رئيس ضمان جودة التعليم: الجامعات التكنولوجية ركيزة جديدة فى تنمية المجتمع    إتاحة الاستعلام عن نتيجة امتحان المتقدمين لوظيفة عامل بالأوقاف لعام 2023    قطع المياه عن نجع حمادي.. وشركة المياه توجه رسالة هامة للمواطنين    الحكومة: نرصد ردود فعل المواطنين على رفع سعر الخبز.. ولامسنا تفهما من البعض    «حماس» تصدر بيانًا رسميًا ترد به على خطاب بايدن.. «ننظر بإيجابية»    محامي الشحات: هذه هي الخطوة المقبلة.. ولا صحة لإيقاف اللاعب عن المشاركة مع الأهلي    رونالدو يدخل في نوبة بكاء عقب خسارة كأس الملك| فيديو    أحمد فتوح: تمنيت فوز الاهلي بدوري أبطال أفريقيا من للثأر في السوبر الأفريقي"    هل يصمد نجم برشلونة أمام عروض الدوري السعودي ؟    حسام عبدالمجيد: فرجانى ساسى سبب اسم "ماتيب" وفيريرا الأب الروحى لى    هل الحكم على الشحات في قضية الشيبي ينهي مسيرته الكروية؟.. ناقد رياضي يوضح    محامي الشحات: الاستئناف على الحكم الأسبوع المقبل.. وما يحدث في المستقبل سنفعله أولًا    مصارعة - كيشو غاضبا: لم أحصل على مستحقات الأولمبياد الماضي.. من يرضى بذلك؟    اليوم.. بدء التقديم لرياض الأطفال والصف الأول الابتدائي على مستوى الجمهورية    32 لجنة بكفر الشيخ تستقبل 9 آلاف و948 طالبا وطالبة بالشهادة الثانوية الأزهرية    استمرار الموجة الحارة.. تعرف على درجة الحرارة المتوقعة اليوم السبت    اعرف ترتيب المواد.. جدول امتحانات الشهادة الثانوية الأزهرية    صحة قنا تحذر من تناول سمكة الأرنب السامة    أحمد عبد الوهاب وأحمد غزي يفوزان بجائزة أفضل ممثل مساعد وصاعد عن الحشاشين من إنرجي    دانا حلبي تكشف عن حقيقة زواجها من محمد رجب    الرئيس الأمريكي: إسرائيل تريد ضمان عدم قدرة حماس على تنفيذ أى هجوم آخر    "هالة" تطلب خلع زوجها المدرس: "الكراسة كشفت خيانته مع الجاره"    حدث بالفن| طلاق نيللي كريم وهشام عاشور وبكاء محمود الليثي وحقيقة انفصال وفاء الكيلاني    أبرزهم «إياد نصار وهدى الإتربي».. نجوم الفن يتوافدون على حفل كأس إنرجي للدراما    مراسل القاهرة الإخبارية من خان يونس: الشارع الفلسطينى يراهن على موقف الفصائل    عباس أبو الحسن يرد على رفضه سداد فواتير المستشفى لعلاج مصابة بحادث سيارته    "صحة الإسماعيلية" تختتم دورة تدريبية للتعريف بعلم اقتصاديات الدواء    ثواب عشر ذي الحجة.. صيام وزكاة وأعمال صالحة وأجر من الله    أسعار شرائح الكهرباء 2024.. وموعد وقف العمل بخطة تخفيف الأحمال في مصر    العثور على جثة سائق ببورسعيد    الأمين العام لحلف الناتو: بوتين يهدد فقط    سر تفقد وزير الرى ومحافظ السويس كوبرى السنوسي بعد إزالته    نقيب الإعلاميين: الإعلام المصري شكل فكر ووجدان إمتد تأثيره للبلاد العربية والإفريقية    كيف رفع سفاح التجمع تأثير "الآيس" في أجساد ضحاياه؟    "حجية السنة النبوية" ندوة تثقيفية بنادى النيابة الإدارية    ضبط متهمين اثنين بالتنقيب عن الآثار في سوهاج    «الصحة»: المبادرات الرئاسية قدمت خدماتها ل39 مليون سيدة وفتاة ضمن «100 مليون صحة»    وكيل الصحة بمطروح يتفقد ختام المعسكر الثقافى الرياضى لتلاميذ المدارس    وصايا مهمة من خطيب المسجد النبوي للحجاج والمعتمرين: لا تتبركوا بجدار أو باب ولا منبر ولا محراب    الكنيسة تحتفل بعيد دخول العائلة المقدسة أرض مصر    للحصول على معاش المتوفي.. المفتي: عدم توثيق الأرملة لزواجها الجديد أكل للأموال بالباطل    القاهرة الإخبارية: قوات الاحتلال تقتحم عددا من المدن في الضفة الغربية    «القاهرة الإخبارية»: أصابع الاتهام تشير إلى عرقلة نتنياهو صفقة تبادل المحتجزين    «ديك أو بط أو أرانب».. أحد علماء الأزهر: الأضحية من بهمية الأنعام ولا يمكن أن تكون طيور    الداخلية توجه قافلة مساعدات إنسانية وطبية للأكثر احتياجًا بسوهاج    ارتفاع الطلب على السفر الجوي بنسبة 11% في أبريل    «صحة الشرقية»: رفع درجة الاستعداد القصوى لاستقبال عيد الأضحى    وزير الصحة يستقبل السفير الكوبي لتعزيز سبل التعاون بين البلدين في المجال الصحي    مفتي الجمهورية ينعى والدة وزيرة الثقافة    الأونروا: منع تنفيذ برامج الوكالة الإغاثية يعنى الحكم بالإعدام على الفلسطينيين    الماء والبطاطا.. أبرز الأطعمة التي تساعد على صحة وتقوية النظر    «الهجرة» تعلن توفير صكوك الأضاحي للجاليات المصرية في الخارج    رئيس الوزراء الهنغاري: أوروبا دخلت مرحلة التحضير للحرب مع روسيا    «حق الله في المال» موضوع خطبة الجمعة اليوم    بمناسبة عيد الأضحى.. رئيس جامعة المنوفية يعلن صرف مكافأة 1500 جنيه للعاملين    السيسي من الصين: حريصون على توطين الصناعات والتكنولوجيا وتوفير فرص عمل جديدة    الحوثيون: مقتل 14 في ضربات أمريكية بريطانية على اليمن    أسعار الفراخ اليوم 31 مايو "تاريخية".. وارتفاع قياسي للبانيه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عن رقصة مولانا
جنة المأوي
نشر في أخبار الأدب يوم 12 - 10 - 2013


يبدأ بعد ذلك الطقس الأساسي وهو
مكون من أربع حركات موسيقية مختلفة
تسمي "سلام". في بداية ونهاية كل "سلام" يقوم المولويون بالاقرار بوجود الله
و وحدانيته وجلاله وقدرته.
و لا يجب أن ننسي أهمية رمز الدائرة (وهو أحد تجليات الدوران) لدي فلاسفة التصوف مثل محيي الدين بن عربي و كتابه "إنشاء الدوائر" علي سبيل المثال.
تعد الابداعات الفنية للتصوف من أبرز تجليات الفن بالقرآن. يستمد التصوف جذوره، سواء علي المستوي الفلسفي او المستوي الشعري، من سيرة النبي محمد صلي الله عليه و سلم و من القرآن الكريم. التصوف إذن هو رؤية للاسلام تقوم علي الحب و التسامح و التواضع و عبادة الله و تنمية الذات من خلال الانضباط الذاتي و المسئولية. لذلك فإن منهاج حياة المتصوف هو حب و خدمة الاخرين و التخلي عن الذات الزائفة و كل الاوهام الزائلة حتي يصل الي النضج و الكمال و يتمكن اخيرا من الوصول الي الله، الحق و الواقع "المتعين". هو باختصار دين الحب الذي نجده عند كافة المتصوفة من ابراهيم بن ادهم الي رابعة العدوية وعمر بن الفارض، و علي وجه الخصوص الامام الاكبر محيي الدين بن عربي و مولانا جلال الدين الرومي.
ومن أهم طرق الحب للوصول إلي مرحلة الكمال طريقة مولانا جلال الدين الرومي الذي ما أحوجنا اليوم للكثير من تعاليمه و أهمها: إذا كانت علاقتنا بالله هي علاقة حب فيجب علينا أن نحب كافة مخلوقاته علي أختلاف أنواعها و أجناسها ودياناتها. و من سمات هذا الحب خدمة هذه المخلوقات كما فعل مولانا الذي كان يقوم بنفسه علي خدمة المسافرين وعابري السبيل حتي أنه كان يقوم بنفسه بغسل أقدامهم. لذلك لم يكن من المستغرب انه عندما توفي صار في جنازته المسلمون و المسيحيون و اليهود و العرب و الروم ألخ...
لكن ما يهمنا في هذا البحث هو الإبداع الفني المرتبط بالقرآن. و من أهم الإبداعات الفنية لطريقة مولانا جلال الدين الرومي هو ما يسمي بطقس رقصة المتصوفة الدوارة و هو أهم ما يميز الطريقة المولوية و التي امتدت علي مدي سبعة قرون. يعتمد هذا الطقس علي تعاليم مولانا جلال الدين الرومي بالإضافة لتأثره بالعادات و الثقافة التركية.
يرتكز المعني العميق لهذا الطقس علي حقيقة علمية مؤكدة و هي أن الوجود بأكمله يقوم علي الدوران، سواء في الكون الكبير (العالم) أو الكون الصغير (الإنسان). ففي الكون الكبير نري دوران الأرض حول الشمس و دوران النجوم في المجرات و الالكترونات في الذرة بالإضافة إلي دوران فصول السنة إلخ... أما في الكون الصغير فنجد الدورة الدموية في الجسم و دورة مراحل الحياة من ضعف الطفولة إلي وهن الشيخوخة ("الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم من بعد قوة ضعفا و شيبة"( سورة الروم، آية 54)، بالإضافة إلي الخلق من تراب و العودة إلي التراب عند الممات. إذن فالطبيعة و الإنسان يتشاركان في الدوران بصورة طبيعية و تلقائية ("و إن من شئ إلا يسبح بحمده و لكن لا تفقهون تسبيحهم" سورة الإسراء، آية 44) و إذا كانت الكائنات الأخري تقوم بالدوران دون أن تعي ذلك، فإن الإنسان يتميز بالعقل و الإدراك. لذلك يقوم المتصوف بالدوران عن وعي و بكامل إرادته ليتناغم مع كل شئ في الطبيعة، من أصغر الخلايا إلي النجوم في السماء ليؤكد عظمة الخالق و يحمده و يسبحه، مجسدا بذلك الأية الأولي من سورة التغابن: "يسبح لله ما في السموات و ما في الأرض، له الملك و له الحمد و هو علي كل شئ قدير". إذا كان تسبيح المخلوقات للخالق قد ورد في عدة سور في القرأن مثل سورة الإسراء (آية 44) و سورة النور (آية 41) و سورة الحديد (آية 1) و سورة الحشر (آية 1 و 24) و سورة الصف (آية 1) و سورة الجمعة (آية 1)، إلا انه يقتصر فقط علي ذكر فعل التسبيح. أما الآية الأولي من سورة التغابن فهي تكشف عن ماهية و وظيفة التسبيح: لله الملك و بالتالي القدرة، و علي المخلوقات الحمد.
و لا يجب أن ننسي أهمية رمز الدائرة (وهو أحد تجليات الدوران) لدي فلاسفة التصوف مثل محيي الدين بن عربي و كتابه "إنشاء الدوائر" علي سبيل المثال.
و من أهم ما يميز هذا التعبير الفني للطريقة المولوية، و الذي لا نجده في غيرها من الطرق، هي وحدة العناصر الثلاثة المكونة للطبيعة الإنسانية و هي العقل، أي المعرفة و الفكر، و القلب، أي التعبير عن الأحاسيس بالإضافة إلي الشعر و الموسيقي، و الجسد، أي تنشيط الحياة و الدوران.
و من المعروف علميا أن تكرار الدوران و سرعته يؤدي إلي التصاعد للأعلي كما نري في ظاهرة الإعصار علي سبيل المثال حيث تدور الرياح فتتصاعد بشكل دائري. لذلك فإن دوران متصوف طقس الطريقة المولوية يوصله إلي السمو و الإرتقاء.
يمكنا القول أن هذا الطقس يمثل رحلة الإنسان الروحية للصعود من خلال الفكر و الحب إلي الكمال، أي ما يعرف بالمعراج الصوفي المستلهم من معراج النبي صلي الله عليه و سلم. فبالدوران حول الحقيقة ينمو الإنسان من خلال الحب و يتخطي ذاته فيلتقي بالحقيقة و يصل إلي الكمال. ثم يعود من معراجه الصوفي بعد أن نضج و اكتمل، ليحب ويخدم الخلق بأكمله و كافة مخلوقات الله علي اختلاف معتقداتها و جنسها و نوعها. الحب إذن هو المفهوم الأساسي و الطريق الأوحد. فقد خلق الإنسان بحب و لكي يحب. و كما قال مولانا جلال الدين الرومي :"كل أنواع الحب ما هي إلا جسور للوصول إلي الحب الإلهي. لكن الذين لم يتذوقوه بعد لا يعرفون".
ننتقل الآن إلي رداء متصوفة الطريقة المولوية الذين يؤدون هذا الطقس و ما يرمز إليه. يظهر المولوي و هو يرتدي قميصا أبيض فوقه عباءة سوداء و غطاء رأس مصنوع من وبر الجمل. يرمز القميص الأبيض إلي قبر الذات و غطاء الرأس إلي شاهد هذا القبر. و عندما يقوم بخلع العباءة السوداء يولد من جديد علي مستوي الروح لتلقي الحقيقة.
قبل أن نبدأ في استعراض مراحل هذا الطقس يجب توضيح و التأكيد علي أن متصوفي الطريقة المولوية الذين يؤدون رقصتهم لا يقدمون عرضا للجمهور بل يعيشون فعلا تجربة المعراج الصوفي. لذا وجب علي الذين يشاهدونهم إلتزام الصمت التام احتراما للتجربة الروحية المعاشة، و عدم التصفيق أو حتي إبداء الإعجاب إلا عندما يغادر المولويون الساحة.
في البداية يظهر المولويون و قد عقد كل منهم ذراعيه مجسدا رقم 1، مشيرا بذلك إلي وحدانية الله. يجب الإشارة هنا إلي أهمية رقم 1 و مرادفه حرف الألف كرمز من رموز التصوف لأنهما خط مستقيم يشير إلي وحدانية الله. عندما يبدأ المولوي في الدوران يتجه ذراعه الأيمن نحو السماء لتلقي النفحات الإلهية. أما ذراعه اليسري، و الذي يركز نظره عليه، فيتجه نحو الأرض ليشرك الذين يشاهدونه في المنح الإلهية التي تلقاها. اتجاه الدوران من اليمين إلي اليسار حول القلب يعني أن المولوي يحتضن الإنسانية كلها بحب.
يتكون طقس المولوية من عدة مراحل تحمل كل واحدة منها معني مختلفا عن الأخري. المرحلة الأولي تسمي "نعت الشريف" وهي مديح رسول الإسلام وكافة الرسل الذين سبقوه والذين يمثلون الحب. هذا المديح هو حمد لله الذي خلقهم و ارسلهم، كرحمة منه، إلي الإنسانية. مما يجسد مفهوم "الرحمة المهداة" النابع من الأية الكريمة: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"(سورة الأنبياء، أية 107). يقوم مفهوم "الرحمة المهداة" عند المتصوفة علي علاقة الحب بين الله وعباده: لأن الله يحب عباده فقد أرسل لهم، رحمة منه، هدية حب: النبي محمد عليه الصلاة والسلام و كافة الأنبياء الذين سبقوه. يلي هذا المديح قرع طبول يسمي "قدوم" وهو يرمز للأمر الإلهي "كن" الذي خلق به الله الكون بأكمله. وهو أيضا تجسيد للآية الكريمة: "إذا قضي أمرا فإنما يقول له كن فيكون"(سورة مريم آية 35، سورة يس آية 82، سورة غافر آية 68).
يلي "نعت الشريف" مرحلة تسمي "تقسيم" وهي عزف منفرد علي الناي يشير إلي مفهوم "النفس الإلهي الخلاق" أي النفخ في الروح، تجسيدا للأية الكريمة: " فنفخنا فيه من روحنا" (سورة الحجر آية 29، سورة الأنبياء أية 91، سورة ص آية72، سورة التحريم آية12) والمرتبطة بخلق أدم و خلق عيسي: "إن مثل عيسي عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون (سورة آل عمران، آية 59). و إذا كان الأمر الإلهي "كن" يخلق المادة، فإن النفس الإلهي الخلاق يهب الحياة المادة ولكل شئ نطلق عليه كلمة "حي".
ثم يلي ذلك مرحلة "سلطان وليد" أو "دور وليد" وهي حركة دائرية عكس عقارب الساعة يؤديها المولويون مجسدين بذلك المراحل الثلاث للمعرفة: "علم اليقين" أي المعرفة المكتسبة عن طريق الغير وعبر الدراسة، و"عين اليقين" أي المعرفة المكتسبة عن طريق الرؤية والملاحظة، و"حق اليقين" أي المعرفة المكتسبة عبر التجربة الشخصية المباشرة أوما يسمي بالعرفان.
يبدأ بعد ذلك الطقس الأساسي وهو مكون من أربع حركات موسيقية مختلفة تسمي "سلام". في بداية ونهاية كل "سلام" يقوم المولويون بالاقرار بوجود الله و وحدانيته وجلاله وقدرته.
وإذا تعمقنا في معني هذه الحركات الأربع نجد أنها مبنية علي الآيات الثماني عشرة الأولي من سورة النجم، و خاصة من الآية 6 حتي الآية 18 علي وجه الخصوص. تتسم هذه الأيات بالغموض و بقدر كبير من الروحانية. و مع التعمق في القراءة نجد أنها تتحدث عن معراج النبي صلي الله عليه و سلم. وبما أن المعراج الصوفي مستلهم من معراج النبي الكريم نجد أن هذه الحركات
الأربع تمثل خطوات هذا المعراج الصوفي وتجسد تلك الآيات الأولي من سورة النجم. يمثل "السلام" الأول مولد الإنسان للحقيقة من خلال الإحساس و العقل، كما يمثل تسليم الإنسان بأنه مخلوق من مخلوقات الله وعبد من عباده. ثم تبدأ رحلة الصعود والإرتقاء نحو المرحلة الأولي للتجربة الروحية وهي مرحلة الرؤية عن طريق القلب: "ما كذب الفؤاد ما رأي" (سورة النجم، آية11). و من خلال الرحانية الخالصة و تكرار الدوران، يصل إلي مرحلة الرؤية العينية أو المعاينة وفقا للتعبير الصوفي، كما نري في "السلام" الثاني حيث يري روعة الخلق و عظمة وقدرة الخالق: "ما زاغ البصر وما طغي، لقد رأي من آيات ربه الكبري" (سورة النجم، آية 17 و 18)
بفضل الانصهار في الحب و التضحية بكل ما سواه، نصل في "السلام" الثالث إلي التسليم والتوحد و إنعدام الذات في المحبوب حيث يحتضنه الحب الإلهي. أي ما يعرف في التصوف بالفناء في الله: "عند سدرة المنتهي، عندها جنة المأوي" (سورة النجم، آية 14 و 15). يجب الإشارة هنا إلي أن "المأوي" و مرادفاته كالملاذ والحمي هي من أهم مفردات التصوف، حيث الذوبان في أحضان الحبيب و الفناء فيه.
من جهة أخري، "جنة المأوي" التي نجدها في سورة النجم تختلف تماما عن جنات عدن ووصف الجنة التي اعدت للمؤمنين في مختلف سور وآيات القرآن الكريم. فتعبير "جنة المأوي" لم يذكر إلا مرة واحدة فقط، أي في سورة النجم. ونجد تعبيرا قريبا منه، مرة واحدة ايضا، في سورة السجدة وهو "جنات المأوي"(آية 19). هي إذن شئ مميز ومختلف تماما عن الجنة التي يتكرر وصفها في القرآن الكريم. هي منزلة خاصة، هي الملجأ والملاذ للذين يتوقون لأحضان الحبيب و الفناء فيه. يشير القرآن الكريم علي مدي آياته وسوره إلي الذين آمنوا والذين كفروا، إلي أصحاب اليمين و أصحاب الشمال، الذين سيدخلون الجنة والذين مصيرهم إلي النار. أي مجموعتين، إلا في سورة الواقعة حيث نجد، بالإضافة إلي أصحاب الميمنة و أصحاب المشأمة، مجموعة ثالثة: "و كنتم أزواجا ثلاثة، فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة، وأصحاب المشئمة ما أصحاب المشأمة، والسابقون السابقون، أولئك المقربون"(سورة الواقعة، آية 7 و 8 و 9 و 10 و 11). من هم هؤلاء "المقربون"؟ تصفهم الآية بأنهم: "ثلة من الأولين، و قليل من الآخرين"(سورة الواقعة، آية 13 و 14) وهو وصف عام و غير محدد. لكن من أقرب من الذي يتوق للذوبان في أحضان الحبيب و الفناء فيه؟ من جهة أخري، إذا كانت سورة الرحمن تتحدث عن جنتين: "و لمن خاف مقام ربه جنتان"(آية 46) و "و من دونهما جنتان"(آية 62) إلا أننا لا نجد إلا وصفا عاما لا يميز بين الجنتين. كما أن سورة الرحمن بأكملها مبنية علي صيغة المثني. أما في سورة الواقعة فنجد تأكيدا علي وجود جنتين ووصف لكل منهما: جنة المقربين و جنة أصحاب اليمين. إذا قارنا بينهما نجد أن جنة أصحاب اليمين تتسم بالمتع الحسية كالمأكل و المشرب و الحور العين. أما جنة المقربين فنجد من جهة أن المتع أكثر تعددا وثراءا من جنة أصحاب اليمين فهم: "لا يصدعون عنها ولا ينزفون"(آية 19). و لكن الأهم أننا، من جهة أخري، نجدها أكثر روحانية وذلك من خلال آيات لا نجدها في وصف الجنة الأولي، علي سبيل المثال: "لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما، إلا قيلا سلاما سلاما"(آية 26). أما جزاء يوم الحساب فنجده في نهاية سورة الواقعة حيث يتميز المقربون عن أصحاب اليمين: "فأما إن كان من المقربين، فروح و ريحان و جنة نعيم"(آية 88 و 89). يمكن أن نعتبر أن هذا الوصف ينطبق علي جنة المأوي التي ذكرت في سورة النجم حيث أن الفناء في الله هو "سلام وروح وريحان".
نعود مرة أخري لطقس المولوية و إلي "السلام" الرابع حيث إنكار الذات و نبذ الأنانية و التضحية من أجل باقي البشر علي الأرض. تماما كما فعل النبي صلي الله عليه و سلم عندما وصل من خلال معراجه الروحي إلي "العرش" لكنه عاد مرة أخري إلي الأرض ليتم مهمته كعبد الله و رسوله إلي الإنسانية. كذلك يفعل المولوي بعد أن وصل إلي مبتغاه في الفناء في الحبيب من خلال معراجه الصوفي، عليه أن يعود مرة أخري لمهمته علي الأرض: عبوديته لله و خدمة كتبه و رسله و كافة خلقه.
يلي ذلك تلاوة سورة مريم حيث معجزة ميلاد المسيح و رسالته من خلال مفهومين نجدهما في طقس المولوية و هما الأمر الإلهي "كن": "إذا قضي أمرا فإنما يقول له كن فيكون" (سورة مريم، آية 35) و النفخ في الروح الذي لا نجده بصورة مباشرة كما في سورة الأنبياء: "و التي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا"(آية 91) لكننا نجده بالمعني المجازي في سورة مريم: "فأرسلنا إليها روحنا"(آية 17). نتوقف هنا عند اختيار سورة مريم. تحتل هذه السورة مكانة خاصة في التقاليد و الثقافة التركية. فهي تقع في منتصف المصحف تقريبا (تبدأ في صفحة 305 من إجمالي 604 صفحة في المصحف) و غالبا ما تحظي صفحاتها بزخرفة خاصة تختلف عن باقي السور في المصاحف التركية. لكن الأهم هو أن سورة مريم تحتوي علي مجمل المفاهيم التي يجسدها طقس الطريقة المولوية. يمكنا القول أن المفهوم الجوهري في سورة مريم هو مفهوم الرحمة، بمشتقاته و مرادفاته. إذ ورد اسم الله "الرحمن" 16 مرة في السورة و لفظ "رحمة" خمس مرات و كلمة "حنانا" مرة واحدة. كما أن السورة تبدأ بهذا المفهوم: "ذكر رحمة ربك"(آية 2). يرتبط مفهوم الرحمة في السورة ببعث الأنبياء و هو تجسيد لمفهوم "الرحمة المهداة" الذي يبدأ به طقس المولوية. فنجد علي سبيل أن السورة تصف معجزة مولد المسيح بأنها: "رحمة منا"(آية 21) و مولد يحيي: "حنانا من لدنا"(آية 13)، و اسحاق و يعقوب: "و وهبنا لهم من رحمتنا"(آية 50) و موسي: "و وهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا"(آية 53). يقترن مفهوم "الرحمة المهداة" بالعبودية لله و ذلك منذ بداية السورة: "ذكر رحمة ربك عبده زكريا"(آية 2) فالرسل و الأنبياءهم أولا عباد الله ثم رسله، كما في حال عيسي علي سبيل المثال: "قال إني عبد الله أتاني الكتاب و جعلني نبيا"(آية 30). يمتد مفهوم العبودية لله ليشمل خلق العالم و الإنسان: "إن كل من في السموات و الأرض إلا أتي الرحمن عبدا"(آية 93). إقرار المخلوقات بقدرة الخالق و عبوديتها له يتجلي من خلال الحمد و التسبيح، أي المفهوم الذي نجده في طقس المولوية و الذي يتجسد من خلال الآية الأولي من سورة التغابن السابق ذكرها: "يسبح لله ما في السموات و ما في الأرض له الملك و له الحمد و هو علي كل شئ قدير". في نهاية الطقس يقوم المولويون مرة أخري يعقد ذراعيهم بخشوع مجسدين بذلك وحدانية الله. ثم ينسحبون بهدوء إلي خلوتهم للتأمل و ذكر الله، بعد أن قاموا يتجسيد إحدي أجمل ابداعات الفن بالقرآن.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.