مصطفي الرزاز في مرسمه ربما كان أكثر ما لفت انتباهي أثناء عملي بهذا الملف هو ثراء حكايات الأجيال القديمة عن مدرسي الرسم إذ لا تزال ذكرياتهم طازجة وثرية بينما تغيم تلك الذكريات رويدا رويدا حتي تكاد تختفي في ذاكرة جيل الشاب، إذ يحكي الفنان مصطفي الرزاز عن تجربته الكبيرة والمتميزة مع مدرسي الرسم قائلا: في هذا النص أستعيد ذكريات ماثلة في رأسي منذ أكثر من ستين عاما ومازالت حاضرة بقوة حول معلم التربية الفنية في المرحلتين الاعدادية والثانوية وقصدت إيضاح أن معلم التربية الفنية لاينشط برسالته إلا في مناخ مدرسي مؤهل بالإمكانات المادية والمكانية المجهزة، واهتمام الوزارة والنظار اهتماما حقيقيا بتنمية المواهب والملكات المتنوعة بالتوازي مع التميز الدراسي،كان ذلك في مدرسة محمد فريد الاعدادية الثانوية بشارع الترعة البولاقية بشبرا، وكان التعليم راقيا وحماسيا وكان برنامج الدراسة يشتمل علي مقررات في الرسم والأشغال الفنية والموسيقي والمسرح المدرسي وكانت المدرسة تحتفل بملكات الخطابة والمعلوماتية والشعر، أمور كانت نتيجتها أن لم نسمع عن تطرف ديني ولا إرهاب. وكان المصريون المتلقون لهذا النوع من التعليم يواصلون صفات السماحة والأريحية والرضا والوطنية وحب العمل والزهو بمنجزاته. هذه ليست قصة مدرس ولكنها مسيرة نظام تعليمي محترم ومؤثر وملهم، وناظر نبيل، ومعلمين مستنيرين أصحاب رسالة. كان من ثمار فصول هذه المدرسة في دفعتي من أصبحوا نجوما في المجتمع في مجالات مختلفة، أشير من بينهم إلي الأنبا بسنتي أسقف حلوان والمعصرة والدكتورجودة خليفة والدكتور قدري حفني والدكتور محفوظ صليب. كل منهم أصبح نجما ساطعا وثروة وطنية يعتد بها، العامل المشترك بينهم هو المدرسة الكائنة في حي فقير والتي كانت تترجم سياسة تعليمية نشطة، طموحة ورفيعة. كانت بالمدرسة الاعدادية ثم الثانوية قاعات متسعة للرسم والزخرفة وقاعات مجهزة للنحت والخزف والنجارة والمعادن والنسيج والأشغال الفنية، كانت عالما وملاذا للتلاميذ لاكتساب المهارات واحترام العمل اليدوي والابتكار في تطويع الخامات فضلا عن الرسم والتلوين والتعبير وابتكار الرموز، كان هناك نخبة ممتازة من الموجهين يزورون المدرسة من بينهم الأساتذة نظير خليل وأبوصالح الألفي. وكانوا متعاطفين وملهمين حقا. وكان بالمدرسة مكتبة عامرة تشجع التلاميذ علي القراءة الحرة وعلي استعارة الكتب وكان بها مسرح تعرض فيه الافلام التعليمية والخيالية والبيئية والإرشادية المؤثرة - وعليه تعقد الحفلات من آن لآخر. في العام 1951 كنت في الصف الثاني الابتدائي بمدرسة البطانحي بروض الفرج، كان مدرس الرسم صولا متقاعدا بالجيش وهو نفسه مدرس الألعاب. كان تدريس الرسم عقيما ومضجرا يعتمد علي استنساخ نماذج مطبوعة ورسم أشكال هندسية متقنة، وكانت الخرزانة إداة المدرس لعقاب من لا يؤدي بالدقة المطلوبة. كان ذلك كفيلا بأن أكرة الرسم ودروسه. وفي عام 1954 كنت في بداية المرحلة الاعدادية، في مدرسة محمد فريد الاعدادية الثانوية بشارع الترعة البولاقية بشبرا. كانت المدرسة ملهمة تحتفي بالمواهب وتشجعها، وكان تدريس الرسم مختلفا تماما ولا يخلو من جاذبية. جميع المعلمين مهتمين بالمواهب فهذا هو الأستاذ »فتيحة» مدرس التاريخ يأخذنا لأول مرة لزيارة المتحف المصري القديم بميدان التحرير، ويشرح لنا الأعمال المعروضة بتمكن وشغف. وكان مدرس الفلسفة يكلفني بعمل تمثال لأرسطو، فأحضر لي شيكارة جبس وأطباقا واسعة مخلطة بالماء وتشكيل التمثال وكنت مكلفا برسم اللوحات التوضيحية لدروس التاريخ والجغرافيا والفلسفة. الأستاذ إيميل مدرس اللغة الفرنسية كان مسئولا عن الفصل، وكان يرسل كتيبا صغيرا كتقرير شهري عن أداء كل تلميذ، يطلب ضرورة توقيع ولي الأمر عليه كل شهر، في بداية العام أرسل ملحوظة تقول: مصطفي تلميذ موهوب وأرجوكم دعم موهبته بشدة. وفي الشهر الثاني كتب: شكرا للأسرة علي رعايتهم للموهبة وفي الشهر الثالث كتب "»أحذر بشدة، إن لم يتوقف عن الرسم تماما لا أضمن أن ينجح في هذا العام، لابد من مراقبته ومنعه تماما». في الصف الثالث الاعدادي تعرفت علي أستاذ (عدلي يسي) مدرس التربية الفنية- كان خريج قسم عمارة فنون جميلة ولكنه كان مدرسا مطبوعا محبا للفن ولفنون الأطفال. قدوة حقيقية دافعة بلاد حدود، السجائر وفناجين القهوة، والتوجيه وتقديم الخامات والأدوات.. كان منها ملهماً ومحفزاً محبا واثقا في تلاميذه، وكان اهتمامه بالمهارة والممارسة مقرونا بالثقافة والمعرفة، فخصص قاعة للمتحف علق فيها مستنسخات ممتازة لأعمال الفنانين العالميين والمصريين مع نبذات تحت كل منها، وكان لديه مجلد يضم مقالات مكتوبة من مجلات الهلال وغيرها عن الفن، وشجعنا علي شراء مجلة الهلال لمتابعة ما يكتب فيها لعبدالرحمن صدقي، وأبوصالح الألفي وآخرين عن الفن وفنون التراث المصري والعالمي. كان زملاؤه من معلمي التربية الفنية بالمدرسة، تقليديين ولم يتمتعوا بكاريزميته وحيويته وحماسه. فكنا نلتف حوله دونهم. وتعرفت بزوجته الرقيقة في زياراتي لمنزله، وكنت أقابلها بعد أن تخرجت من الكلية وأصبحت فنانا نشطا في الحركة الفنية، من آن لآخر في حي المنيل حيث كانت عائلتها تعيش، وكان موضوع الحوار دائما حول الأستاذ عدلي وأفضاله علي، بينما تشير إلي محبته لي وحماسته لتقدمي. في نفس العام المدرسة تدعو الفنان الشهير (حسن حشمت) الخزاف القدير كأستاذ زائر بالمدرسة بينما تدعو الفنان حمدي غيث للاهتمام بمحبي المسرح والغناء. وكان مدرس الموسيقي بالمدرسة.. الاستاذ أحمد حلمي ملحنا معروفا لحن لنجاة الصغيرة ولشادية وغيرهما وكان يدرس لنا النوتة الموسيقية. تابع حشمت مع مجموعة منا تأسيس ورشة الخزف، وبناء فرن فوق سطح المدرسة بالوقود الخشبي، وأنتج معنا أعمالا من الفخار وطلاها بالجليز مع حرصه باعتبار أن هذا من أسراره، وكان خفيف الظل فأحببناه كثيرا، وكلفني بعمل لوحة جدارية 2x3 متر من الخزف - فردت الطينة في أرضية إحدي حجرات الرسم، وكبرت الرسم، ثم عكفت علي نحتها، وعندما ترك المدرسة تابعني الأستاذ عدلي إلي أن انتهت، وأحضر الجليزات وطلبناها معاً، ثم حرقناها في فرن السطح، وثبتناها في مدخل المدرسة، كانت بعنوان العلم نور، وهي عبارة عن أسرة ريفية تحت شجرة عليها طيور وفي يد الأب كتاب عليه هذه العبارة- ومازالت اللوحة موجودة إلي الآن بمدرسة محمد فريد الاعدادية الثانوية بشارع الترعة البولاقية بشبرا.. وبينما كنت عاكفا علي إنهاء الجدارية الخزفية المنحوتة، وفي أحد الأيام مر ناظر المدرسة علي مكان العمل وقابل الاستاذ عدلي، وقال له بصوت مسموع فيما يشبه التعليمات، (يا أستاذ عدلي- إذا لم يحصل الرزاز علي مجموع القبول في المدرسة الثانوية، سنقبله عندنا بأي مجموع). ولم أحقق مجموعا مناسبا وعندما ذهبت إلي المدرسة أقول لهم أن الناظر وعدني- قالوا لي هذا غير ممكن لأن المسألة تتبع قانون ومعايير لا يمكن تجاوزها. ولم يكن أمام أبي إلا أن يلحقني في مدرسة ثانوية في قرية (كوم النور) وكنت أقيم مع أبناء عمي في قرية علي مسافة عدة كيلو مترات من المدرسة، واشتري لي دراجة لاذهب بها وأعود يوميا. كانت تقطع القرية ترعة تمر أمام المدرسة، وعليها قناطر صغيرة