عيار 21 الآن بعد الارتفاع الجديد.. سعر الذهب والسبائك بالمصنعية اليوم السبت في الصاغة    شهداء وجرحى في قصف للاحتلال على مناطق متفرقة من قطاع غزة    واشنطن بوست: أمريكا دعت قطر إلى طرد حماس حال رفض الصفقة مع إسرائيل    "جمع متعلقاته ورحل".. أفشة يفاجئ كولر بتصرف غريب بسبب مباراة الجونة    كولر يرتدي القناع الفني في استبعاد أفشة (خاص)    الأرصاد الجوية: شبورة مائية صباحًا والقاهرة تُسجل 31 درجة    مالكة عقار واقعة «طفل شبرا الخيمة»: «المتهم استأجر الشقة لمدة عامين» (مستند)    وكالة فيتش تغير نظرتها المستقبلية لمصر من مستقرة إلى إيجابية    37 قتيلا و74 مفقودا على الأقل جراء الفيضانات في جنوب البرازيل    العالم يتأهب ل«حرب كبرى».. أمريكا تحذر مواطنيها من عمليات عسكرية| عاجل    حسين هريدى: الهدف الإسرائيلى من حرب غزة السيطرة على الحدود المصرية الفلسطينية    حي شرق بمحافظة الإسكندرية يحث المواطنين على بدء إجراءات التصالح    ارتفاع جديد.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم السبت 4 مايو 2024 في المصانع والأسواق    رئيس المنظمة المصرية لمكافحة المنشطات يعلق على أزمة رمضان صبحي    جوميز يكتب نهاية شيكابالا رسميا، وإبراهيم سعيد: بداية الإصلاح والزمالك أفضل بدونه    بعد انخفاضها.. أسعار الدواجن والبيض اليوم السبت 4 مايو 2024 في البورصة والأسواق    مصطفى بكري عن اتحاد القبائل العربية: سيؤسس وفق قانون الجمعيات الأهلية    التموين تتحفظ على 2 طن أسماك فاسدة    دفنوه بجوار المنزل .. زوجان ينهيان حياة ابنهما في البحيرة    صوت النيل وكوكب الشرق الجديد، كيف استقبل الجمهور آمال ماهر في السعودية؟    توقعات الفلك وحظك اليوم لكافة الأبراج الفلكية.. السبت 4 مايو 2024    هيثم نبيل يكشف علاقته بالمخرج محمد سامي: أصدقاء منذ الطفولة    رشيد مشهراوي ل منى الشاذلي: جئت للإنسان الصح في البلد الصح    المتحدة للخدمات الإعلامية تنعى الإذاعى أحمد أبو السعود    معرض أبو ظبي للكتاب.. جناح مصر يعرض مسيرة إبداع يوسف القعيد    حسام موافي يوضح خطورة الإمساك وأسبابه.. وطريقة علاجه دون أدوية    برش خرطوش..إصابة 4 من أبناء العمومة بمشاجرة بسوهاج    سبت النور.. طقوس الاحتفال بآخر أيام أسبوع الآلام    فوزي لقجع يكشف حقيقة ترشحه لرئاسة الاتحاد الأفريقي    هبة عبدالحفيظ تكتب: واقعة الدكتور حسام موافي.. هل "الجنيه غلب الكارنيه"؟    «صلت الفجر وقطعتها».. اعترافات مثيرة لقاتلة عجوز الفيوم من أجل سرقتها    حازم خميس يكشف مصير مباراة الأهلي والترجي بعد إيقاف تونس بسبب المنشطات    هييجي امتي بقى.. موعد إجازة عيد شم النسيم 2024    عرض غريب يظهر لأول مرة.. عامل أمريكي يصاب بفيروس أنفلونزا الطيور من بقرة    250 مليون دولار .. انشاء أول مصنع لكمبوريسر التكييف في بني سويف    أحمد ياسر يكتب: التاريخ السري لحرب المعلومات المُضللة    كندا توقف 3 أشخاص تشتبه في ضلوعهم باغتيال ناشط انفصالي من السيخ    السودان وتشاد.. كيف عكرت الحرب صفو العلاقات بين الخرطوم ونجامينا؟ قراءة    مصرع طفلين إثر حادث دهس في طريق أوتوستراد حلوان    احتراق فدان قمح.. ونفوق 6 رؤوس ماشية بأسيوط    برلماني: تدشين اتحاد القبائل رسالة للجميع بإصطفاف المصريين خلف القيادة السياسية    تقرير: 26% زيادة في أسعار الطيران السياحي خلال الصيف    وكالة فيتش ترفع نظرتها المستقبلية لمصر وتثبت تصنيفها عند -B    وكالة فيتش ترفع نظرتها المستقبلية لمصر إلى إيجابية    توفيق عكاشة: الجلاد وعيسى أصدقائي.. وهذا رأيي في أحمد موسى    عضو «تعليم النواب»: ملف التعليم المفتوح مهم ويتم مناقشته حاليا بمجلس النواب    دينا عمرو: فوز الأهلي بكأس السلة دافع قوي للتتويج بدوري السوبر    شيرين عبد الوهاب : النهاردة أنا صوت الكويت    أول تعليق من الخطيب على تتويج الأهلي بكأس السلة للسيدات    دعاء الفجر مكتوب مستجاب.. 9 أدعية تزيل الهموم وتجلب الخير    دعاء الستر وراحة البال .. اقرأ هذه الأدعية والسور    «البيطريين» تُطلق قناة جديدة لاطلاع أعضاء النقابة على كافة المستجدات    سلوي طالبة فنون جميلة ببني سويف : أتمني تزيين شوارع وميادين بلدنا    طبيب يكشف سبب الشعور بالرغبة في النوم أثناء العمل.. عادة خاطئة لا تفعلها    أخبار التوك شو| مصر تستقبل وفدًا من حركة حماس لبحث موقف تطورات الهدنة بغزة.. بكري يرد على منتقدي صورة حسام موافي .. عمر كمال بفجر مفاجأة    «يباع أمام المساجد».. أحمد كريمة يهاجم العلاج ببول الإبل: حالة واحدة فقط بعهد الرسول (فيديو)    فريق طبي يستخرج مصباحا كهربائيا من رئة طفل    المفتي: تهنئة شركاء الوطن في أعيادهم ومناسباتهم من قبيل السلام والمحبة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المفكرون الأساسيون من النظرية النقدية إلي ما بعد الماركسية:
معاول علي جدار الماركسية!

احتلت النظرية النقدية مكانة كبيرة، كما تقاسمت أطروحاتها النظرية علوم كثيرة، فلم تقتصر علي النقد وفقط، بل اشتملت العلوم الاجتماعية والفلسفية والسياسية أيضًا. وعلي الجانب الآخر شغلت الأطروحات الماركسية اهتمامات أجيال كثيرة من الأدباء والنقاد والمفكرين الذين تبنوا وروّجوا للأفكار الاشتراكية إبّان حركات التحرّر والمدّ الاشتراكي. ومع أهمية هذه الأفكار إلّا أن أحداث مايو 1968 كانت بمثابة مراجعة وإعادة تقييم والتفكير من جديد في الماركسية في ظلّ المعطيات الجديدة. فنشأ جيل جديد من المفكّرين وقفوا ضدّ هذه الأفكار، بل قاموا بمقاطعة هذه الأفكار وروّجوا لما يمكن أنْ يُطلق عليه ما بعد الماركسية، وهناك مَن سَعي لتبديل وتعديل الماركسيّة من الداخل كما أراد جيل ديلوز وجواتاري.
ما بعد الماركسية
ومن هنا تأتي أهمية هذا الكتاب الجديد »‬المفكّرون الأساسيون: من النظرية النقدية إلي بعد الماركسية» تأليف سايمون تورمي وجولز تاونزند، والصّادر حديثا بترجمة عربيّة تصدّي لها الدكتور محمد عناني، عن المركز القومي للترجمة في مصر بالاشتراك مع مركز المحروسة 2017، والكتاب في أصله معني بتقديم وتقييم لعدد من الشخصيات التي كان لها أكبر تأثير في إطار النظرية النقدية المعاصرة. ويرجع تميُّز الكتاب ومفارقته لبعض الكتب الأخري كما ذكر المؤلفان لأن اختيار هذه الشخصيات تمّ وفق مرجعية مصطلح أساسيّ في المناظرات الدائرة حول تراث الفكر النقدي، وهو يقصد مصطلح "ما بعد الماركسية" الذي يمثّل صعوبة من نوع ما. يتوقف المترجم في تصدير يشغل حيزًا كبيرًا من الكِتاب، عند أهمية الكتاب الذي يحوي أفكارًا عميقةً تتجه إلي أهل الاختصاص من الأكاديميين، فالكتاب كما يراه من أغزر الكتب الفكرية مادة وأعمقها بحثًا وتحليلاً، وإن كانت هذه الصفة يراها ميزة وعيبًا في ذات الوقت، فالميزة كما يقول: "حيث أنه يتيح للدارسين أن يستزيدوا من بعض مادته بالرجوع إلي المصادر، أي الكتب الأصليّة التي وضعها الأعلام الذي يعرض الكتاب أفكارهم. وأما العيب فإنه يفترض عند قارئه إلمامًا ولو عامًا أو مبدئيًا بإطار المادة المذكورة أو مصطلحاتها الشائعة. ويري من الصعوبة فَهم ما تضمّنه الكتاب إلا بوضع معجم للمصطلحات الواردة في الكتاب وهو الجهد الذي اضطلع به المترجم، حيث قدَّم تعريفات موجزة لكافة المصطلحات التي ترددت داخل فصول الكتاب المختلفة. ويعتمد في شروحاته علي التبسيط، وهي أقرب إلي التعريفات المدرسية.
جاء الكتاب في تسعة فصول، في كلّ فصل من هذه الفصول يحوي مُقدِّمة وتقييمًا للمفكرين الذين ارتبطوا بأحداث 1968، وبانتفاضة باريس مثل: كاستورياديس وجان فرانسوا ليوتار، والشريكين في الكتابة ديلوز وجواتاري. وأيضًا ليوتار وولاكلاو وموف، وميشيل باريت ودونا هاراواي وغيرهم. ويناقش الكتاب نظريات هؤلاء فيما يتعلق بمسائل عدة، منها نظرية التاريخ عند ماركس، ووصفه للعامل الثوري، وللأخلاق، والماركسية والوضعية، والطليعية والمثقفين، ومشكلة الديموقراطية، وعلاقة المذهب النسوي بالماركسية، والتوفيق بين الحداثة والاستقلال والتضامن، وكذلك تفكيك الماركسية وأنواعها، وصولاً إلي التساؤل الحيوي عن: ما بعد الماركسية إلي أين؟!
الكتاب ينشغل بهؤلاء الكتّاب الذين أكَّدوا يومًا ما علي وجود أزمة في الماركسية، وأن الماركسية المعهودة قد انهارت، وهو ما أدي بدوره إلي إعادة التفكير في عمل ماركس وتركته من أجل تشكيل البحث النقدي، وباعتبار ذلك ردّا سياسيًا علي الرأسمالية المتقدمة. ومن هنا فما بعد الماركسية تتضمن عنصرًا أساسيًا ألا وهو فكرة البقاء في فلك الإشكالية الماركسية، حتي في إطار التنصل من الماركسية، باعتبارها أساسًا لتجديد البحث النقدي. كما يهتم الكتاب بأولئك الذين حافظوا علي اقترابهم من فكر ماركس أثناء دورانهم في أفلاكه. وأهم رابط بين هؤلاء الكتاب مع تنوِّعهم هو إيمانهم باستحالة العودة ببساطة إلي ماركس، كما أن ثمة فرضية حاضرة في أطروحاتهم تتمثل في وجود إشكالية في فكر ماركس وأيضًا في مزاعم الماركسية بأنها النظرية المثلي للتحرّر البشري. كما أن هؤلاء غير معنيين بالبحث عن ردود ماركسية، بل كان تركيزهم علي قضايا المعني والذاتية والعالم الرمزي والعلاقة الإشكالية بين اللغة وتمثيل الذاتية.
ضدّ ماركس
لا تعني ما بعد الماركسية التخلِّي الكلي عن تراث ماركس، فهي ترتبط أولاً بعمل إرنستو لاكلاو وشانتال موف "الهيمنة والاستراتيجية الاشتراكية" المنشور عام 1985، فيقرّ الكثير من العاملين في مجال النظرية السياسية والنقدية، أنه النص الأساسي لما بعد الماركسية. ومع أن العنوان طموح يشير إلي التخلِّي عن ماركس إلا أنّه في الوقت ذاته يعترف بأهمية ماركس للعمل علي تشكيل خطاب يساري راديكالي بعد اختفائه من المسرح. وهناك مَن يعتبر "ما بعد" حركة فكرية مكتملة النمو، ولها جذورها التي ترجع إلي ظهور الماركسية الغربية بعد تشعُّب الماركسية إلي شعبتيْن في فترة الثورة الروسية وانهيار الدولة الثانية. وهناك من يزعم بأن ما بعد الماركسية ضمّت عددًا كبيرًا وربما غالبية الذين كانوا يوصفون بأنهم ماركسيون، وإنْ كانوا من النوع المارق أو الغربي أمثال جورج لوكاتش وأنطونيو جرامشي. فلوكاتش ذاته لم يكن يذهب إلي إحلال مذهب فكري بديلاً عنها، بقدر ما كان يَسعي إلي نهضتها وتطويرها.
والحقيقة أن ما بعد الماركسية كانت استجابة للأزمات التي وقعت بعد عام 1968، والتي كانت جميعًا تشاركُ في تجاوز الماركسية والشيوعية السوفيتية. حيث شهد هذا العام "ربيع براغ" الذي كان بداية النهاية للماركسية الشرقية والغربية، كما شهد أيضًا "أحداث باريس" التي وقعت رغم أنف الحزب الشيوعي الفرنسي، علاوة علي ما تعرضت له الماركسية المنظمة من ضربات لم يكتب لها أن تشفي من أهوالها في أوروبا؛ إذ تفتتت إلي شتي فصائل الشيوعية الأوروبية والماوية والتروستكية والستالينية، والأخيرة كانت تتوقع إعادة تأسيسها. وقد أظهر عام 1968 أن السياسة التقدمية كانت في مكانٍ آخر يختلف عن الأحزاب الماركسية أو تحت القيادة الماركسية. فقد كانت في الشوارع وتحت أحجار الطريق المُعَبد، وفي الحركات الاجتماعية الجديدة للمذهب النسوي ومذهب الحفاظ علي البيئة. أي أنّها بدت في كلّ مكان باستثناء جدران الحزب ومن هنا كانت هذه الأحداث بوضوح وجلاء خلفية لمشروع "لاكلاو وموف"، وأيضًا مهادًا لمداخل منوَّعة، وشتي التجديدات النظرية والاستراتيجيات، والغريب أن جميعها كانت تشارك الرغبة في الرغبة المشتركة لتجاوز الماركسية والشيوعية السوفيتية. ومن الإشكاليات التي واجهت المؤلفين ما هو خاص بالعنوان "ما بعد الماركسية" ويتخذ مِن موقف الذين عارضوا الماركسية وأكدوا علي وجود أزمة في الماركسية وأن الماركسية المعهودة قد انهارت، ذريعة لتجاوزها، وهو ما أدي بالضرورة إلي إعادة التفكير في عمل ماركس وتركته من أجل إعادة تشكيل البحث النقدي، ومن هنا اعتبر أن ما بعد الماركسية مهما يكن التعريف النهائي لها، إلا أنها تتضمن عنصرًا أساسيًّا ألا وهو فكرة البقاء في فلك الإشكالية الماركسية، حتي في إطار التنصل من الماركسية، باعتبارها أساسًا لتجديد البحث النقدي.
وأهم ما يُميِّز فكر ما بعد الماركسية هو ابتعادها عرضًا أو عمدًا عن فكرة النضال الفعلي للأحزاب والحركات والمجموعات الاجتماعيّة، ومن ثمّ يرفض المؤلف وصفها بأنها حركة سواء كانت فكرية أو ثورية. وبالمثل يرفض وصفها بأنها مذهب إيديولوجي، حيث الروابط القائمة بين الأعلام المدروسين هنا أبعد أن تكون ملموسة علي النحو المذكور.
في الفصل الأول يقف عند كاستورياديس ويقول عنه إنه ارتبط بجماعة الاشتراكية أو الهمجية التي وضعت تحليلاً جديدًا للرأسمالية والشيوعية السوفيتية وفق منهج ما بعد تروتسكي. وقد وضع دراسة انتقد فيها الماركسية نقدًا ضاريًا من كل أبعادها، لكنه ظل يتشبث بموقفه السياسي الراديكالي المتشدّد. وفي نفس الوقت كان لا يري أن الماركسية راديكالية إلي الحدّ الكافي، ما دامت مرتبطة بالصّورة السلطوية التي تجاوزها الزمن. فالماركسية عنده مازالت أبوية وبيروقراطية في استجابتها للعمل الثوري العضوي، ومن ثمّ فلا بدّ من محاربتها للحفاظ علي حياة الآمال والطاقات الراديكالية. كما تُمثل ما بعد الماركسية لديه تحديًا متينًا للماركسية ذاتها. وكان يهدف من وراء هذا إلي وضع نظرية راديكالية لاستكمال الفكر السياسي والمجتمعي ودحر البيروقراطية والمركزية. وإن كان ثمة صعوبة كامنة في التوفيق بين الإدارة الذاتية ومجالس العمال كما يقول محررا الكتاب في تقييمهما لأفكاره. أما جيل ديلوز وفليكيس جواتاري فقد وضعا كتاب "الرأسمالية والشيزوفرينيا" في مجلدين وهو أهم مداخلة نظرية خرجت من 1968. كان غرضهما الحقيقي هو التحقق في أحداث مايو 1968، وهو ما أدّي إلي دحض مزاعم الماركسية التقليدية والبنيوية بشأن العمل الاجتماعي، وهو ما يشي بوضع مذهب مادي جديد يستند إلي تحليل الرغبة كما في كتاب "ضد أوديب" وإعادة تركيب الجماعي كما في كتاب" ألف هضبة" وبصفة عامة كانا يهدفان إلي وضع تعليل فائق (أي أصح) للواقع الاجتماعي والتطور التاريخي، وبالتالي مذهب سياسي جديد يقوم علي الصورة المجازية للثوّري الشيزوفريني والرّحالة. الغريب أنهما كانا يُصران علي امتداد حياتهما أنهما ماركسيان، بغض النظر علي أنها ليست الماركسية التي يعترف الكثيرون بها أو حتي يتعاطفوا معها. وإلي جانب دعوتهما إلي إعادة التفكير في المادية، فإنهما في ذات الوقت يقدمان معارضة صريحة للاكان وفرويد كما جاء في كتابهما ضدّ أوديب بما يحمل عنوانه من معارضة للأفكار التي تبناها لاكان وفرويد في التحليل النفسي، ففرويد حلّ مشكلة البحث عن معني الحياة الإنسانية، بأن قصرها علي ذلك الصراع الأزلي مع الأب للظفر بقلب الأم. كما نبذا النظرية الماركسية للإيديولوجيا باعتبارها "وعيًا زائفًا"، ومن ثم القمع باعتباره من صنع المصالح الطبقية التي تخْفي بشكل ما عن العين. فتصبح مسألة "الوعي الطبقي" غير ذات موضوع في تعريفهما للرأسمالية، فمن وجهة نظر القيمة لا توجد إلا طبقة واحدة هي البرجوازية، وهذا المعني ترديد لأصداء ماركوزي في كتابه "الإنسان ذو البعد الواحد". فالوعي الطبقي بمثابة ستارً يحجب وضع استراتيجية يتمكّن بفضلها ممثلو المقهورين من إحلال أنفسهم ومصالحهم محل المقهورين الذين يقال إنهم لا يستطيعون اكتساب أي شيء سوي الوعي النقابي.
سعي ليوتار المولود في فرنسا عام 1924، الذي انحاز لحركة 22 مارس بعد أن انفصل عن جماعة الاشتراكية أو الهمجية بعد خلافات خطيرة، في البحث في الطاقة الكامنة "المسكوت عنه" أو الذي لا يمكن تمثيله باعتبارها أساسًا لمذهب سياسي راديكالي. كما كان يهتم اهتمامًا دائمًا بالطاقة الراديكالية الكامنة في الحركة الفنية الطليعية بصفتها الشرارة اللازمة لمقاومة إملاءات الرأسمالية. وبعد فشل انتفاضة مايو اتجه إلي انتقاد الماركسية، باعتبارها "ميتاقصة" شمولية، بمعني رسم صورة ما بعد حداثية للمعرفة تؤكّد أن جميع مزاعم الحقيقة تنتمي إلي مواقف معينة، ومن ثمّ فهي قصص. ثمّ بعد ذلك طوّر بحثه وجعله تحليلاً لاستنزاف الحداثة بصفة عامة والعلم بصفة خاصة، ثمّ تحول إلي البرجماتية. ظلّ محتفظًا بانتقاده للرأسمالية وميولها السالبة لإنسانية الإنسانية حيث تحويل الفكر الخلّاق والممارسة الخلّاقة إلي أدوات تستعين بها باسم "كسب الوقت". الشيء المدهش في مسيرة ليوتار أن كتاباته الأولي باستثناء كتاباته الصحفية التي جمعت بعنوان "الكتابات السياسية" لا تكاد تكون سياسية، وهذا إذا طبقنا وفقًا للمؤلفين مفهوم السياسة الضيّق الذي تبناه فالتر بنيامين، وجورج لوكاتش، وثيودور أدورنو" لكن مع توسيع مفهوم السياسة حيث يتضمن احتمال استعمال العناصر الجمالية أو المجازية كشكل من أشكال المقاومة، فسوف يتضح لنا أن جماع عمله ذو طابع سياسي.
نحو ديموقراطية راديكالية خيالية
في الفصل الخاص بلاكلاو وموف وهما من وجهة نظر مؤلفي الكتاب، رائدًا ما بعد الماركسية، يتوقف عند الكتاب المؤسِّس "الهيمنة والاستراتيجية الاشتراكية". ويري أنه في هذا الكتاب كانت تدفعهما رغبة حقيقية لتطهير الماركسية من جميع آثار المنطق الستاليني، ففي قلب النظرية الماركسية شيء يقاوم الانفتاح والتسامح اللذين لابد منهما لنجاح الديموقراطية، ولا بد أيضًا من نبذ المعتقدات الجوهرية للمادية التاريخية، وإحلال نظرية ما بعد البنيوية محلها، وهو ما كان مثار خلاف كبير. الهدف الأسمي لهما هو تحقيق مشروع اشتراكي من خلال الإطاحة ب "رأسمالية الاحتكار" بحيث تؤدِّي الطبقة العاملة فيها دورًا حاسمًا، وإن يكن بالتحالف مع قوي اجتماعية غير بروليتارية. وهما يؤكدان أن الماركسية ليست مذهبًا كاملاً.
بداية الصدام بين الماركسية والحركة النسوية قد تجلي في الموجة الثانية من الحركة النسوية التي طعنت في فهم الماركسية التقليدية لذاتها. وفي المقابل رأي بعض الماركسيين أن المذهب النسوي كان ظاهرة من ظواهر الطبقة الوسطي، وأن مسألة المرأة سوف تحسم بعد الثورة الشيوعية، وهو ما لم يكن بالتنبؤ الصحيح، لأنه سرعان ما اتضح أنها ثورة اجتماعية من نوع ما، من دون كسر للنظام الرأسمالي، وأن جبهة نسوية جديدة تتشكّل حتي في داخل الطبقة العاملة. وإن كان في الحقيقة تأثير الماركسية بدأ مع الثمانينيات ينخفض علي الفكر النسوي، نتيجة لقصورها في فهم القهر الذي تتعرض له المرأة. كما كان لقصور استجابة الماركسية التقليدية لنشأة المذهب النسوي لظهور ما بعد الماركسية بصورتها القوية والضعيفة. الغريب أن "ميشيل باربت" كانت تري الرأسمالية عقبة كؤودا تعوق تحرير المرأة، في حين رأت "دونا هاراواي" ضرورة الاهتمام بتأثير التكنولوجيا الحيوية وتكنولوجيا المعلومات في وعي المرأة وما يترتب علي هذا من شيوع روايات الخيال العلمي. ويري المؤلفان أن العلاقة بين الماركسية والنسوية تتسم أحيانًا بأنها مثل الزواج ولو لم يكن من (النوع السعيد) علي حد وصفه، والسبب لأن كلا منهما يمثل بحوثًا نقدية راديكالية للرأسمالية الليبرالية، كما استطاع كل منهما حشد حركات اجتماعية تؤيد رؤي مختلفة لإعادة خلق العالم باسم التحرر الإنساني. أما تقويض مزاعم الماركسية بالتفوق النظري فقد جاء علي يد البنيويين الفرنسيين، وخصوصًا فوكو ودريدا وليوتار ولاكان، وأتباعهم من دعاة المذهب النسوي الفرنسي الذين ابتدعوا ما يسمي بالتوجه اللغوي أو الثقافي في مباحث العلوم الإنسانية الغربية. لكن في الأخير يبقي أن المذهب النسوي المتسم بما بعد ماركسية ضعيفة. وهناك من المفكرين من دعوا إلي التوفيق بين الحداثة والاستقلال والتضامن من خلال الديموقراطية كما فعل يورجين هابرماس الذي كانت علاقته بماركس تشبه علاقة التلميذ الصبور الذي يُخْرِجُ المفاهيم والمواقف من أطرها فيعيد تشكيلها بالأساليب التي كان يطمح إلي تحسينها للأصل، وقد كان يرمي كما يطلق علي نفسه آخر الماركسيين إلي معالجة شتي نقائص الماركسية، إلا أنه انتهي في آخر أعماله وقد تخلي عن ماركس، واتخذ موقفًا "بعد ماركسي" وقد تجلّي هذا في دفاعه عن الاتجاه التأسيسي أي وضع شكل سياسي يحترم إنشاء مجال عام، وهو الأمر الذي كان لا يوليه ماركس اهتمامًا، فلم يول طبيعة المجال العام ما يحتاجه من الفكر، بل جعل له مرتبة أدني حين خصّ المجتمع المدني به.
من الشخصيات التي يضيفها المؤلفان لهؤلاء المفكّرين شخصية جاك دريدا، مع اعترافهما أنه غير ماركسي، لكن سبب إدراجه يعود إلي تأثيره المهول علي ما بعد الماركسية، خصوصًا في لاكلاو والفكر النسوي ما بعد الماركسي. وإن كان السبب الأهم هو قيام دريدا بتصفية حسابه مع ماركس والماركسيين. حيث يضع دريدا تفكيكه لماركس والماركسية في إطار أوسع، وهو إطار معني أن "يتعلم المرء أن يعيش آخر الأمر". كما يثبت دريدا في عدد من نصوص ماركس مدي انشغاله بطرد الأشباح، بدءًا بالرسالة التي قدمها للحصول علي الدكتوراه. ومناقشته للمال أو للإيديولوجيا. ومع أن إيجلتون ذكر أن دريدا كان علي استعداد لاستخدام الماركسية بحثًا نقديًّا، فلم يكن يرغب في اعتناق اتجاهها الوضعي ومطالبتها باشتراكية فعالة استنادًا إلي تحليله المادي.
في خاتمة الكتاب يضع المؤلف تقييمًا لما بعد الماركسية، ويشير إلي موقفهم من الديموقراطية واستهانتهم بمدي ما تخضع له الإجراءات والنتائج الديموقراطية من عوامل تتحكم في تشكيلها، ومدي التلاعب والتشويه الذي تحدثه أفعال مَن يستطيعون استغلال أجهزة الإعلام الجماهيرية والانتفاع بآليات التمثيل النيابي والأحزاب السياسية. وفي ظل الأحلام التي لم تتحقق وحالة التفاوت الطبقي والعجز والقهر، فيدعو المؤلفان إلي ضرورة أن نشغل أذهاننا بما يتجاوز هذا العالم أو ما يوجد خارجه - علي الرغم من دعوات المبشرين بنهاية التاريخ ولسوف نحتاج إلي نظرية أو ممارسة للتفكير النقدي الذي يقدم بدائل ورؤي واقتراحات لتحسين الأحوال. ولسوف نحتاج علي الأرجح إلي كل من الماركسية ومذهب الشك الذي يقف خارجها، أي ما بعد الماركسية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.