مثل فرس مذعورة كانت تدير بيننا نظراتها. أحسست بأنها تحاول بمشقة إيجاد تعابير مناسبة مراعاة لدقّة الموقف وتحسّبا لردّة فعل حاسمة من زوجها »سالم« الذي يتحاشي كامل الوقت النظر إليها. أنفاسها تتابع كما اللّهاث وهي تحاول مرّة أخري إيجاد تعبيرات ألطف. كنت أتابعها بحذر محاولاً الحفاظ علي موقف محايد يتناسب مع ثقة زوجها بي وصداقتنا الطويلة التي بدأت قبل عشر سنوات لم تتغيّر خلالها نظرتي إليه ولا صداقتي له في يوم من الأيّام مقابل إحساسي بحيرتها وتضامني الصّامت معها. خلال ذلك انتبهت إلي أن الحنّاء في كفّيها بدأت تميل للزّرقة كما أنّ بقايا آثار »الحرقوس« المنقّط بانسجام وعناية فائقة كادت تمّحي تمامًا وعادت مجرّد نقاط رصاصيّة باهتة اللّون تتناسب تمامًا مع تعابير وجهها المتراوحة بين القنوط والذعر. مصيرها الآن بين أيدينا. زوجها »سالم« يجلس صامتًا إلي جانبها. يتابع قفزات العصافير التي تنقر فتاة الخبز بالقرب منّا بشرود ظاهري يتعارض مع شكل شفتيه المكوّرتين وتقلّص وجهه الذي يوحي بأنّه مستعدّ للانفجار مع كلّ كلمة أخري قد تنطق بها زوجته حنان. أحسست بضيق شديد وأنا أحاول بدوري إيجاد كلمات مناسبة ترضي الجميع ولا توتّر الجوّ أكثر. في حين كان الهادي جليسنا وصديق زوجها سالم يكوّر كأس العصير الفارغ أمامه. ويرسم بقعره أشكالاً بدائيّة. ملتفتًا بين الحين والآخر إلي مدخل المقهي . نظرت مرّة أخري صوب زوجها »سالم« كالمتضرّعة وهي تتحدّث عنه متوجّهة لي بالخطاب: صدّقني لقد كنت أبكي من الوجد والشوق إليه كلّما أعدت للمرّة المئة قراءة إحدي رسائله التي كان يرسلها لي أسبوعيًّا من هنا. وكلّ ذلك كان منذ ستّة أسابيع فقط. تصوّر. هل تتصوّر؟ كانت كلماته لي مثل حبّات المطر حين تنزل الحقول العطشي. لم أبك بكاء حلوًا في حياتي مثلما كنت أبكي وأنا أقرأ رسائله العظيمة. رسائله المليئة بألوان الورد وروائحه بسحره وجماله الخلاّب. وبالرّغم من أنّني لم أكن قد قابلته قبل الزّواج سوي مرّتين أو ثلاثًا في حضور الأهل والأقارب فإنني أحببته من خلال رسائله. قتلتني رسائله وسحر أسلوبه في التعبير بدقّة عن مشاعره. أنا التي درست بشعبة الآداب وعاشقة الشعر. لم أكن أحلم في حياتي بأكثر مما وهبني اللّه اخيرًا وما ساقه القدر لي. زوج محب. قادر علي التّعبير بلا خجل عن حبه. تصوّر. مرّت الآن أربعة أسابيع فقط منذ زواجنا وقدومي إلي ألمانيا. لا شيء بقي من ذلك. لا شيء علي الإطلاق. يتركني منذ الأسبوع الأوّل كامل الوقت وحيدة ليذهب للعمل مع الفجر وحين يرجع لا يكلّمني أكثر من كلمتين كمّن يجاهد غصبًا في النّطق. نخرج أحيانًا للتّجوّل فلا يحدّثني ويردّ عن كلّ سؤال بضيق يخنق في حلقي كلّ كلمة. أريد أن أعرف السبب فقط. ماذا فعلت. أين كلامه العذب. أين ما كان يرسمه لي قبل أسابيع من حقول الياسمين وأشجار والورد و النخل و الزيتون. أكاد أفقد عقلي. هل يمكن أن تكون كلّ تلك الكلمات حبرًا علي ورق؟ يستحيل. أكاد أجنّ وربي. ازداد الموقف تعقيدًا. وأحسست بمثل ثقل جبال الرّصاص تضغط علي قلبي في حين اكتفي زوجها »سالم« بدق الطاولة بأظافره دقّات متوترة وهو يكوّر شفتيه أكثر. ويتتبع العصافير بشرود. محاولاً كظم غيظه وتوتّره الشّديد. بدي لي مثل برميل من المحروقات الممجوجة يمكن أن ينفجر في كلّ لحظة. لم يكن هناك غيري وغيره يحس حرج ثقل صمتنا ذلك أنّني كنت الشخص الذي كتب كلّ رسائل »سالم« إلي زوجته حين كانت بتونس. بطلب ورجاء منه. أنا الذي وعدتها علي لسانه بمخدّة من لفائف الياسمين وعريش من حنان النّخل والزّيتون وشرائط من الحرير المزيّن بزهور القرنفل. أنا الذي استحضرت المنفلوطي وكلّ ما ترسّب في ذاكرتي ووجداني من العبارات العذبة الرّائعة لأعبّر عن إحساس مهاجر يحنّ إلي زوجة من تراب أرضه. كنت أكتب لها رسائل أسبوعيّة في عشر صفحات يقطع تدفّقها زسالمس لأنّه يعرف تمامًا تكاليف الطوابع البريدية اللاّزمة لإرسال عشر صفحات مكرّرة بخط يده مع المظروف الأصفر وبطاقة بريديّة تمثل صورة مشرقة لمدينة ميونيخ. المهمّ ينبغي ألا يتجاوز الوزن الجمليّ للمظروف الخمسين جرامًا. كان يردد بحسم. وحين كان يحدث وانسجم في الكتابة وأتجاوز الصفحات العشر المقرّرة مسبقًا فإنّه كان يطلب منّي بأن أحدد له جملة مناسبة في الصّفحة العاشرة للقطع. محتفظا ببقيّة الصفحات للرسالة القادمة. وحتّي نجد ما نقول. كان يقول. صمت ثقيل يلف المكان. أحسست بأنّني أوشك علي الاختناق فاعتذرت وغادرت بعد أن دفعت الحساب رغم إلحاح »سالم« الذي طلب منّي باللّغة الألمانيّة أن أنتظره بعد عشر دقائق بمقهي »الرّوكسي« الذي يبعد ثلاثين مترًا فقط عن المكان حيث نجلس. استغربت طلبه ولكنّني أجبته بالموافقة وأنا أحاول إخفاء الارتباك الشديد الذي أحس به. كنت أتوجّس أنّه يريد طلب رأيي في أمر قرّره وحسم أمره. كنت أعرفه جيّدًا. يظلّ طيّبًا وديعًا ولكنّه من أكثر النّاس عنادًا حين يصرّ علي أمر. سيتركك تجادله ساعات وساعات. وسيسمعك بكل انتباه بل أنّه سيحرّك برأسه عشرات المرّات موافقًا كلامك حتي إذا أكملت حديثك نظر إليك ببرود وقال لك بأنّه بالرّغم من ذلك مصرّ علي رأيه. خفت أن يكون قد قرّر قرارًا فيه إساءة لزوجته المسكينة. اتّجهت إلي مقهي »الروكسي« وهو مقهي معروف ومكتظ كامل الوقت. طلبت عصيرًا وأنا في أشد الضيق والقلق. وفعلاً لم تمض عشر دقائق حتّي رأيته يقطع الطّريق المقابل متّجهًا نحوي. جذب كرسيًا وجلس دون أن ينطق بحرف واحد. - هل تركت زوجتك وحيدة؟ سألت. - أوصلتها لمحطّة الباص. - ولكنّها لم تتعوّد بعد علي الرجوع وحيدة وللوصول إلي بيتك عليها أن تغيّر الباص مرّتين؟ - ستصل. أنا لم أتزوّج حمارة! - ما دخل الحمارة في الأمر يا أخي؟ أنا نفسي أجد صعوبة في الوصول إلي منزلك رغم أنّني منذ قرن بهذا البلد. - أريد أن أمتحنها آخر امتحان! - لم أفهم ماذا تقصد بأنّك تريد أن تمتحنها آخر امتحان؟ - هي آخر فرصة لها لتستفيق من غفلتها. - لا أكاد أفهم شيئًا من هذه الأحاجي. هل يمكن أن تشرح لي ما تعنيه؟ - اسمع لقد خدعت. في البداية صبرت عليها كثيرًا. ورغم إحساسي منذ اليوم الأوّل بأنّها غير ما كنت أنتظر فقد ظللت أنتظر. قلت ربّما احساسها بالغربة وابتعادها عن الأهل للمرة الأولي هو السبب. ولكنني كنت أزداد يقينًا كلّ يوم بأنني خُدعت. فكّرت بسرعة. ظننته يريد أن يلمّح لي بأنّه كان يعتقد خلال فترة الخطوبة القصيرة بأنّها فتاة عذراء ولكنّه اكتشف بأنّ لها تجربة سابقة. ولمّا طال سكوته وأحسست بإحراجه أكثر سألته بصراحة استغربتها أنا نفسي: هل حدّثتك عن علاقة سابقة لها أزعجتك وغيّرت نظرتك لها؟ نظر لي نظرة غريبة تجمّعت فيها تعابير من الصّعب تفكيكها. أجابني وهو يضرب علي الطاولة: - يا ليتها كانت كذلك؟ بالعكس أستطيع أن أجزم بأنهاّ ليلة زواجنا كانت أول مرّة تختلي فيها برجل. هذا آخر ما يعنيني ويشغل بالي الآن. - ما المشكلة إذن. لماذا لا تحدّثني بدون مقدّمات؟ قلت له وقد بدأ صبري ينفد فعلاً. - تحب الكلام! - ماذا تعني بأنّها تحبّ الكلام. - تريدني أن أقول لها كلامًا حلوًا. مثل الأفلام. - هذا طبيعي. أنتما لم تتمّا شهر العسل بعد. وكلّ امرأة في العالم تحبّ الكلام الجميل الرقيق. - إنّها تكتب. وتريدني أيضًا أن أكتب! - بربّك كفّ عن هذه الألغاز. ما معني أنّها تكتب وأنّها تريدك أن تكتب أيضا وماذا تكتب؟؟؟ في ثلاث رشفات متتاليّة أكمل كأس الشّاي الذي كان قد طلبه منذ مدّة ولم يلمسه قبل ذلك وأجابني وهو يعدّل من وضع الكرسيّ مطلقًا تنهيدة أعتقدت لوهلة بأنّها قد تكون السبب في انحناء ظهره كامل الوقت: - في البداية كانت لا تتركني أقربها إلاّ بعد أن أسمعها نصف ساعة كلامًا جميلاً يعلم اللّه كيف كنت أجمعه. أنت تعرف بأنّني لست قويًّا في التعبير. يا أخي التعبير أصعب شيء في الدنيا. ورغم ذلك كنت أفعل لأنّني لاحظت أنّها تخاف من الجنس والكلام يجعلها تلين وتهيج فكّرت أن الأمر قد يساعد لتعلق منّي ولدًا بسرعة ونرتاح. ولكنّها لم تكن تكتفي بالكلام. تصوّر المصيبة. إنها تترك لي أوراقًا في كلّ مكان لأقرأها. في المرحاض في المطبخ فوق المسجّل تحت جهاز التلفزيون علي باب الثلاجة في كلّ مكان. أستيقظ في الفجر لأقصد ربّي للعمل. فأجد ورقة مثبّتة بالشريط الملصق فوق المرآة وأخري حول مفاتيح السيّارة. مجنونة بالكتابة والغزل. يا أخي أنا كبرت علي هذه الأمور. تصوّر لي من العمر الآن ستّة وأربعين سنة ثلاثة أرباعها قضيتها في رفع صناديق الخضر في هذا البلد الملعون وتريدني أن أغازلها منذ أدخل البيت وحتي أخرج منه. أصبحت أخاف من البيت. تقول لي وهي تتمسّح كالقطّة يا حبّوبي الغالي ويا عيوني ويا روحي. تتكلّم يا أخي مثل جماعة لبنان وسوريا وفاتن حمامة! أنا أرجع للبيت أترنّح مثل السكران من التعب ولا رغبة لي أعظم من غلق جفنيّ لساعة واحدة. وهي تريدني أن أغازلها. يلعن أبو الغزل. غزل أفلام. يا أخي الواقع مرّ. واللّه العظيم أصبحت أحلم بأيّام العزوبيّة. بكلّ عيوبها العزوبيّة أحيانًا أروع شيء. ترجع متي تريد. وتخرج متي تريد. تبقي شهرين لا تكلّم أحدًا إذا أردت. تنام أو تصحو. تسافر أو تبقي. لا أحد يربك حياتك ويحطّمها. ويجعلها لعنة ونقمة. مراقبة. وحصار. ورعب. وخوف مما لا تعرف. لقد خرجت من تونس وأنا في السّابعة عشرة من عمري. وعشت كامل الوقت وحدي. وفجأة أقوم بثقب عيني بيدي وآتي بامرأة تنظر في وجهي كامل الوقت. في بيت ضيّق. يا ربّي.. ماذا فعلت؟ لقد جنيت علي نفسي وعلي بنت النّاس. نظرت إليه مندهشًا. كنت أعرفه جيّدًا. أو هكذا ظننت. كنت أعرف بأنّه يفضّل العزلة ولا يتكلّم إلا حين يجبر علي الكلام. ولكنّني لم أكن أتصوّر أنه يمقت أن يجبر علي الكلام إلي هذا الحدّ. اسمع لقد قرّرت وانتهي الأمر. سأقتني لها غدًا تذكرة لتزور عائلتها بعد أسبوع. حين تسافر سأكلّم والدها وأرفع قضيّة للطلاق. لم أعد أتحمّل. إذا لم أطلّقها سأنفجر وربّما أرتكب جريمة شنيعة. البارحة كدت أضرب زميلي بالعمل بصندوق طماطم. سأجنّ فعلا. نهض بصعوبة وأصرّ علي الدّفع وقبل أن يغادر أبعد كرسيه واتّكأ علي الطاولة مقتربًا أكثر ما أمكنه منّي وقال لي شبه هامس: رسائلك هي السبب. يا ليتنا كتبنا لها كلامًا معقولاً ومختصرًاة