خُلق من شجرة عملاقة، جذورها في الجحيم وثمارها رءوس أطفال، وأنها تُسقي من الدماء والشقاء والعرق.
وكتمت الكوابيس علي أنفاسه، وأحس بالعطش والجوع وبأن مثانته منتفخة. ولأنه لم يكن هنالك ماء أو طعام، ولأن التبول أيسر الغرائز التي يمكن قضاءها، وهي ذ في الوقت ذاته- أكثر الغرائز إلحاحًا، لذا فقد رفع جلبابه، واخرج عضوه، وترك المياه تشق لها قناة صغيرة وسط الأتربة. وبعدما انتهي، وارتاح، ورفع عن نفسه همًا صغيرًا، وقعت أصابعه علي الشَعر الملفوف حول خصره. حله علي الفور، وفي لحظات حضر الجني الصغير.
"خالي! ما بك؟"
قالها الصغير بدهشة. حكي جلال ما حصل.
"لا تقلق"
وقبض الصغير علي حفنة من التراب، وراح يفركها ببطء ثم مسح بها علي وجه جلال فعاد أجمل مما كان. وتحسس جلال وجه فلم يصدق! وقال في سره: الحمد لله الذي نجانا من الكرب الأعظم.
وقال له الصغير: "صف لي عنوان تلك العائلة"
"لمَ؟"
"صف لي عنوان تلك العائلة"
لم يزد... فوصف جلال له العنوان، وهو لا يعرف فيمَ يفكر الجني الصغير.
في هيئة الخادم دق الباب.
"مَنْ علي الباب؟"
"عبدك يا سيدتي"
"مسلم أم يهودي؟"
"مسلم يا سيدتي"
فتحت له الباب وأدخلته. وكما قالت لجلال من قبل قالت له. وهو وافق علي الشروط.
قال: "سمعًا وطاعًا يا سيدتي"
ولم يقل لها اتفقنا.
في الصباح... طهت هي الطعام، وأمرته أن يحمل الصينية إلي أبي حيين. وهو حمل الصينية وراح بها إلي خاله. وضع الأكل أمامه.
قال: "كُل.. يا خالي"
وأكل جلال وشرب، وأحس لأول مرة منذ أيام طويلة بالشبع، وفكر في أن يسأله عما فعله مع عائلة حيين. ولكنه لم يسأل. وحاول أن يتذكر أين رأي هذه الصينية من قبل فخانته الذاكرة. وحمل ابن زهرة الصينية الفارغة وعاد إلي البيت.
سألته أم حيين: "هل أعجب الأكل سيدك؟"
فسكت، وبان عليه الارتباك.
"تكلم يا عبد.. مالك؟"
"في الحقيقة....."
وعاد للسكوت. فأحسّت هي بالقلق.
"هل حصل مكروه لسيدك؟ ماذا حصل؟"
"وأنا ذاهب إلي سيدي وجدتُ عجوز شحاذ يأكل من فضلات الخلق، فقلت لنفسي: سيدتي تحب فعل الخير. وأعطيته الأكل"
احمر وجهها، وعصف بها الغضب، وكادت أن تنقض عليه لولا أنه أضاف: "هل أنتِ غاضبة يا سيدتي؟"
فلوح لها الملاك بالصك. تذكرت الاتفاق، وسلخ الوجه، ومئات الوجوه التي سلختها من قبل.
قالت: "لستُ غاضبة.. سأحضر لك غداء آخر لسيدك"
وحضرت الغداء.. ومر هو في السوق، يناول هذا رغيف ولذاك قطعة لحم ولهذه طبق خضروات حتي وزع الأكل كله علي الفقراء.
حين عاد سألته: "ماذا قال سيدك عن التأخير؟"
فسكت، وبان عليه الارتباك مرة أخري.
صاحت: "ماذا فعلت هذه المرة؟"
"في الحقيقة............"
وعاد للصمت.
زعقت: "لا تقل لي: في الحقيقة. وتسكت. ماذا فعلت هذه المرة؟"
"وأنا ذاهب إلي سيدي وتاج رأسي فإذا بالعجوز الذي أعطيته الأكل يتشاجر معه عجوز آخر بائس وفقير مثله، فقلت لنفسي: سيدتي التي تحب الخير لن يرضيها أبدًا أن يتشاجر عجوزان من أجل طعام. وتركت لهما الأكل"
هي في مشكلة لا تعرف كيف تخرج منها. من أين جاء لها العبد الجديد؟ أهو مبعوث من الجحيم؟ وماذا تفعل معه؟ والشرك الذي كانت تنصبه للآخرين تشعر به تحت قدميها! ورسمت ابتسامة باهتة.
"لقد فعلت الصواب! أنا فخورة بك. ولكن في المرة القادمة لا تعط أحدًا بدون أن أسمح لك؛ الكثير منهم يدعي الفقر وهو أغني منا... نحن نفعل الخير في أهله، فاترك لي هذه المسألة ولا تتدخل فيها مرة أخري"
هز رأسه كأنه فهم ما قالته.
"والآن خذ حيين إلي السوق... اشترِ له الطعام والشراب وفرجه علي الدنيا"
***
في المطعم قال له الرجل: "طبق؟ يبدو أنك جديد فعلاً! يا خادم نحن نعمل طوال الليل من أجل بطن سيدك حيين.. سيدنا وتاج رؤوسنا"
ولكن الخادم أصر.
"طبق واحد له، ولي طبق لحم كبير"
وهمّ الرجل أن يعيد الكلام. ولكن ابن زهرة قاطعه.
"احضر ما طلبته وإلا تركنا المطعم وأكلنا من عند غيرك"
ودخل الرجل المطبخ مستغربًا. إنها المرة الأولي التي يحدث فيها أمر كهذا! عليه أن يخبر أم حيين؛ لو استمر الحال علي هذا النحو سينخرب بيته. هو علي يقين بأن الخادم الجديد يتصرف من رأسه، وأن أم حيين لن يرضيها هذا الوضع أبدًا.
رص الأطباق علي المائدة ورحل. ونظر الولد الصغير للطعام بدهشة.
"أين الأكل؟"
فقال له دون أن ينظر ناحيته: "أمامك.. كُل واحمد ربك"
وبدأ الصغير في البكاء: "آآآآآ.. سأخبر أمي.. سأخبر أمي"
ولكن ابن زهرة زجره بعنف، وصرخ في وجهه.
"ملعون أنت وأمك.. كُل وإلا ضربتك"
وخاف الولد، وأكل في صمت.
وتكرر هذا الموقف عند بائع العصير وبائع الحلويات أيضًا.
وأثناء عودتهما إلي البيت، بكي الولد.
"شيلني.. شيلني"
وابن زهرة تجاهله وأستأنف المشي، والولد لم يستسلم بسهولة فبرك علي الأرض ورفض أن يتزحزح، وكلما زعق له ابن زهرة ازداد الولد في البكاء والنواح، فما كان من ابن زهرة إلا أن حمله وهو متأفف، ومشي به حتي البيت.
لدي الباب فعلها حيين. ولكن هذه المرة نزل البراز قليلاً كنواة البلح، والبول لا يزيد عن نقطة واحدة كقطرة مطر، ومع ذلك، غضب ابن زهرة وشال الولد وهبّده علي الأرض بمنتهي القوة. وصرخ الولد صرخة طويلة ثم سكت. وحركه ابن زهرة علي جنبه الأيمن ثم قلبه علي جنبه الأيسر. ولكن حيين كان قد فقد الحياة! فمال نحوه وحمله.
حين فتحت الباب صرخت.
"ماله سيدك حيين؟"
"هده التعب واللعب فنام"
استغربت.
"جسمه بارد، ولا يتحرك"
"أكل كثيرًا.. ولعب كثيرًا"
أدخلتهما.
"ضعه علي فراشه. غدًا سأحضر له الطبيب"
"سمعًا وطاعًا يا سيدتي"
في الفراش، اشتكت لزوجها، وأخبرته عن العبد الجديد. وهو قال:
"لن يتركنا حتي يسلخ وجوهنا"
وهي راحت تفكر. غير أنه أضاف: "هل تذكرين الحائط المتهالك؟"
"بلي!"
"ما رأيك.. سأطلب منه أن ينام تحته، سأخبره أن الجو في غرفة التخزين خانق، وحين ينام سندفع الجدار عليه فيتهدم علي رأسه. يموت ونتخلص منه، ولن يسألنا أحد. سنقول: سقط عليه الجدار"
وهي راقت لها الفكرة كثيرًا، وأحسّت أن همًا ثقيلاً انزاح عنها.
كان ملفوفًا ونائما تحت الجدار مباشرة. واعتقدا أنه الوقت المناسب. مشيا علي أطراف أصابعهما حتي وصلا إليه، وبكل قوتهما دفعا الجدار دفعة قوية فانهار علي النائم. لم يسمعا أيّة أصوات، ولا حتي صرخة ألم أو آهة وجع! مالا نحو الأنقاض وراحا يفتشان عنه. ولكنه لم يظهر تحت الأنقاض، بل ظهر واقفًا أمام باب الحجرة. والمرأة شهقت وشلها الذهول. وصاح الرجل: "أين كنت؟"
فأجاب وهو يتثاءب بكسل: "كنتُ أشرب"
ولكن من الذي كان نائمًا هنا؟ وعلي مَن سقط الجدار؟ وأشار الخادم نحو الأنقاض.
"ماذا حدث؟"
ظنا أن الجدار سقط علي الأغطية.
قال الرجل: "الحمد لله.. سقط الجدار ونجاك الرب"
غير أن الخادم بكي وصرخ، وسقط علي ركبتيه.
"ما لك؟"
سأله الرجل. ولكنه استمر في البكاء حتي صرخت أم حيين.
"انطق.. مالك؟"
هدأ قليلاً. وراح يحكي.
"أنت تعلمين كم أحب سيدي حيين"
اقترب منها الخطر حتي أنها شمت رائحته وأحسّت بدخانه الكثيف يخنقها.
والخادم أكمل: "قلت: سيدك حيين مريض وفي حاجة لمن يخدمه. وقلت أيضًا: ربما يصحو فلا يجد من يرعاه"
سكت. فصاحت الأم: "ماذا فعلت يا نذير الشوؤم؟"
ابتلع ريقه.
"أخذته من فرشته كي ينام إلي جواري فيطمئن قلبي، وأقوم علي خدمته علي أحسن وجه"
وانخرط في البكاء من جديد.
"هل تقصد أن حيين كان نائمًا تحت الجدار؟"
هز رأسه بالإيجاب وهو يبكي. كالمجنون ظل الأب يفتش عن ابنه ويلعن الأيام السوداء التي أوقعته في هذا الخادم. أما الأم فلم تشعر بجسدها وكأنها شربت كما هائلا من مخدر قوي. والخادم وقف إلي جوارها وهو لا يكف عن البكاء.
قالت له المرأة: "أنت أفعي.. لن تعمل عندنا بعد اليوم"
فرد هو بهدوء: "هل أنت غاضبة مني يا سيدتي؟"
الاتفاق يخنقها ويقيدها كالأغلال التي كبلت المارد الجبار يومًا ما. والحياة نفسها لم تعد مستساغة بعدما ضاع الولد. والانتقام قادم فلمَ التأجيل؟ هو لعنة الرب فلتتقبل اللعنة كما تقبلت العزاء. وكان زوجها قد قال لها: "سندبر له مكيدة"
فرفضت.
"لن يتركنا لحالنا"
"إذن نبيع أملاكنا ونهرب، نطلب منه أن يزور أهله ونعطيه مبلغًا من المال، ونهرب"
قالت: "لن أهرب"
وقالت للخادم: "أنا غضبانة فأفعل ما شئت"
ولم يتردد هو في سلخ وجهها الجميل.
قال له جلال: "كان بإمكانك تركها.. وأنا عن نفسي سامحتها!"
غير أن ابن الأخت رد: "رحمتُ رجالا غيرك كانت ستسلخ وجوههم. وكما قلت لك سابقًا: الخير فيّ أقوي من الشر"
وبدأ جلال تجارة جديدة من المال الذي وهبه إياه ابن أخته. واستعان بالصبر والجهد علي الحياة حتي أصبح له دكانًا صغيرًا في السوق لبيع العطور. وكلما مر بضائقة مالية كان يتساءل: لمَ لم يعطني المزيد من المال؟ لماذا قطع الصلة بيننا حين أخذ شَعر المارد؟
وكان حين يشتاق إليه يهمس: أين أنت يا ابن أختي؟
وينتظر رؤيته مرة أخري. غير أن الأيام كانت تمضي حتي نسي يومًا كل ما مر به!
فصل من رواية تصدر بالعنوان ذاته عن دار العين


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.