سعر الذهب اليوم وعيار 21 الآن ببداية التعاملات الصباحية السبت 4 مايو 2024    المالية: الانتهاء من إعداد وثيقة السياسات الضريبية المقترحة لمصر    إزالة فورية لحالتي تعد بالبناء المخالف في التل الكبير بالإسماعيلية    بلينكن: حماس عقبة بين سكان غزة ووقف إطلاق النار واجتياح رفح أضراره تتجاوز حدود المقبول    الحوثيون يعلنون بدء المرحلة الرابعة من التصعيد ضد إسرائيل    لاعبو فريق هولندي يتبرعون برواتبهم لإنقاذ النادي    تشكيل مانشستر سيتي المتوقع أمام وولفرهامبتون    نظراً لارتفاع الأمواج.. الأرصاد توجه تحذير للمواطنين    إصابة 15 شخصًا في حادث سيارة ربع نقل بالمنيا    بعدما راسل "ناسا"، جزائري يهدي عروسه نجمة في السماء يثير ضجة كبيرة (فيديو)    حدث ليلا.. خسارة إسرائيل وهدنة مرتقبة بغزة والعالم يندفع نحو «حرب عالمية ثالثة»    أسعار اللحوم والدواجن والخضروات والفواكه اليوم السبت 4 مايو    اليوم، تطبيق أسعار سيارات ميتسوبيشي الجديدة في مصر    تفاصيل التحقيقات مع 5 متهمين بواقعة قتل «طفل شبرا الخيمة»    الداخلية توجه رسالة للأجانب المقيمين في مصر.. ما هي؟    إسكان النواب: إخلاء سبيل المحبوس على ذمة مخالفة البناء حال تقديم طلب التصالح    المطرب هيثم نبيل يكشف كواليس فيلم عيسى    وفاة الإذاعي الكبير أحمد أبو السعود.. شارك في حرب أكتوبر    إغماء ريم أحمد فى عزاء والدتها بمسجد الحامدية الشاذلية    دراسة جديدة تحذر من تربية القطط.. تؤثر على الصحة العقلية    رسالة من مشرعين ديمقراطيين لبايدن: أدلة على انتهاك إسرائيل للقانون الأمريكي    صحيفة: ترامب وضع خطة لتسوية سلمية للنزاع في أوكرانيا    تشكيل الأهلي المتوقع لمواجهة الجونة    إسماعيل يوسف: «كولر يستفز كهربا علشان يعمل مشكلة»    لو بتحبي رجل من برج الدلو.. اعرفي أفضل طريقة للتعامل معه    الإسكندرية ترفع درجة الاستعداد القصوى لاستقبال أعياد القيامة وشم النسيم    المحكمة الجنائية الدولية تحذّر من تهديدات انتقامية ضدها    مالكة عقار واقعة «طفل شبرا الخيمة»: «المتهم استأجر الشقة لمدة عامين» (مستند)    جوميز يكتب نهاية شيكابالا رسميا، وإبراهيم سعيد: بداية الإصلاح والزمالك أفضل بدونه    ارتفاع جديد.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم السبت 4 مايو 2024 في المصانع والأسواق    37 قتيلا و74 مفقودا على الأقل جراء الفيضانات في جنوب البرازيل    دفنوه بجوار المنزل .. زوجان ينهيان حياة ابنهما في البحيرة    رشيد مشهراوي ل منى الشاذلي: جئت للإنسان الصح في البلد الصح    معرض أبو ظبي للكتاب.. جناح مصر يعرض مسيرة إبداع يوسف القعيد    مصطفى بكري عن اتحاد القبائل العربية: سيؤسس وفق قانون الجمعيات الأهلية    حسام موافي يوضح خطورة الإمساك وأسبابه.. وطريقة علاجه دون أدوية    هبة عبدالحفيظ تكتب: واقعة الدكتور حسام موافي.. هل "الجنيه غلب الكارنيه"؟    برش خرطوش..إصابة 4 من أبناء العمومة بمشاجرة بسوهاج    سبت النور.. طقوس الاحتفال بآخر أيام أسبوع الآلام    هييجي امتي بقى.. موعد إجازة عيد شم النسيم 2024    حازم خميس يكشف مصير مباراة الأهلي والترجي بعد إيقاف تونس بسبب المنشطات    عرض غريب يظهر لأول مرة.. عامل أمريكي يصاب بفيروس أنفلونزا الطيور من بقرة    استقرار سعر السكر والأرز والسلع الأساسية بالأسواق في بداية الأسبوع السبت 4 مايو 2024    أحمد ياسر يكتب: التاريخ السري لحرب المعلومات المُضللة    «البيطريين» تُطلق قناة جديدة لاطلاع أعضاء النقابة على كافة المستجدات    سلوي طالبة فنون جميلة ببني سويف : أتمني تزيين شوارع وميادين بلدنا    250 مليون دولار .. انشاء أول مصنع لكمبوريسر التكييف في بني سويف    برلماني: تدشين اتحاد القبائل رسالة للجميع بإصطفاف المصريين خلف القيادة السياسية    توفيق عكاشة: الجلاد وعيسى أصدقائي.. وهذا رأيي في أحمد موسى    دعاء الفجر مكتوب مستجاب.. 9 أدعية تزيل الهموم وتجلب الخير    دعاء الستر وراحة البال .. اقرأ هذه الأدعية والسور    عضو «تعليم النواب»: ملف التعليم المفتوح مهم ويتم مناقشته حاليا بمجلس النواب    دينا عمرو: فوز الأهلي بكأس السلة دافع قوي للتتويج بدوري السوبر    أول تعليق من الخطيب على تتويج الأهلي بكأس السلة للسيدات    طبيب يكشف سبب الشعور بالرغبة في النوم أثناء العمل.. عادة خاطئة لا تفعلها    أخبار التوك شو| مصر تستقبل وفدًا من حركة حماس لبحث موقف تطورات الهدنة بغزة.. بكري يرد على منتقدي صورة حسام موافي .. عمر كمال بفجر مفاجأة    «يباع أمام المساجد».. أحمد كريمة يهاجم العلاج ببول الإبل: حالة واحدة فقط بعهد الرسول (فيديو)    المفتي: تهنئة شركاء الوطن في أعيادهم ومناسباتهم من قبيل السلام والمحبة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كنس الأحلام اليابسة
أروي صالح ومأساة جيل غنّي نصف أغنية وامرأة تقف تحت مشنقتها
نشر في أخبار الأدب يوم 08 - 12 - 2018


مظاهرات يناير 1977
مثلت الكاتبة أروي صالح (ولدت في عام 1951 وتوفيت في 7 يونيو 1997) حالة فريدة في الثقافة المصرية، فهي كاتبة وروائية وشاعرة. كانت تعد من أعلام الحركة الطلابيّة في أوائل السبعينيات في جامعات مصر. سعت الحركة الطلابية الي تغيير اجتماعي - سياسي شامل في النظام المصري كنوع من »الثورة علي الثورة»‬، بوحي من أفكار »‬يسارية جديدة» كانت منتشرة وقتذاك بين الجماعات الطلابية في غرب أوروبا وشرقها. فقامت مظاهرات وإضرابات عامي 72-73 تطالب بدخول مصر الحرب؛ لاسترجاع مناطقها السيادية، والتصدي لمخططات إسرائيل الإمبريالية، وأمريكا بالتبعية، في المنطقة. في الشهور الأولي من عام 1972 اشتعلت الإضرابات والاحتجاجات الطلابية التي خرجت من الحرم الجامعي إلي الشوارع؛ مطالبين القيادة العُليا بإعلان الحرب علي الفور. ولمواجهة هذه الاضطرابات اعتمد السادات – كما تقول سماح سليم في مقدمتها للترجمة الإنجليزية لكتاب أروي صالح - الذي لم يكن قد أسس بعد قاعدة لشرعيته كخليفة ناصر، علي استراتيجية الإرجاء: »‬حالة اللاحرب واللاسلم». تعثر النظام وماطل في مواجهة التحدي الشعبي لشرعيته بينما نفّذ إجراءات قمعية شرسة علي الجامعات. فقبض علي مئات النشطاء من الطلاب، وتعرَّض كثيرون لمحاكم، وصدرت عليهم أحكام لتهم ملفقة، كما روي الكثيرون ممن تم القبض عليهم في تلك الفترة، حكايات عما حدث .(يمكن مراجعة رواية رضوي عاشور: فرج، والحب في المنفي لبهاء طاهر، فيهما إجابات عن هذه الفترة والاعتقالات العشوائية التي طالت الجميع).
كانت مظاهرات ميدان التحرير ذروة الحركة الطلابية الوطنية – كما يقول شريف يونس – حيث ترسخت »‬قناعة الحركة الطلابية واقعيًّا وعمليًّا بأنها تمثّل الشعب حقًّا وصدقًا .. باعتراف جميع الأطراف التي تمتلك الحق في التمثيل الكلامي والقدرة عليه ...». ومع قوة التمثيل التي حازتها إلا أنّ الحقيقة أن الحركة افتقدت الوضع المؤسسي. فكما يقول يونس لأن »‬الحركة الطلابية» ليست حزبًا سياسيًّا، وليس لها الإطار التنظيمي الذي يجسد الصّلة المتجدّدة بالشعب الذي تمثّله، وبالتالي كان التمثيل الذي تمارسه الحركة بالفعل هو تمثيل مجرد، تمثيل علي المستوي الإيديولوجي».
في هذا السياق الفكري المصطخب بالأفكار الثورية، نشأت أروي صالح. فكما تقول سماح سليم »‬بلغت أول وعيها السياسي في بداية السبعينيات، أعقاب حرب 1967، ونهاية عهد ناصر وبداية نظام أنور السادات الانتقالي». أما عن الانتماءات الإيديولوجية التي شكّلت صالح فقد »‬انتمت إلي اللحظة السياسية التحوليّة التي أطلقتها الحركة الطلابية الراديكاليّة في ذلك العقد.
تخرجت في كلية الآداب جامعة القاهرة، محمّلة بالوهج الثوري الذي عاشته أثناء الاحتجاجات، وكانت عضوة في اللجنة المركزية بحزب العمال الشيوعي المصري الماركسي اللينيني، أكبر جماعة ماركسيّة في ذلك العقد. قدمت أروي كتابات في عدد من الصحف والمجلات الشهيرة، وقد ضاقت بالحياة فانتحرت بإلقاء نفسها في صيف عام 1997، من الدور العاشر في عمارة سكنية بحي الدقي في القاهرة. في رواية يوسف رخا التماسيح (دار الساقي 2013)، ثمة صورة متخيّلة لما حدث مع أروي وإن كان يعطي لها اسمًّا استعاريًّا رضوي عادل حيث يقول: »‬في 20/06/ 1997، بالتحديد ذهبت المناضلة رضوي عادل تزور قريبة لها في أحد أحياء القاهرة؛ لا أذكر أين. لا يوجد سجل موثق لحكاية أشهر أعلام الحركة الطلابية أو جيل السبعينيات من النساء – أقصد المناضلة، وقد نسميها المثقفة أو الكاتبة أو المفكرة الكبيرة: كلها مترادفات – بل إن هناك خلافًا حول ما إذا كانت قريبتها المعنية تسكن في الدور الحادي عشر أو الثاني عشر. لكن ما فهمتُه مع مرور السنين من كلامي العابر مع أصدقاء مقربين إليها من دائرة المثقفين التي تكوّنت فيها جماعتنا، هو أن رضوي عادل لاعبت أولاد قريبتها قليلاً ثم استسمحتهم في قيلولة داخل غرفة النوم ذات الشرفة. لم يكن في البيت سوي الأولاد وقفزت من فوق السور. كانت رضوي عادل في السّادسة والأربعين من عمرها. وحين أحاول أن أفصّل قفزتها التاريخية في رأسي، أتخيّلها جالسة علي الحافة الخشبية – لا أعرف لماذا أتخيّل حافة السور خشبيةً – تتدلي رجلاها من ذلك الارتفاع المدوّخ وهي تواجه الشارع أو السماء.. بينما الأولاد في الصالة لا يخطر لهم أن »‬طنط رضوي» قد تكون بصدد قتل نفسها في هذه اللحظة، أتخيّلها ترخي ذراعيها علي جانبيها ومثل لاعب جمباز علي المتوازيين تقبض علي الحافة؛ بالتدريح تبدأ تحمّل ثقلها علي يديها وتزحزح مؤخّرتها إلي أسفل فوق الخشب، شيئًا فشيئًا. وقبل أن تصبح مؤخرتها في الهواء فتشعر بوزنها كله في ذراعيها، ترفع يديها وتفرد الكفين أمامها كمن يحاول إيقاف شيء آت في وجهه وتغمض .. لا خلاف أنها ماتت فور ارتطامها بالأسفلت» (التماسيح : ص، 8، 9).
انتمت أروي لجيل السبعينيات أو ما عرف بجيل الحركة الطلابية. أصدر أصدقاؤها بعد رحيلها كتابًا يجمع ما كتبته، بعنوان »‬سرطان الروح» 1998، وهو عنوان قصيدة طويلة يضمها الكتاب. ويحوي الكتاب في داخله -أيضًا - قصتين قصيرتين (بورتريهات، والبتلز)، وكذلك مقالات قصيرة تناولت فيها تجربة صنع الله إبراهيم الكتابية، تحت عنوان »‬صنع الله إبراهيم شاهد لكل العصور». وثمة فصل أخير عن السيرة الذاتية بعنوان »‬تمشية». يحمل الكثير من الألم الذاتي والشخصي، تحكي فيه وقائع من حياتها وتعرُّضها للانتحار، أكثر من مرة وفي واحدة منها حاولت الانتحار قافزة في النيل بحذائها وحقيبتها، ولكن أنقذها عسكري من الأمن وصحبها لقسم الشرطة مُعنِّفًا إيَّاها! ولها أيضًا ترجمة لكتاب توني كليف المعنون ب »‬في نقد الحركة النسوانية» عام 1991 وقد صدر عن مطبعة الأهالي، بتقديم من فريدة النقاش. لكن يأتي كتابها الأهم الذي ترك أثرًا كبيرًا وأثار ضجة عند صدوره، ألا وهو كتاب »‬المبتسرون: دفاتر واحدة من جيل الحركة الطلابية». والكتاب أشبه بشهادة تعرية لليسار المصري وقد صدرت طبعته الأولي عام 1995 عن دار نشر النهر. وهو الكتاب الذي قامت الدكتورة سماح سليم الأستاذة بجامعة برنار بترجمته مؤخرًا إلي اللغة الإنجليزية وقد صدر عن دار نشر Seagull Books. بعنوان:
The stillborn: Notebooks of a Woman from the Student-Movement Generation in Egypt.
رصاص علي اليسار
توالت طبعات الكتاب الذي صدرت طبعته الأولي عام 1995، فصدرت الطبعة الثانية له عام 1997 وقد أضافت له أروي مقدمة جديدة. ثم صدرت الطبعة الثالثة عام 2015 ضمن منشورات مكتبة الأسرة ذات الطبعة الشعبية. عندما نُشر الكتاب لأوّل مرة أثار ضجة كبيرة، بل احتدمت حوله المناقشات بسبب جرأة ما أعلنته الكاتبة، فقد كان بمثابة الرَّصَاصة التي أَطلقتها علي جيل السبعينيات من الماركسيين.‬‬ حيث وصفتْ جيلها بأنه الجيل الذي »‬قبض ثمن وطنيته قبل أن يدفع ثمنها» كما قال لها بمرارة شيوعي قديم ممن شهدوا ما فعله عبد الناصر عام 1959.‬‬‬‬‬‬‬ وإن كانت الرّصاصة القاتلة أطلقتها أولاً علي نفسها بجلدها لذاتها.‬‬‬‬‬ ولا أدل علي قسوة ما جاء فيه، أن حازم كامل طالب طب القاهرة، بطل رواية فرج لرضوي عاشور، وصف الكتاب هكذا: »‬بصقت أروي في وجوهنا جميعًا» (فرج، ص 95).‬‬
واحدة من المسائل التي تواجه قارئ هذا الكتاب، هي مسألة تصنيفه لأي جنس أدبي يُنتسب! وهذه الصعوبة ألمحت إليها المؤلفة في المقدمة حيث قالت بإنه »‬لا ينتمي إلي أي جنس أدبي». وقد توقف الكثيرون حول هذه المسألة. فتعرضت لها سماح سليم في مقدمتها للترجمة الإنجليزية للكتاب، وقالت إنه »‬ليس مذكرات». وهو ليس كتاب تاريخ، بالرغم من أن كل جملة، وكل استدعاء للتحليل والنقد، مشبّع بالمعرفة التاريخية، وأخيرًا، فهو ليس مقالًا في الاقتصاد أو علم الاجتماع السياسيين، مع أن الخيوط الرئيسة في الكتاب تتضمن تحليلًا محكمًا، من ناحية الطبقة والجندر، لفشل كل من مشروع التحرير الوطني والمشروع الماركسي في مصر. هو لا شيء من ذلك، وكل ذلك في نفس الوقت. وقد استخدم ناقدو صالح بالطبع شكل الكتاب المستعصي علي التصنيف، متعدد المعاني هذا، ضدها. لكن تمكن قراءة هذا النموذج الشكلي المعقد المتغيّر لهذا الكتاب، كتجسيد غني لمشروع جندري معرفي، تصير فيه السياسة الحيوية للتجربة، والمعرفة، والشعور، حجر أساس للمساءلة الذاتيّة والتحليل الاجتماعي والنقد السياسي. وحيال هذا اللغز الذي واجهته في تصنيف الكتاب، تصف الكتاب بأكمله بأنه »‬أشبه ببيت أشباح، تتصدي فيه صالح لمسألة الفشل: فشل مشروع التحرير الوطني، وفشل الشيوعية وحركة جيلها السياسية، وفشلها الشخصي كذات في تاريخ طوباوي».
يري وضاح شرارة ردًّا علي ما كتبه يوسي أميتاي عن الكتاب حيث وصفه الأخير بقوله إن »‬الكتاب يتميز حقًا، من ناحية الشكل، بعدم وجود نظام أو أسلوب محدّد. فالعبارات طويلة ومعقدة جدًا وتحتوي علي كميات كبيرة من المقولات المبهمة والجمل الاعتراضية. وكثيرًا ما تقفز فجأة من موضوع الي آخر كما أن هناك أحيانًا عدم اتصال نصي ومنطقي». فيفنِّد هذا وضاح قائلاً بإنّ ما تكتبه أروي أشبه ب »‬كتابة محمومة تتقلب بين وجوه الصور والمعاني... وأحرف الاعتلال»، ويُبرِّرُ هذا إلي كون أروي صالح »‬لا ترطن رطانة التلامذة، ومردّدي المحفوظات عن ظهر قلب، بما تستعيده من هؤلاء وغيرهم، حتي حين تُحاذي الاستعادةُ عمل الناسخين والوراقين. فهي لا تكتبُ إلا منتشيةً بما تكتب، علي ما تلمح، فتجيء جملها محمومة يضج في جنباتها الوصف والرأي واللوم والمقارنة والخيبة والرجاء، ولا تستقر علي قرار، أو تكاد، حتي يدعوها داعٍ آخر الي الإنزعاج، علي قول المتصوّفة، وترك مستقر الكلام إلي وجه طارئ ومختلف»(جريدة الحياة، 23 أكتوبر 2000).
علي الرغم من أن مسألة التصنيف ليست بمسألة مهمّة ولا تشغل بال المبدع أثناء عملية الكتابة؛ حيث يصعب الزعم بأن »‬ثمة قوانين في الفن مُحدّدة سلفًا، وسابقة لعملية الكتابة، وإلّا تحوّل الفن إلي محض حذق تقني يُقرِّب الفن من الصنعة» كما يقول محمد بدوي. بل يمكن القول مع رولان بارت إن »‬معني النتاج الكتابي (أو النص) لا يمكن أن يتحقّق بمفرده، فالكاتب لا ينتج إطلاقًا إلا احتمالات معان، وأشكال إن شئنا، والعالم هو الذي يعطيها مضموناتها». علي كل حال، في تصوري أنه من الممكن إدراج الكتاب تحت »‬أدب الاعتراف». فالاعترافات تقترب بدرجة كبيرة ممّا يدعوه جيرار جينيت بالبوح Autodiegetic أي سرد الذات أو بوحها لذاتها أو عنها، والذي يتوحد فيه الرّاوي مع الشخصية الأساسية من حيث الصّوت السردي، فالسارد / الكاتب / الشخصية هي كلها لنفس الشخص. قدمت الكاتبة اعترافات بمثابة الصّدمة، عن نفسها وعن جيلها وعن فقدان البوصلة، والارتماء في أحضان النظام الذي خرجوا عليه (السادات). وهذه تمثّل شهادة حيّة من شاهد عيان عن فترة كانت فيها المشاعر الوطنية في حالة من الغليان والاضطراب، بسبب حالة تردد السادات عن الحرب، أو ما سُميت بحالة (اللاحرب واللاسلم). ما يؤكد زعمنا بانتساب الكتاب إلي أدب الاعترافات، هذا الجلد العنيف للذات، وقد عاتبها البعض عليه قائلاً : »‬هل تكتبين لمجرد جلد الذات؟» ومن ثمّ كانت النصيحة : »‬لماذا لا تكتبين رواية بدلاً من ذلك؟». كل هذه المراوغات كانت جزءًا من محاولات الشفاء مما حلّ بها. فوفقًا لمدارس التحليل النفسي الحديثة، عُدّ الاعتراف »‬بمثابة ضربًا من الاستشفاء، كعلاج الأمراض بالطب في العصر الحديث». وهو نفس ما ذهب إليه علي أدهم في مقالة قديمة بعنوان »‬الاعتراف والمعترفون» حيث قال إن »‬طريقة التحليل النفسي الحديث في معالجة الأمراض العصبية، أظهرت قيمة الاعتراف وأوضحت أهميته، وساعدت الإنسان علي أن يعرف نفسه، وأن يلقي ببصره في ظلماتها الدامسة وسراديبها الخفيّة، بل يسّرت مناجاة الإنسان لنفسه، وتحليله لعواطفه الخاصة» (مجلة الهلال، مايو 1943، ص 241). فالكاتبة اعترفت بأنها انتهت منه في عام 1990، وهو ما يعني أن فترة زمنية تصل إلي خمس سنوات بقي فيها الكتاب في الأدراج، في انتظار الانتهاء من حالة التخبُّط والتردّد التي صارت عليها أروي نفسها. فلم يتوقف نهج النقد الذاتي الذي مارسته أروي صالح علي نفسها، بل يمتدُّ إلي »‬التصوّر الذاتي الجماعي لأبناء جيلها».
الكتاب يحتوي علي مقدمتيْن إلي جانب مُلحقيْن بنهاية الكتاب، وصفتهما بأنهما »‬وثائق شخصية في الدفاتر» وهما في الأصل رسالتان شخصيتان كتبتهما لأحد أصدقائها. والرسالتان موجودتان بترتيب زمني معكوس فأوّل رسالة كُتبت في القاهرة عام 1988، أما الرِّسالة التي تأتي في الترتيب الثاني، فقد بُعثت من إشبيلية بإسبانيا عام 1985. ثمّ وَضعتْ خاتمة قصيرة في نهاية الكتاب. جاءت المقدمة الثانية، وقد أرفقتها للطبعة الجديدة قبل رحيلها، بعدما اتضح لأروي أن المشكلات السياسية والاجتماعية التي كانت محور نضال أبناء جيلها لم تَعُد تُهمّ أبناء الأجيال الشابة، وهذا الرأي جاء استنادًا علي لقاء كانت أجرته بغرض عرض مسودة الكتاب لمراجعة مضمونه، مع مجموعة شباب من أبناء جيل الثمانينيات والتسعينيات. وكما تقول »‬قد تطرّق هؤلاء الشباب إلي هذه المشكلات بفتور وعدم اكتراث»، أما النتيجة المهمّة التي خرجت منها من صدمة اللقاء بأجيال تالية، فتتمثّل في إدراكها الذي اتّسع »‬بأن وعيها ينتمي للماضي الذي تتعرض له بالنقد».
يتوزُّع الكتاب علي الرغم من صغر حجمه (118 صفحة من القطع المتوسط) علي ثلاثة فصول؛ الأوّل بعنوان »‬المُثقف مُتشائمًا»، والثاني عن »‬مصائر جيل الحركة الطلابيَّة» والثالث »‬المثقف عاشقًا ».
تتطرُّق الكاتبة في مقدمة الكتاب الأصليِّة لتجربة جيل الحركة الطُّلابيّة، ودوافع تَشكُّل هذه الحركة بين طُلاب الجامعات المصريّة في عامي 1972 و1973‬. وتقرّ بأنّ الكتاب عودة لزمن الهزيمة، إلا أنّها تؤكّد أنّه لا يستحضر هذا الزمن كله، ولا يتناول فئات الشّعب كلها.‬ فهو بمعني أدق عن الحلم المُجهض، وعن الظروف التي رافقت اندلاع الحركة الطلابيّة ثمّ الانقطاع الفجائي في تيارها، والتجربة التي مرّ بها أولئك القادة، وعن علاقة هذا الجيل بالجيل السّابق له من جيل الستينيات من المثقفين واليساريين المصريين والملامح التي اكتسبوها وميّزتهم كجيل مِن قلب المشهد التاريخي.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
لا أودُّ الوقوف كثيرًا عند محتوي الكتاب، خاصة وأن الخطوط العريضة للكتاب، والتي تمثّل جوهر التأليف سأتعرض لها بإسهاب عند الحديث عن أروي وتعريتها لذاتها وجيلها. لكن أودُّ فقط الربط بين حالة الكتاب بما يمثّله من رؤية صادقة عن سقوط الأحلام، كديمومة ثقافيّة ما زالت صالحة لزماننا، بما فيها من جلد للذات بعد انفراط عقد الأحلام، والتي صارت كوابيس بعد السقوط المدوي للربيع العربي في المنطقة بأثرها. وصارت نبرة الحنين إلي الزمن الماضي هي السائدة من العامة، وبنبرة خافتة من قبل طبقة المثقفين المشوّهين (بتعبير أروي نفسه) التي وجهت لها أروي رصاصاتها القاتلة.
نساء قرابين البرجوازية
تحت عنوان »‬المثقف متشائمًا»، تُقدّم أروي صالح تصورات لهذا المُثقف المشوّه الذي سبّب لها صَدمة حقيقية، فهذا المثقف بادئ ذي بدء يرفض أخلاق كلّ الطبقات في مجتمع يدينه، وتُقارن بين فشل هذا الجيل في تحقيق أحلامه في مقابل ما حقّقه الجيل الذي سبقه أي جيل الستينيات، ومع الفوارق بينهما إلا أنّ ثمّة مُشتركًا يجمع بينهما رغم اختلاف السياق الثقافي والتاريخي بينهما يتمثّل في الهزيمة؛ ومع أنّها تكشف عن أن الحركة الطلابيّة بدأت مع نهاية عهد عبدالناصر وصارت بطلة هذه المرحلة، لكن المؤسف أنّ الحركة صارت احتجاجًا هُلاميًا لأنّها تواجه واقعًا غير واضح المعالم؛ فلا أعداؤه واضحون ولا أنصاره أيضًا. حتي أن شريف يونس يري أن »‬مظاهرات يناير 1977 كانت لحن ختامها وعلامة فشلها وكشف حدود قدراتها التمثيلية»، بعد أن أتيح للحركة الطلابيّة »‬أن تري ذلك الشعب الواقعي - الذي يختلف عن شعبها الإيديولوجي - وهو يهدر كالبحر وينتصر وينسحب في مشهد مرعب، بدت بجانبه الحركة الطلابية، بكل ادعاءاتها العريضة ، قزما لا يكاد يُري بالعين المجردة».حالة الهلامية كانت سببًا رئيسًا في أن تفقد الحركة الطّلابيّة وزعماؤها الرّشد، بل وجد زعماؤها أنفسهم في العراء ليذوقوا نفس المهانة التي طالما تجرّعها جيل الستينات حيث أصبحوا زعماء بلا جمهور وعرفوا معني الترهُّل واليأس. الصّدمة الحقيقية فيما قدمت أروي يتمثل في تشكيكها في حرب 1973.
أخطر مراحل التفسّخ - كما اعتبرتها أروي - كانت خاصّة بالأسرة، فبعد أن كان ثمّة أرضية مشتركة ساعدت البعض من الحركة الطلابيّة في السبعينيات علي أن تكون أكثر وفاء مع تحقيق مشترك آخر بالأسرة يدعمه الحبّ والتمرد، إلا أن سطوة الواقع جعلت من هذا الحلم يتغيّر وَيُفسح للخوف المشترك مكانًا من عدم الأمان الاقتصادي، ومع تآكل الأرضية المشتركة التي جمعت الأحباء ذات يوم، قويت مؤسسة الأسرة بعد أن تحوّلت إلي العلاقة الاجتماعية السائدة، أي كمؤسَّسة يحتمي بها الزوجان، لكن حالة الملل والصَّراعات الزوجيّة بدأت تأخذ لها متنفسًا عبر الطريق القديم المطروق وهو الخيانة الزوجية، وبعد تفسُّخ العلاقات المصلحية التي تجمع الاثنين، تحوّلت العلاقة بينهما إلي اغتراب، وبهذا اكتملت الهزيمة لهذا الجيل.
بيت الأشباح
يبدو الكتاب في صورته الكلية بعيدًا عن حالة النقد والجلد، وكأنه يقدّم»‬خبرات ومسارات جيل له ملامح متميزة عمّا سبقه من أجيالٍ نشطت في الحياة السياسية والفكرية» فالكتاب ليس مذكرات، بالرغم من حضور التجربة والذكري في قلب الكتاب ومشروعه النقدي وأيضًا هو ليس كتابًا في التاريخ فبقدر ما يأخذه من التاريخ من مادة إلاّ أن موضوعه ليس التاريخ والسياسة وإن تعرض لهما، فالكتاب بمثابة »‬رؤية شخصيّة للأحداث التي عاشها جيل تنتمي إليه الكاتبة».‬ فمنذ البداية والكاتبة تعي هذه الإشكالية لذا تقول »‬لقد كتبته دون قرار مُسبق بشأن شكله، كنتُ معنية بنقل تجربة ونقلتها كما أحسستُ بها دون أن تحكمني أيّ اعتبارات أدبيّة».‬ ‬‬
تأتي أهمية المقدمة الطويلة التي صدّرت بها سماح سليم ترجمتها، في كونها دفاعًا عن الأفكار المتمردة التي طرحتها أروي صالح في هذه الكتاب، بل وكانت أحد أسباب الهجوم التي زادت حدته عليها فآل بنهايتها. لا تكتفي المترجمة بما أوردته من معلومات عن أروي وأزمتها التي أدت بها إلي فقدان الثقة في كل ما حولها بما في ذلك ذاتها. وإنما تقدم تاريخًا وتقييمًا للحركة الطلابية، منذ أن ولدت في السبعينيات في هذه اللحظة الانتقالية، حركة جيل بلغ أول الوعي في 67، لم يكن له تاريخ من المواءمة مع النظام، وكانت قضيته الملّحة تحرير سيناء والنضال القومي ضد الإمبريالية الأمريكية. ومع غياب أروي منذ عشرين عامًا إلا أنها تري أروي حاضرة بنقدها اللاسع الأشبه بالسياط للمثقفين المصريين فعلي حد قولها »‬ظلت حاضرة باستمرار في باطن الخيال السياسي، والإدانات المضادة، والجدليات والنقاشات، علي مدار العشرين عامًا الوسيطة».
الطاهرة قرة العين
في مقالة قديمة نُشرت عام 2010 بعنوان »‬الطاهرة قرة العين أروي صالح» للشاعر عبد المنعم رمضان قال فيها: »‬كانت الأقوال المتناثرة عن أروي تتضارب، وترسم لها أكثر من صورة، صورة نضالها، صورة ثقافتها، صورة أزواجها، ثم صورة كبيرة لخصوماتها وانتحاراتها الفاشلة، كانت قمرًا علي قمر عند البعض، وطينا تحت طين عند آخرين، طهارة كاملة عند البعض، ودنسًا كاملاً عند آخرين». عانت أروي من الاكتئاب، والذي اضطرت كنوع من العلاج منه الذهاب إلي إشبيلية للنقاهة، وفي رسالتها التي ضمتها إلي الكتاب في الطبعة الثانية لشخص لم تُعلن عن اسمه، أشارت إلي رفرفة الموت حولها، ومن ثمّ ما حَدثَ كان متوقعًا، بعدما أطلقت رصاصتها علي الحركة الماركسية وقبلها علي نفسها. وقد فسر الكثيرون سبب انتحارها، بنوع من الاكتئاب الذي عانتْ منه الكاتبة. وإن كان شعبان يوسف رأي في كتابه »‬لماذا تموت الكاتبات كمدًا؟!» أن السبب يعود إلي »‬رومانسيتها المفرطة‮‬، تلك الرومانسية التي لم تحتمل تناقضات الواقع»، وهو ما يتفق معه فيه عبد المنعم رمضان، فما أن أعطته مخطوطة كتاب انتهت منه، حتي شعر كأنه يشاهد »‬امرأة تقف تحت مشنقتها» فكما يصف »‬كان كتابها يتوق أحيانا إلي ما هو غير موجود، يتوق أحيانا إلي وجود مستحيل ونظافة مستحيلة، فيما يكشف عن ذلك الحب السيئ، الشديد السوء، الذي يفقد المرء معه شهية الحياة».(الطاهرة قرة العين أروي صالح، روز اليوسف، 21/10/ 2010).‬‬‬‬‬‬
ما كان يشغل أروي كما تقول رضوي عاشور في روايتها فرج علي لسان بطلتها ندي عبد القادر هو محاولة البحث عن »‬صورتنا الحقيقية»، وعن أسباب »‬الحلم المجهض». فتساؤلات أروي كانت عاصفة، وربما كانت أحد الأسباب التي أودت بها إلي الانتحار: فتمرد الجموع التي خرجت في مهمتهم النبيلة مستجيبين »‬لنداء التاريخ» راغبين في »‬عدل ميزانه» (صورة عمر بن الخطاب حاضرة هنا) رافعين لواء »‬حلم الخلاص الجماعي»، موقنين أنهم جماعة تُشارك في المسيرة الكبري التي »‬تمشي قدمًا عبر العصور» »‬باتجاه الأخوة والمساواة والسعادة» فتتساءل في أسي: فما الذي حدث لينتهي بهم الأمر إلي مجرد جيل من »‬المُبْتسرين» : يعيشون العزلة واليأس والعجز والترهل أو العدمية والتحرّر من كل أخلاق؟ ما الذي حدث بين لحظة الخروج العفي لتحقيق حلم نبيل ولحظة الخروج أخيرًا من الحلم إلي الحياة حيث »‬كان الحطام بالجملة» فأصبحوا »‬مثل مومياوات أخرجت للشمس فجأة، فتهاوت ترابًا» (فرج، ص 91، 92) .
في الحقيقة، كانت ثمة أسباب تجعل من أروي تفقد الثقة فيمن حولها مِن قادة الحركة. فقد رأت - مع الأسف - أن عبد الناصر دجّن المميزين منهم بسياج لم يستطيعوا الفكاك منه، »‬فأرغمهم علي حديث الرمز والإشارة ». أما أنصاف الموهوبين فقد جلسوا علي المقاهي متفرغين يمضغون مرارة الهزيمة ويشبعون الموهوبين لومًا، أما غير الموهوبين »‬فجلسوا علي المقاهي يلقون اللوم علي الآخرين إلي أنْ منّ الله عليهم بالحركة الطلابيّة وعندما استقبلوها كانوا مع الأسف قد قطعوا شوطًا كبيرًا من العمر بلا نضال، وإنما حياة متناقضة بين أفكار ماركسيّة صاغها مُؤسِّس في زمن مدّ ثوري عالمي يملأ لغتها قوة وتفاؤلًا، وبين واقع هزيمة لم يتح لأصحابها حتي شرف النزال». كما أن الجيل السابق من الماركسيين سقطوا فريسة النقلة الضارية بين زمنين كان الدفاع عن أيهما مرًا. أما في حالة جيل السبعينيات فالأمر مختلف فقد كان الظرف التاريخي أقوي من طاقتهم كذلك، فالنظام الذي حقّق الانتصار علي مستوي الخارج حقّق الهزيمة علي مستوي الداخل. الحركة التي بدأت مع عهد نهاية عبد الناصر انتهت مع الأسف حتي صارت احتجاجًا هُلاميًا لأنها تواجه واقعًا غير واضح المعالم؛ فلا أعداء واضحون ولا أنصاره، كان الجميع أنصارًا حتي النظام نفسه لم يعترض علي مواقف الحركة الطلابية، فقد كانت تريد حربًا تسترد الكرامة الجريحة وفقط. حالة الهلامية كانت سببًا رئيسًا في أن تفقد الحركة الطلابية وزعماؤها الرشد. تبخرت ووجد زعماؤها أنفسهم في العراء ليذوقوا نفس المهانة التي طالما تجرعها جيل الستينيات حيث أصبحوا هم أيضا زعماء بلا جمهور، وعرفوا معني الترهّل واليأس.
أطلقت أروي رصاصتها ورحلت، اتفق معها مَن اتفق واختلف معها الكثيرون من أصدقاء النضال، واتهمهوها اتهامات شتي، لكن ما قالته أروي كان تعرية لهؤلاء المناضلين الزائفين، ليس فقط علي مستوي النضال الوطني، وإنما أيضًا علي مستوي علاقة المثقف بالمرأة. في أحد الفصول المهمة بالكتاب تكشف علاقة المثقف بالنساء، وأسمته »‬المثقف عاشقًا». العنوان مجازي وخادع يتناسب مع الحيل التي ينصبها المثقف للإيقاع بضحيته، كان الحديث شخصيًا ويحمل أسماء شخصيات ما زال بعضها يعيش والبعض الآخر رحل، لكن نصحها الكثيرون بحذفها. وهو ما استجابت له في الأخير. المهمّ أن الحديث كان مقتصرًا علي الشيوعيين الذين صبّوا العسل في آذان المناضلات، باسم وَهم الحبِّ وشعارات التحرّر والتمرد، وكلّ هذا مِن أجل غرضٍ وحيدٍ، هو ممارسة الدعارة الفكرية إلي جانب الدعارة الجسدية؛ ليتمّ النضال الحقيقي علي الأَسِرَّة. تُجمل أروي هدمها للمعبد علي رؤوس الماركسيين بقولها »‬إن المثقف في علاقته بالمرأة يسلك كبرجوازي كبير، أي كداعر، ويشعر ويفكِّر نحوها كبرجوازي صغير، أي كمحافظ مفرط في المحافظة». وفي إدراكه لهذه الحقيقة يسقط الوجه الرومانتيكي كوهم من أوهام الشّباب، ولا يبقي للعلاقة بين الرجل والمرأة بعد أن تتبخر الرومانتيكية سوي وجهين الحسابات من جهة والرذيلة من جهة أخري.
هذه الرؤية المفرطة في الإدانة، جاءت بناءً علي تجربة أروي الشخصية، حيث سقطت في شباك الكلمات المعسولة وتزوجت من شاب يصغرها، أثناء حفل الزفاف كما روي مَن حضر الحفل الذي اقتصر علي رفقاء النضال، أنه كان يهرب عند التقاط الصور، وبالفعل لم يستمر الزواج كثيرًا. فقد كانت أروي بهذا الزواج كما يقول عبد المنعم رمضان ك »‬الهاربة من شظايا الأحلام المكسورة لجيلها، إلي أحلام جيل جديد ظنت أنه يتمتع بالبراءة، لابد أنها فوجئت بالروح العملية لجيلها الجديد، وبأن قسوة هذه الروح تفوق قسوة الأحلام المكسورة». فهؤلاء اليساريون استقبلوا تجاربهم مع المرحلة في إطار حلم الصعود الطبقي بنفسية الوسط الثقافي الذي صنعهم لا بمبادئهم، وقد حَصَرَوا تجاربهم في إطاريْن إما زواج تقليدي أو تجارب في الانحلال. ما روته أروي في الحقيقة، قد يكون صالحًا لزماننا الآن بشكل أو بآخر. فقط، تأملوا مسيرة المناضلين وحاملي شعارات تروتسكي وماركس والرفيق لينين، أين انتهوا؟ بل أين الواقفون ضد التطبيع؟ مع الأسف انتهي الجميع – إلا من رحم ربي - في أحضان »‬دفء الجماعة» / السلطة، صاروا يدافعون عن أخطائها أكثر من أبنائها الشرعيين.
رحل الكثير من أبناء وقادة اليسار، لكن قبل رحيلهم قدموا سيمفونيات غزل، ومعلقات مدح ونفاق من أجل أن يحظوا ب »‬دفء الجماعة» بتعبير هيكل. وهو ما قابله جدل كبير عند وفاتهم، صيغ في تساؤلات طرحت: هل نكتفي في المرثيات بصفات المناضل الثوري فقط؟ أم نُحاسب المتحوِّل علي ما فعله في المناضل؟ وهو ما انتهي إلي تعالي صيحات اكتست بإيديولوجيا دينيّة مصطنعة تدعونا بألا »‬نحاسب العبد حساب الرّب» أو أن »‬للميت حرمته» وهو »‬بين يدي غفور رحيم» الآن، وغيرها من دعوات رفضت تقييم مسيرة النضال أو ثبات الأفكار أو المبادئ التي كرّس حياته للدفاع عنها وتلقينها لعقول الأنصار والشباب والطامحين والمشبعين بأيقونات الرفض، والتدجين! ثم فجأة تبخرت وتسربت من أجل ماذا؟ حفنة مصالح، أو مكاسب! فالزمن غير الزمن كما برّر الكثيرون! وهو ما يضع علامات استفهام كبيرة حول هذه الفجوات (أو الهفوات) في التاريخ النضالي بصفة عامة؟! .
في عبارة مررتها أروي صالح في كتابها لم يلتفت إليها أحد في حينها هكذا قالت: »‬سينتهي الحال بجموع الناصريين واليساريين علي حجر إسرائيل». لا أريد أن أقول إن هذه كانت في حينها مبالغة مفرطة من أروي، لكن ما هو ماثل الآن قد يبدو صحيحًا ولو نسبيًّا، ومع الأسف يحدث بالتدريج، وإن كان لم يقف عند حدود فصيل معين أو كيان بعينه ! لا أعرف ماذا كان ردّ فعل أروي لو قُدر لها أن تعيش إلي الآن، وهي تري العواصم العربية، تستقبل رئيس وزراء الكيان الصهيوني، وأن العلم الذي أَحرقه المناضلون والثوّار في كافة الميادين، يُرفرف مع مارشات النشيد الوطني وهو يعزف في كافة المحافل العربية، بل ثمة تنافس محموم في إعلان الاستقبال أو الترويج لفكرة أن الواقع تغيّر. فعلي حد تعبير وزير خارجية عمان »‬إسرائيل دولة موجودة وحان الوقت لمعاملتها بالمثل» (في كلمته خلال فعاليات مؤتمر »‬حوار المنامة» ال14 للأمن الإقليمي، السبت 28/10/ 2018). أو حتي أن الاستقبال يدخل ضمن »‬مقاصد الحكمة» كما ذهب (سالم بن حمد الجهوري) .
فالحقيقة المرّة أن الكيتش النضالي فقد بريقه. قديمًا وصف هيكل أعضاء الحركة الطلابية بأنهم يبحثون عن »‬حماية ودفء الجماعة» وهو ما يرادف مصطلح الكيتش الذي استخدمه ميلان كونديرا في روايته. حتي ثوار 25 يناير 2011، فقدوا هذا الكيتش وراحوا يدورون في دوائر مفرغة، كما أن الحلم الذي صنعوه لأنفسهم تاه فجأة، بل تحوّل طيفه كما يقول أحمد بهاء الدين »‬إلي شبح وهلوسات مزمنة تكاد عقولنا تجن بسببه».
ورطة جيل السبعينيات - كما تقول أروي - أنهم لم يستطيعوا تجاوز شيخوخة جيل الستينيات، بل والأسف اتخذوهم قادةً، وهم العجزة بحكم السن وبحكم أفول الوجه الثوري ،وعندما جاءت الفرصة كانوا قد قطعوا شوطًا كبيرًا من العمر لا نضال فيه، وإنما حياة متناقضة بين أفكار ماركسية صاغها مؤسس في زمن مدّ ثوري عالمي تمتلأ لغتها بالقوة وبالتفاؤل، وبين واقع هزيمة لم يتح لأصحابها حتي شرف النزال ومن ثم دخلوا في دوائر البحث عن العدو! تاهت البوصلة.
ردّت أروي فعلهم العاجز إلي أن ماركسية جيل الستينيات »‬كانت ماركسية مثقفين معزولين دهسهم الواقع فحرمهم كلّ خيال». وهو ما آل إلي حالة الانفساخ التي مُنِي بها المثقف الماركسي. الغريب أن أروي لا تردُّها إلي ما فعلته سُلْطة ناصر التي جمّعت البرجوازية الصغيرة حولها، وجعلتهم يقعون في تناقضات حول ما آمنوا به، وما ردّدوه من شعارات وما قدّمته لهم من أدوار اجتماعيّة ومراكز طبقية في عملية مقايضة بخسة دفعت ثمنها الحركة النضالية برمتها، وليس مَن اختاروهم من الموهوبين. وإنما تضيف سببًا آخر للمأساة يعود للمؤسسات الثقافيّة الخليجيّة التي امتصت كلّ من ظلّ موهبة في عمل ثقافي، كان أثره الوحيد الحقيقي هو تحويلهم إلي باعة ثقافة. وهي الصورة التي انفتحت علي مصراعيها في الآونة الأخيرة،فلم تعد مجرد كتابة، بل صارت جوائز بأرقام فلكية، ومسابقات متنوِّعة، وأيضًا توسعت لتشمل الثقافة في معناها الشامل كالإعلام، والفن (مسابقات المواهب والغناء (الأطفال والكبار)، السينما؛ عروضًا ومهرجانات وتكريمات وجوائز). فكان لهذه الإغراءات سحرها في مطاردة واجتذاب »‬السّحرة» (العنوان الذي اقترحه سارتر لكتاب المثقفون لسيمون دو بوفوار، لكن صديقهما لانزمان اقترح أن يكون الاسم »‬المثقفون»).
في رحلة أروي القصيرة كانت - كما يقول عبد المنعم رمضان في مقاله السابق - »‬تبحث عن زمن جديد، كانت أحلامها التي شابهت سحر الربيع قد صارت أغصانا يابسة». لكن مع الأسف كان زمن الأحلام قد ولي هو الآخر حتي أنه لم يبق لها إلا أن تكنس هذه الأحلام »‬في صمت، وتُلقي بها بعيدًا». الكتاب بما يحمله مِن هزيمة أروي علي المستوي الشخصي وأيضًا علي المستوي العام فهو يعد هزيمة أيضًا لجيلها حتي ولو لم يعترف بها الكثيرون من أبناء هذا الجيل، فكما يقول رمضان علي نحو أكثر شمولية بمثابة »‬وثيقة إدانة، وتصفية حسابات مع حياة ضائعة، وأحلام ضائعة، وجيل ضائع، كان كتابها يتوق أحيانا إلي ما هو غير موجود، يتوق أحيانا إلي وجود مستحيل ونظافة مستحيلة». الحقيقة التي لا أعرف جاءت عن قصد أم لا فإن توقيت إعادة نشره (2015) وترجمته (2018) بالغ الدلالة بعد تأكيد هزيمة الثورة المصرية ووصفها بكثير من الألفاظ البذيئة من قبل مناهضيها، فتكون الحالة الثورية التي عايشوها أيام الثورة بمثابة الكيتش الذي يسعي إليه جيل ثورة يناير فرارًا من الهزائم المتلاحقة التي لاحقتهم.
هامش علي الأمل
وبينما كنتُ انتهي من كتاب أروي صالح بما فيه من نبرة سخط وغضب وأيضًا يأس مرير، وصلني كتاب الكاتبة السورية سمر يزبك بعنوان »‬تسع عشرة امرأة: سوريات يروين» (دار المتوسط، ميلانو إيطاليا 2018). ما العلاقة بين الكتابين. في الواقع ثمة علاقة مشتركة وإن بدت بصورة غير مباشرة وصريحة. ألا وهي الحُلْم. سقوط الأحلام وموتها في كتاب أروي، وزرع الأحلام في كتاب سمر يزبك. فالكتاب يحكي تجارب حقيقية (وإن كانت بأسماء مستعارة) لنساء عركتهن الثورة السورية، اُنتهكت أجسادهن، واستبيحت أعراضهن من قبل شبيحة النظام تارة، وأفراد الجيش الحر تارة ثانية، وكذلك من النساء اللاتي تحوّلن إلي جزء من السلطة الذكورية القمعية التي مارست تشويه السُّمعة والقتل المعنوي ، فتحوّلت النّساء إلي ديكتاتوريات قمع علي أبناء جلدتهن. علي الرغم من مرارة التجارب - علي تنوّعها؛ شابات وَمُسنات، وجامعيات، وحزبيات ومناضلات، ومواطنات - التي كل واحدة منها تكفي لإدانة النظام بأكمله. إلا أن الجامع المشترك بين جميع الرَّاويات، هو أن الرَّاويات لا يتحدّثن من منطلق أنهن ضحايا أو حتي إدعاء البطولة والتبجّح بها، وهو ما يكسر ما سعت الثقافة العربية والغربية إلي تكريسه، بوضع المرأة في إحدي الخانتين إما خانة الضحية أو خانة البطولة. وهو مفهوم جديد في المقاومة، يُناقض فكرة التضحية، وهذا المفهوم مبعثه أن الحلم ما زال لم يُكسر بعد، وأن ثمّة أملاً قائمًا حتي لو تأخّر فيكفي أن يُزرع في الأجيال اللاحقة (وهو عكس ما ترسّخ لدي الإنتليجنسيا المدنية المصرية، ومن ثمّ علت نبرة الترحم علي الماضي). فالرَّاويات علي الرغم من أنهنّ خرجن جريحات مجهضات علي المستوي النفسي والمادي؛ حيث أُصيب الجسد بالرضوض وصلت لدي البعض بعاهات مستديمة، والرُّوح بالشروخ النفسيّة التي تجسّدت في هيئة كوابيس طاردتهن حتي مع خروجهن من سوريا بطرائق شرعية وغير شرعية، إلي أصقاع الأرض التي فتحها المسلمون الأوائل وبشروا بالعدل والحرية والمساواة (ألم تكن أروي معجبة بعمر بن الخطاب وعدالته؟!) والأهم هو جُرح الهوية الأعمق. ومع قسوة التجربة إلّا أنهنّ لم يندمنّ علي ما فعلن وما حدث معهن من خسّة كشفت عن ابتذالات وبذاءات كل الشّعارات الإيديولوجيّة الطائفيّة والحزبيّة والدينيّة. بل علي العكس تمامًا، فجميعهن بدأن حياة جديدة بالعمل أو بالدراسة، أو بتأسيس أسرة، أو بالمشاركة »‬في صناعة الحياة» بالفعل (لا بالشعار التلفيقي »‬صنَّاع الحياة» الذي ابتدعه أحد الدُّعاة الجدد!) كما فعلت سارة بنت المعضمية الشابة الجامعية التي نجت من موت محقّق في المجزرة الكيماوية، وبعدها نجت من مجزرة السكاكين ثمّ من القصف والحصار. نجت وهربت بروحها، فلم تجلس تلعن واقعها بل »‬أسست مشاريع تنموية عديدة»، وبالمثل سعاد من دير الزّور والتي قدمت صورة مغايرة في تحدٍّ للظروف والعوامل القاهرة ،حيث لا همّ لها إلا إتمام تعليمها بين مناطق النظام وداعش، وما اتبعته من حيلها أثناء اجتياز الحواجز، وفي النهاية »‬لقد تمكنت من الحصول علي شهادتها الجامعية». نعم، كلهن في وضعية اللاجئات والشريدات لن تحميهن الغربة من ذل المنافي أو الخوف من النسيان الجمعي، وإن حمتهن من اعتداءات النظام. ومع هذا كله، إلا أنهن لم يتخلّين عن الحُلْم. حيث في ثورتهن كن يتطلّعن »‬إلي قامة مستحيلة، اسمها العدالة» ومع العقبات التي حالت دون تحققّها، وانتهت بهن في أحد مراحلها إلي معتقلات وسجينات مع أرباب سوابق وداعرات، إلا أنهن كما تقول المؤلفة في الإهداء »‬لم نغلق البابَ وراءنا، ولم نتركه للريح !» وقد كشفن عن أن محاربة الاستبداد ومقاومة الطغيان هدف أسمي حتي لو انتهين هذه النهايات الفاجعة.
تعليق ختامي
لم يبق إلا أن نردّد مع أمل دنقل، الذي يبقي دومًا حاضرًا، أيقونة خالدة ضدّ السقوط والانكسار، والرضوخ ورمزًا أبيًّا للمقاومة بكافة أشكالها:
كان قلبي الذي نسجته الجروحْ
كان قلبي الذل لعنته الشروحْ
يرقد – الآن – فوق بقايا المدينةْ
وردةً من عطنْ
هادئًا ..
بعد أن قال »‬لا» للسفينة
... وأحب الوطن!
(أمل دنقل: مقابلة خاصة مع ابن نوح)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.