مع د.جاب الله على جاب الله حينما كنا طلبة بكلية الاداب جامعة القاهرة في السبعينيات بدأ إعجابنا بفيصل يونس الذي كان وقتها معيدا بقسم علم النفس. لقد شكلنا لأنفسنا، نحن الطلاب اليساريين، نخبة من أعضاء هيئة التدريس بالكلية، تتميز من وجهة نظرنا بالنبوغ في التخصص والثقافة العامة والاستقامة الأخلاقية والاهتمام بالشأن العام وقبل كل ذلك بالتعاطف مع قضية نضال الطبقات الشعبية. وكان فيصل يونس من بين هؤلاء. وبمرور الزمن ومع اقترابنا منه يزداد إعجابنا وتقديرنا له. لقد كان الدكتور فيصل أستاذا أكاديميا نابها ورغم اتساع إطلاعه وإلمامه بالكثير من قضايا العلوم الانسانية كان شديد التركيز والاهتمام بالقضايا التي تنتمي إلي تخصصه الدقيق ومن المنظور العلمي الذي أسسه أستاذه الجليل الدكتور مصطفي سويف، لم يرد التوسع بالكتابة في موضوعات الثقافة الكثيرة والمتشعبة رغم قراءاته الكثيرة في هذا المجال وآرائه السديدة، ولهذا ظل دائما أستاذا كبيرا. يصعب وصف فيصل بأنه كان راهبا في محراب العلم فقد كان دائم النشاط مهموما بالبحث والتجريب من أجل إصلاح الاوضاع التعليمية. فقد كنا نلاحظ بعد أن أصبح أمام أعيننا وكنا نتباري جميعا في وصف مظاهره ومؤشراته ونولع بالمقارنة بين حال الجامعة حين كنا طلابنا وحالها بعد أن أصبحا أساتذة. وإزاء هذا التهور ظهر بين أساتذة الجامعة اتجاهان: أولهما الاستسلام للتيار ومحاولة زيادة الدخل المادي من خلال الكتب المقررة والمذكرات والأسئلة المهمة وإجابتها النموذجية.. إلي آخره. مثل هذه الممارسات تغذي التدهور وتضخمه وترسخه أما الاتجاه الثاني فكان يواجه هذا التدهور بالرفض الجذري الذي سرعان ما يدفع إلي الاحباط وانسداد سبل المقاومة الجماعية. كان الدكتور فيصل يونس نسيجاً وحده لأنه كان يري أنه مهما كانت الظروف فهناك سبيل دائم لتطوير التعليم الجامعي وبذل الجهد في هذا الصدد. ولم يكن دافعه الأساسي سمعة الجامعة أو رفع تصنيفها بين الجامعات، ولكنه كان ببساطة مصلحة الطلاب؛ فهم إذا كانوا يميلون إلي طريق الاستسهال فذلك لأنه لم يطرح عليهم أحد طريقا جادًا. وكنا حين نتجادل بشأن الموضوعات الحديثة في العلوم الانسانية وتطورها مثل موضوع الدراسات البينية وكيف أنها أصبحت تحتاج إلي مناهج جديدة، كان يواجه حديثنا هذا بابتسامة ساخرة لأننا حولناه لموضوع من موضوعات الجدل بين المثقفين في حين أنه ينبغي أن يتحول إلي رؤية لإصلاح التعليم والبحث هي وسيلة عملية لتدريب الطلاب علي هذه المناهج الجديدة. وكان يري أن طلاب اللغات والعلوم الانسانية ينبغي لهم ان يتسلحوا بكل هذه المناهج الجديدة ولم يهدأ حتي تمكن من إعداد برنامج دراسي لطلاب الدراسات العليا مجتمعين في كلية الآداب يدرسون فيه مناهج العلوم الانسانية في آخر تطوراتها. وهكذا كان اهتمامه بموضوع الجودة في الكلية اهتماما جادًا وفعالا يترجم بالفعل إلي برامج حديثة متطورة. وحينما بدأ الانخراط في العمل الإداري بوزارة الثقافة تعامل مع الأمر بنفس الهدوء والثقة والفاعلية. ولهذا فقد تولي فيصل يونس إدارة المركز القومي للترجمة بعد مؤسسه الدكتور جابر عصفور وكان ذلك بعد أيام من اندلاع ثورة 25 يناير وكانت فترة عصيبة مليئة بالقلاقل والاضطرابات ولكنه استطاع بحكمة أن يقود لمدة عامين المركز القومي للترجمة. واستطاع أن يوفق قدر ما تسمح الميزانية والظروف السياسية بين مطالب العاملين والاستمرار في إصدار الكتب المترجمة بل ومواصلة نشاط المركز من ندوات وتدريب. لقد استفاد المركز من خبرات الدكتور فيصل وشخصيته التي تتسم بالهدوء والحسم. فقد كنا حين نذهب إلي المركز لمتابعة ترجماتنا نلتقي به ويحكي لنا عن المشكلات التي تواجهه ومدي تشابكها وتعقدها. وكانت نبرة الهدوء التي يحكي بها هذه المشكلات تعكس عزمه وتصميمه علي الوصول لحلول لها لا تكون مجرد مسكنات أو حلول مؤقتة ولكن تصبح نظاماً في العمل يتسم بالدوام والاستقرار. هكذا شاء فيصل يونس لحياته أن تكون. وقد كانت كما أراد، حياة من العمل في صمت وجدية. ولهذا سيظل فيصل يونس نموذجا فريدا يترك بصمات لا تمحي في كل مكان عمل فيه، وفي قلب وعقل كل إنسان عرفه واقترب منه.