شغل في القاهرة.. بحوافز وتأمينات ورواتب مجزية| اعرف التفاصيل    الأرز وصل ل 33 جنيه| قائمة أسعار السلع الأساسية اليوم 11-6-2024    ارتفاع سعر الدولار أمام الجنيه اليوم في البنوك    بث مباشر.. طلاب شعبة الأدبي بالثانوية الازهرية يستكملون الامتحانات اليوم    للإطمئنان على صحته.. آمال ماهر تشارك محمد عبده في دويتو غنائي عفوي    حكم الشرع في ارتكاب محظور من محظورات الإحرام.. الإفتاء توضح    دراسة ترصد زيادة كبيرة في معدلات تناول المكملات اللازمة لبناء العضلات بين المراهقين في كندا    ذاكرة الكتب.. كيف تخطت مصر النكسة وبدأت حرب استنزاف محت آثار الهزيمة سريعًا؟    شهداء وجرحى غالبيتهم أطفال في قصف إسرائيلي لمنزل مأهول شمال غزة    استشهاد 4 فلسطينيين وإصابة 8 آخرين في الضفة الغربية    واجهة المكتبات    إسرائيل تقصف شحنة أسلحة تابعة لحزب الله    عيد الأضحى 2024.. الإفتاء توضح مستحبات الذبح    هل يجوز الاضحية بالدجاج والبط؟ عالم أزهري يجيب    عاجل - مباشر حالة الطقس اليوم × الإسكندرية.. كم درجات الحرارة الآن في عروس البحر؟    مصطفى كامل يتعرض لوعكة صحية خلال اجتماع نقابة الموسيقيين (تفاصيل)    زيلنسكي يصل إلى برلين للقاء شولتس    أيمن يونس: لست راضيا عن تعادل مصر أمام غينيا بيساو.. وناصر ماهر شخصية لاعب دولي    ضياء السيد: تصريحات حسام حسن أثارت حالة من الجدل.. وأمامه وقتًا طويلًا للاستعداد للمرحلة المقبلة    عمرو أديب: مبقاش في مرتب بيكفي حد احنا موجودين عشان نقف جنب بعض    زكي عبد الفتاح: منتخب مصر عشوائي.. والشناوي مدير الكرة القادم في الأهلي    احتفالا بعيد الأضحى، جامعة بنها تنظم معرضا للسلع والمنتجات    التجمع الوطني يسعى لجذب اليمينيين الآخرين قبل الانتخابات الفرنسية المبكرة    عيد الأضحى في تونس..عادات وتقاليد    إيلون ماسك يهدد بحظر استخدام أجهزة "أبل" في شركاته    صحة الفيوم تنظم تدريبا للأطباء الجدد على الرعاية الأساسية وتنظيم الأسرة    مصر ترحب بقرار مجلس الأمن الداعي للتوصل لوقف شامل ودائم لإطلاق النار في غزة    تعليق ناري من لميس الحديدي على واقعة تداول امتحانات التربية الوطنية والدينية    وزراء خارجية "بريكس" يؤيدون منح فلسطين العضوية الكاملة في الأمم المتحدة    إنتل توقف توسعة مصنع في إسرائيل بقيمة 25 مليار دولار    تراجع سعر الذهب اليوم في السعودية وعيار 21 الآن ببداية تعاملات الثلاثاء 11 يونيو 2024    بعد 27 عاما من اعتزالها.. وفاة مها عطية إحدى بطلات «خرج ولم يعد»    عيد الأضحى 2024.. إرشادات هامة لمرضى النقرس والكوليسترول    الحق في الدواء: الزيادة الأخيرة غير عادلة.. ومش قدرنا السيء والأسوأ    بعد تصريحاته المثيرة للجدل.. إبراهيم فايق يوجه رسالة ل حسام حسن    إخماد حريق داخل حديقة فى مدينة 6 أكتوبر دون إصابات    مصرع سيدة صدمتها سيارة أثناء عبورها لطريق الفيوم الصحراوى    تحذير عاجل ل أصحاب التأشيرات غير النظامية قبل موسم حج 2024    سعر الدولار والريال مقابل الجنيه في منتصف الأسبوع اليوم الثلاثاء 11 يونيو 2024    مجموعة مصر.. سيراليون تتعادل مع بوركينا فاسو في تصفيات المونديال    «جابوا جون عشوائي».. أول تعليق من مروان عطية بعد تعادل منتخب مصر    أحمد عبدالله محمود: «الناس في الشارع طلبوا مني أبعد عن أحمد العوضي» (فيديو)    إبراهيم عيسى: طريقة تشكيل الحكومة يظهر منهج غير صائب سياسيا    قصواء الخلالي: وزير الإسكان مُستمتع بالتعنت ضد الإعلام والصحافة    أحمد كريمة: لا يوجد في أيام العام ما يعادل فضل الأيام الأولى من ذي الحجة    رئيس خطة النواب: القطاع الخاص ستقفز استثماراته في مصر ل50%    وفد من وزراء التعليم الأفارقة يزور جامعة عين شمس .. تفاصيل وصور    منتخب السودان بمواجهة نارية ضد جنوب السودان لاستعادة الصدارة من السنغال    مفاجأة في حراسة مرمى الأهلي أمام فاركو ب الدوري المصري    بالصور.. احتفالية المصري اليوم بمناسبة 20 عامًا على تأسيسها    هل خروف الأضحية يجزئ عن الشخص فقط أم هو وأسرته؟.. أمين الفتوى يجيب (فيديو)    الاستعلام عن حالة 3 مصابين جراء حادث مروري بالصف    وزيرة الثقافة تفتتح فعاليات الدورة 44 للمعرض العام.. وتُكرم عددًا من كبار مبدعي مصر والوطن العربي    هل تحلف اليمين اليوم؟ الديهي يكشف موعد إعلان الحكومة الجديدة (فيديو)    مصر ضد غينيا بيساو.. قرارات مثيرة للجدل تحكيميا وهدف مشكوك فى صحته    أخبار 24 ساعة.. الحكومة: إجازة عيد الأضحى من السبت 15 يونيو حتى الخميس 20    أستاذ اقتصاد: حظينا باستثمارات أوروبية الفترة الماضية.. وجذب المزيد ممكن    عالم موسوعي جمع بين الطب والأدب والتاريخ ..نشطاء يحييون الذكرى الأولى لوفاة " الجوادي"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصة قصيرة جداً
آه.. يابلد!
نشر في أخبار الأدب يوم 01 - 03 - 2013

انتهي من أداء صلاة الفجر. جلس إلي مكتبه بعد غياب شهر في رحلة في ضيافة الرحمن. كانت كل الأشياء في حجرة مكتبه تبدو باهتة.. رفوف الكتب من الأرض إلي سقف الحجرة، كأنها الجواهر واللأليء، في متحف الفن الإنساني، لكنها تختلف عن الجواهر المادية. لأنها أروع ما أبدعه الإنسان من ترجمة الأحاسيس والمشاعر واستقرت عيناه علي مجموعات الكتب الدينية الكثيرة... ولكنه طمأن نفسه.. أنه مازال في العمر بقية.. ليتذود من خلاصة من سبقوه في كشف سبل هذه الحياة الرخيصة. العفنة التي يتكالب عليها معظم الناس.. كما تتكالب الكلاب علي قطعة عظم عفنة..
كان في تلك الرحلة.. يشعر بالسعادة تغمر كل وجدانه وأحاسيسه وهو يطوف حول البيت العتيق حافي القدمين عاري الجسد الا من غلالة تستر عورته ويطوف.. ويطوف.. ويطوف..
مترنما بكلمات الاستغفار.. والحمد.. والشكر.. والدعاء ناسيا كل ما مر به من صراعات ودوامات في تلك اللعبة التي يسمونها.. الحياة.. وقد تلاشت السنوات الأربعون من ذاكرته.. وكأنها طيف.. أو حلم مر بخاطره..
ولفت نظره مجموعة الخطابات التي وصلته أثناء غيابه وأمسك بها.. يتصفح الأظرف الخارجية.. واستقرت عيناه علي ظرف أصفر.. لابد أنه آت من جبهة حكومية.. أو الضرائب.. ففتحه.. ووجد استمارة بها أرقام.. وخطاب مرفق بخط رديء.. يخطره بأنه قد تم الحجز عليه لعدم سداده الضرائب علي ايراده من أحاديث الاذاعة منذ سبع سنوات.. وغرامات تأخير.. فانتابته الدهشة.. كيف يحدث هذا.. وانه قد سبق عليه الحجز.. وسدد تلك المبالغ.. وأنه قد سدد ما عليه قبل أن يسافر إلي الأراضي المقدسة.. ولذلك قرر أن يكون أول عمل يؤديه في ذلك اليوم هو الذهاب إلي الضرائب.. ليري ما حدث.. وما حقيقة الأمر..
واستقل سيارته.. وعاد إلي رحلة العذاب اليومية التي استراح منها أكثر من شهر.. وانطلق بالسيارة بين مئات السيارات ويغوص في حفر الطريق ويصعد إلي أكوام الحجارة التي تزين جانبي الطريق.. إلي أن وصل إلي مقر الضرائب.. وعبثا يحاول أن يجد مكانا ليترك السيارة.. وبعد أن طاف بجميع الأزقة اضطر إلي أن يتركها بجوار احدي السيارات..
والتقي بمأمورة الضرائب الحسناء.. فقد تحولت المأمورية إلي مأمورية نساء وآنسات.. فالاعتماد علي المرأة في جلب الأموال مثل الكباريهات... والكازينوهات خير وسيلة سريعة للحصول علي الأموال..
ودار الحوار بين المأمورة وصاحبنا:
-كيف يتم الحجز دون اخطاري؟
-لقد أخطرناك بخطاب مسجل.
-أين هو؟
-هذه هي صورته.
-ولكنني لم أتسلمه لأنني كنت ضيفا من ضيوف الرحمن.
-لا شأن لنا.
-ولكنني سددت هذه المبالغ منذ سبع سنوات.. فكيف يتم الحجز بعد ذلك؟
-آه ان هذا المبلغ الأخير.. بواقي تلك السنة.
-بواقي.. المثل يقول اليهودي لما يفلس يبحث في دفاتره القديمة..
-انه مبلغ بسيط.. ويجب ان تدفعه.. وعليه أيضا.. غرامة تأخير.
وحاولت أن تخرج لعبة الآلة الحاسبة من درج المكتب ولكن بطنها المنتفخة.. حيث يتكور فيها جنين في طريقه الي دنيا اللعبة.. منعتها فقامت متضايفة..
-لقد اتعبتني يا استاذ..
-انني اسدد ما علي من ضرائب.. ولا أمانع فيها.. ولكن غرامة التأخير هذه.. ما شأني بها.
-قانون يا استاذ!
-أي قانون هذا.. هل أنا نهيت مائتي مليون جنيه مثل بعضهم.. وهربت إلي الخارج.. مجهول العنوان. انني أسدد بالتزام ما علي من التزامات..
-عظيم ادفع ما عليك.
-انني لا أمانع.. ولكن هذه الغرامة غرامة التأخير انها إتاوة..
-لا يا أستاذ.. انها قانون.
-قانون الإتاوات.. ان الراقصة في كباريهات شارع الهرم.. تلتقط بين ثدييها مئات الجنيهات.. ولا ضرائب عليها وضحكت المأمورة الحسناء..
-انها نقطة..
وضحكت باقي المأمورات الحسناوات الموجودات في الحجرة. فقد انحشرت الحجرة الضيقة وعلي المكاتب عشرات الدوسيهات والملفات.. في انتظار ايذاء البسطاء من الناس وانزال الصواعق عليهم..
-ان الناس البسطاء الذين تتمرنون في ايذائهم هم الذين يدفعون الضريبة.. أما ملوك المافيا.. والحشيش والتهريب.. وملوك الانفتاح وأصحاب السيارات ذات الثمانين ألف جنيه.. لا يمكن ان تحصلوا منهم علي الضرائب.
وانخرست المأمورة وارتسمت ابتسامات بلهاء علي شفاه باقي المأمورات الجميلات..
-هذا ليس اختصاصنا.. انها اختصاص مأمورية مكافحة التهرب من الضرائب.. المهم ان تدفع.. آه.. لقد نسيت..
-نسيت ماذا؟
-لابد أن تدفع قيمة الخطابات التي سوف نرسلها إلي الجهات والبنوك التي وقعنا عليك الحجز فيها.
-بنوك.. انني لا اضع اموالي في بنوك مصرية.
-أين تضعها؟
-في بنوك اسرائيل.
-سنحجز عليها.
-ليس بينك وبينها اتفاقية.. يا أختاه... لو كان معي نقود تستحق وضعها في البنوك.. لما جئت اليك.
-لا شأن لنا.
-لكن شأنك هو ارهاق الآخرين.. فوق ارهاقهم في الحياة.
-هل ستدفع؟
-سأبحث الآن مع نفسي.. الا يوجد شخص آخر أو رئيس.
-ولا وزير المالية.. اننا نطبق القانون.
-كما فعلت الدبة.
-ما هذا يا أستاذ؟
-هل تعرفين قصة الدبة التي أرادت أن تحمي صاحبها من ذبابة.. فهشمت رأسه بحجر.. ان اسلوبكم هذا في عصر الجباية هذا.. يجعل الشرفاء يتحولون الي سلبيين.. وسيدفع مولودك الثمن بعد ذلك..
وخرج صاحبنا.. والمرارة تعصر قلبه.. وغمامة قاتمة تعشش فوق عينيه.. وقد أحس بغليان دمه داخل رأسه.. وذهب إلي سيارته.. فوجد عليها طابع مخالفة لأن السيارة تقف في الممنوع.. وبصق علي الأرض.. واطلق ما في صدره من ضيق في تلك الكلمات.. »آه يابلد«.
وفي مكتبه جلس يحاول ان يلملم نفسه المبعثرة في دوامة ماديات الضرائب والوقوف في الاشارات.. وترك سيارته مرة اخري في الممنوع.. فالجو حار والشمس تحرق البقية الباقية من الأعصاب.. ودق الجرس.. جاءه الفراش.
-أين الآنسة ميرفت؟
-ذهبت هي وزميلاتها لمواساة مدام فاطمة زميلتهم..
-لماذا؟
-كادت تموت في عملية الولادة بالمستشفي.
-لا حول ولا قوة إلا بالله.
-وربنا ستر.. وتم انقاذها.. ولكن المولود مات..
-ما الذي يحدث.. لاشيء سعيد!!
ودق جرس التليفون.
-آلو..
-أين كنت؟
-ياه.. أين أنت..؟
-طلبتك أكثر من مرة.. وقالوا لي أنك مسافر إلي بيت الله.
-الحمد لله.. الحمد لله.. ماذا وراؤك؟
-كانت هناك بعض المشاكل.. ولم أجد من استنجد به الا انني.. ولكنك سافرت..
-ماذا حدث؟
-زوجي كاد يضيع منا.
-ماذا حدث..؟
-ضاقت الحياة بنا.. بعد ان عدنا من الخارج.. ومعنا بعض الأموال.. افتتح مشروعا لبيع الأثاث.. واعطي التجار البضاعة.. ومرت الأشهر ولم يدفع أحد شيئا.. وفي حوار حاد مع أحد التجار سقط زوجي مغشيا عليه..
-لا حول ولا قوة إلا بالله.. وماذا بعد؟
-نقلناه الي المستشفي.. واصيب بحالة شلل..
-ماذا حدث للناس.. لقد تحولوا الي وحوش في غابة..
-وأكثر.
-انها لعنة من الله علي الناس.. لأنهم ضلوا الطريق.
-قلت.. انك تعرف أخصائي.
-الأخصائي.. هو الله يا أختاه.
-لقد اصبت بالاكتئاب.
-كيف؟.. وانت راجع من مكان طاهر..
-وما قيمة ذلك.. وهناك الضرائب والأتاوات وعتاولة المافيا.. وعصابات ما يسمي بالانفتاح ينهشون في بعض.. ولا احد يعلقهم من رقابهم..
-ياه.. إنك.
-اعرف.. انني فقدت الرؤية.. لم استطع ان اتوازن مع نفسي.. انني انطح رأسي في جبال.. الواقع.
-وايمانك.
-لولا بقية من ايمان.. لتحولت إلي شيطان..
-انك لست في حالتك الطبيعية.
-هو كذلك.
-ارجو ان تعود إلي طبيعتك.. اننا في حاجة اليك... إلي اصرارك علي الصمود دائما.
-ان الأعاصير أقوي مما صادفني طوال حياتي.
-سأتصل بك فيما بعد.
-وهو كذلك.
دق جرس التليفون مرة اخري.
-خطيبة سيادتك يا افندم..
-شكرا.
-ألو.. هل انتهيت من أعمالك؟
-انني انتهيت من نفسي.. سأنزل اليك فورا..
ولملم الأوراق من فوق مكتبه وحمل حقيبته ونزل.. فوجد خطيبته تستقبله بابتسامة كعادتها ولكنه لم يستطع ان يبتسم.. وخرجا من المبني الي الشارع.. كانت السيارات تمرق من أمامهما.. وقالت:
-أين السيارة؟
-هناك بجوار كورنيش النيل.
وقف مدة.. وهو يحمل الحقيبة في يد وفي اليد الأخري مجموعة من الأوراق والصحف.. ومرت السيارات إلي أن وجد الطريق شبه خال.. فحاول العبور.. ولكنه فوجيء بعربة نقل آتية نحوه مسرعة وتقدم إلي الأمام مسرعا فرأي السيارة تقترب نحوه فتراجع.. واختل توازنه وسقط علي الأرض وتبعثرت الأوراق وكادت السيارة تمر فوقه واخطأته ببضع سنتيمترات.. وحاول ان يقف.. ولكن ذراعه الأيسر لم يسعفه علي الوقوف فقد تغطي بالدماء التي تنزف بسرعة.. وهرع إليه بعض المارة.. وساعدوه علي الوقوف.. فوقف مذهولا اذ كان مع الموت وجها لوجه منذ ثوان. التقت عيناه بمنظر خطيبته وهي واقفة كقطعة من الحجر وقد وضعت يديها فوق وجهها الشاحب.. والتقطت أذناه عبارات مختلفة من المارة »الحمد لله.. ربنا ستر« »كتب لك عمر جديد«.. »سواقين مجانين«.. »السواق هرب«.. »سيارة النقل بلا نمر«.. »آه يا الله«.. »الحمد لله«.. »انتبه وانت تعبر الشارع«.
وفي لحظات أصبح الشارع خاليا من السيارات.. واختفي المارة وحمل صاحبنا الحقيبة والأوراق وعبر الشارع وخلفه خطيبته صامته.. وقد فقدت النطق.. وذهب الي سيارته ووضع فوقها الحقيبة والأوراق.. وفتح الباب وأخرج علبة المناديل الورق ليمسح الدماء.. وأخرجت خطيبته منديلها لتضعه فوق الجرح.. لتوقف النزيف..
-لابد أن نذهب إلي أقرب مستشفي.
-لماذا؟ لاداعي!
- لابد أن نذهب إلي أقرب صيدلية.
وظلت تمسح الدماء بينما تعلقت عيناه بمياه النيل الكالحة. اللون ووقفت آلة التفكير لديه بحركات آلية.. دخل السيارة ومعه خطيبته.. وانطلق مع بقية السيارات الي صيدلية كانت قريبة وتم تطهير الجرح وتناول بعض الأدوية.. وقد انطلقت السيارة مرة اخري في طوابير العذاب في شارع مجري العيون ثم صاعدا الي جبل المقطم ليبحث عن شقة هناك للمرة الثالثة.
وسمع آذان صلاة العصر، فدخل الجامع الوحيد هناك هو وخطيبته ليستعيد نفسه.. ويشكر الله علي منحه القدرة علي الصبر. وفي الجامع. لم يجد ماء ليتوضأ فتيمم وأدي الصلاة وخرج ليبحث مرة اخري عن شقة الأحلام.. وذهب الي صديقه الذي وعده بالعثور علي شقة في المقطم.. أجمل مكان بالقاهرة للاستشفاء من جحيم القاهرة.. ولكنه لم يجده فقد سافر لبعض أعماله.. وانطلق بسيارته بين شوارع المقطم باحثا عن شقة.. الي ان وصل الي حافة المقطم حيث يطل منها علي القاهرة.. قابعة في السفح بآثارها.. وبظلال بيوتها.. حيث غطتها سحابات من الأدخنة الصاعدة من أفران الجير.. التي تملأ منطقة »عين الصيرة« جلس هو وخطيبته.. فوق احدي الصخور.. يتناولان بعض الشطائر والشمس تميل نحو الأفق.. لتنام خلف الأهرامات.. التي تبدو بعيدة.. وجلس يأكل همه وغيظه وخطيبته تحاول ان تخفف عنه.
-لن يضيع الله جهدنا في البحث عبثا..
-لماذا ندخل الله في كل شيء.. وما يحدث لنا من صنع الإنسان.
-أنك تؤمن بالله.
-لا حول ولا قوة الا بالله.. ولكن ما نحن فيه.. ليس من صنع الله.. انه لايعذب الناس..
-لاتيأس..
-أنا لست يائسا.. ولكنني انفجر من الداخل.. انظري هناك.. تحت.. هذه مقابر البساتين.. ان الأحياء يزاحمون الأموات في قبورهم ولا نجد انا وانت مكانا لكي نمارس حياتنا الطبيعية.
ونظرت اليه خطيبته.. نظرات مفعمة بالحب ولم تتكلم- ان الكلمات تنطلق من فمه كلطلقات مدفع رشاش.. وانطلقت الكلمات من فمه:
-يقولون ان نيرون الذي احرق روما مجنون.. ولكني اتمني الآن.. لو أري القاهرة وهي تحترق..
-ما ذنب الناس الطيبين الصابرين.
-لأنهم سكتوا علي الأشرار.. واستطابوا الحياة بجانبهم.. يرون كل الفساد ولايتحركون..
-وما ذنب البلد؟
-آه.. يا بلد.. ماذا جري لنا..؟
-وتحرق الأهرامات؟
-الأهرامات لن تحترق.. انها شامخة.. ترمز لسطوة فرعون.. وجبروت ان الناس منذ الأزل يحبون سطوة الفرعون.. واستكانوا لهذا.
-انت تغالط.. ليس هكذا كان الناس.. لقد قتلوا الفراعنة والمستغلين..
-عندما اصبحوا رجالا.. انظري الي القلعة قلعة محمد علي.. جاء من هناك.. وشيد تاريخا بالدم ومات.. وطوي التاريخ افراد اسرته.. وبقي رمز الجبروت.. في القلعة.. ونبيع مشاهدة الرمز للغرباء.. والسياح.
-لماذا كل هذه النظرة السوداء؟.. ارجوك.. استرح لحظة..
-ليتني استريح..
-هيا ننزل من هنا.
-بالعكس انني استريح هنا.. وأنا أري القاهرة.. تحت قدمي.. والبيوت كبيوت النمل.. والقبور ينيرها الأحياء بالتليفزيونات والكهرباء.. بانوراما غريبة يعجز أي عبقري عن اختراعها.
-ليس الحل في ان تحرق كل شيء!
-لكي يأتي أناس جدد.. يستحقون ان يعيشوا فوق تلك الأرض..
-انهم موجودون فعلا.
-أين؟
-انت مثلا.. وغيرك كثيرون.. تستطيعون ان توقفوا الأشرار.
وضحك.. ضحكة.. ضاعت في ذلك الفضاء الواسع.. امام بانوراما الغروب والشمس تلملم الوانها واشعتها من فوق القاهرة كلها.. ليرخي الظلام علالات شفافة رمادية عليها..
ولكن ان هذه الأماكن.. والآثار تحكي قصة حبنا وامامك جامع السلطان حسن والرفاعي وابن طولان.
-عظيم.. عظيم.. ان السلطان حسن بني جامعه ولم يدفن فيه.. لقد اغتاله الخواتم المماليك.. أما الحب.. الذي كنت احيا به.. واتنفس به اصبح ذكري!..
-كيف.. وانا بجانبك..؟
-ما انا فيه انساني نفسي!..
-انها فترة ودوامة لاتجعلها تجذبك الي القاع وانت احسن حالا من الكثيرين.
-المشكلة انني احس بالآخرين ولا استطيع ان احس بالسعادة ومن حولي يتألمون انظري.. انظري هناك..
-أين..؟
-لا.. ليس علي القاهرة.. ولكن بجانبنا.. هؤلاء الأحبة والعاشقين ما الذي يفعلونه.. بعد ذلك هه..
-لا أفهم.
مجرد عبث بالحب.. وحكايات حب فاشلة بسبب الاحباط.. انا مثلا.
-عظيم.
-العظمة لله يا حبي.. انا مثلا.. احس ان قصتنا سوف تختنق.. اذا لم نجد شقة.
-لاتقل هذا.
-انها الحقيقة المرة.. وموعد تنفيذ الإعدام في حبنا آت لاشك فيه.
-انك متعب.. هيا بنا نسير قليلا.. هيا..
ووقف صاحبنا.. وكأنه يرفع من فوق كاهليه اثقالا من الحديد.. كأنه في مسابقة لرفع الأثقال.. واحاطت وسطه بذراعها الأيمن.. وكأنها تمنعه من السقوط.. وظلت تدندن باغنية حبيبة الي نفسيهما.. وسمعا صوت آذان المغرب.. يدعوهما الي الاستحمام في بحر الرحمن.. بعيدا.. بيعدا.. عن الأتربة.. والغبار.. وغمر نور القمر ظلام المقطم، وشعشعت الأنوار في أفق القاهرة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.