كنا نعرفه قبل أن نراه. كنا نحن الطلاب اليساريون في الجامعة في سنوات السبعينيات. نحفظ ترجماته لقصائد بريخت التي تلهبنا حماسا. وكان كتابه ثورة الشعر الحديث انجيلا لذوي الموهبة الأدبية الذين يعدون أنفسهم كي يكونوا أدباء طليعيين، شكلنا له في خيالنا صورة نمطية لأستاذ متمرد, طويل الشعر, مكفهر الوجه عالي الصوت. ولكن حين التقينا بالدكتور عبد الغفار مكاوي استاذا لمادة الفلسفة الحديثة وجدنا رجلا أنيقا مهذبا خفيض الصوت. ورغم هذه الرقة البادية, كان شديد الاقتضاء من طلابه, فقد حدثنا عما سندرسه من موضوعات ولكنه لم يقرر علينا كتابا. وكانت هذه هي المرة الأولي التي ندرس فيها مادة بغير كتاب مقرر. حدثنا عن كتب كثيرة كنا نقرؤها فنجد القليل من محتوياتها يتعرض بصورة مباشرة لما سنمتحن فيه, والكثير كان, من وجهة نظرنا, بعيدا عن الموضوع. والآن حين ننظر في تأمل لسنواتنا التي مرت نجد أن تكويننا الفكري يدين بشكل أكبر لتلك الموضوعات التي قرأناها عرضا, والتي وضعها الاستاذ في طريقنا حينما لم يقرر علينا كتابا. كان الاستاذ كثيرا ما يطلب منا الحوار والمشاركة, ولكن جهلنا كان يعوقنا حتي عن طرح اسئلة تكون ذات صلة بالموضوع ويكون لها معني. كان الأستاذ يحاضر لنا في المدرج عن هيجل. وكان يحدثنا بصورة تحمل تقديرا لهيجل ودوره المهم في تاريخ الفلسفة. وطلبت الكلام من موقعي واذن لي الأستاذ, فألقيت بعض انتقادات لهيجل كنت قد قرأتها في كتب التبسيط الماركسية. فقال لي الأستاذ: واضح أنك مهتم بهيجل. الاسبوع القادم سوف أترك لك موقعي هذا لمدة نصف ساعة كي تلقي علي زملائك محاضرة عن هيجل. وجدت نفسي في ورطة كبري, فلم يكن لي رصيد في معرفة فلسفة هيجل سوي تلك السطور التي نطقت بها, فمن أين لي أن ألقي محاضرة عن هيجل. لازمت المكتبة طيلة هذا الأسبوع لأقرأ ما ترجم من أعمال هيجل وما كتب عنه. وصار الأمر تقليدا بعد ذلك, واتيح لطلاب آخرين أن يحاضروننا عن فلاسفة آخرين. كان صوت الأستاذ هادئا, يبدو متأملا أكثر منه محاضرا, ولكن خلف هذا الهدوء كان يعرضنا لأشد أنواع القلق والحيرة. لم يكن الاستاذ يميل إلي أن يلقي في وجوهنا بآراء صادمة, ولكنه كان يدفعنا دائما إلي مراجعة كل ما استقرت عليه عقولنا وإلي وضعه موضع المساءلة. ولم يكن في ذهننا ما هو اكثر استقرارا من موضوع الشك المنهجي عند ديكارت والذي حفظناه عن ظهر قلب منذ الثانوية العامة. ويتساءل الاستاذ, كيف يمكن للشك أن يكون منهجيا أو مؤقتا. إن الشك أزمة وجودية تفرض نفسها علي الإنسان ولاتتم باختياره, لا يخضع الشك لسيطرة الارادة ولا يكون مجرد مرحلة في برنامج ذهني. ثم ألا نطلق علي ديكارت مؤسس العقلانية الحديثة بعبارته المشهورة' أنا أفكر إذن أنا موجود'.ولكن كيف جاءه الحدس بهذه الحقيقة؟ ألم يكن أمام مدفأته بين النوم واليقظة؟ أكان لابد للوعي أن يغفو حتي نكتشف أهمية العقل؟ هكذا كان علينا إعادة قراءة ديكارت, وإذا بنفس الكلمات ونفس السطور التي كنا قد قرأناها من قبل تكتسب معني جديدا, ويتحول كتاب المقال عن المنهج إلي عمل أدبي درامي يشارك القارئ فيه ديكارت في أزمته الوجودية. هنا يعمل الاستاذ علي زعزعة كل صور اليقين الزائف التي تملأ عقولنا, وتلك الأحكام اليقينة التي نطمئن إليها فتعفينا من التفكير. باختصار يعمل علي إرباكنا. ويعتبر الدكتور مكاوي في كتابه الصادر فيما بعد' لم الفلسفة؟' أن الإرباك هو الدور الأساسي للفلسفة. وهو دور عظيم لأنه هو السبيل لتخليص العقل من التعصب العقائدي والوصول إلي الحكمة الحقيقية. لم يكن لدي الدكتور مكاوي مذهبا فلسفيا معينا يدعونا إليه. وكنا قد درسنا بالفعل علي أساتذة كبار يدعون لمذاهب وجودية أو برجماتية أو وضعية منطقية أو ماركسية. أما مع الدكتور مكاوي كان الأمر يختلف, فهو يصعب تصنيفه داخل مذهب معين, ولم يكن لديه أحكام يروجها لنا, ولا مذاهب ينفر منها ويوصينا بالابتعاد عنها. لقد كانت غايته الأساسية هو أن يوفر لنا الشروط التي تجعلنا نفكر بأنفسنا; أن نصبح أفرادا مستقلي العقل والإرادة, أي أن نكون أحرارا وبالتالي نكون مسئولين, لا نلقي بتبعة أفكارنا علي هذا الشيخ أو ذاك الامام. وبذلك كان يقوم ببراعة بدوره التنويري بالمعني الكانطي, حيث إن كانط في مقاله ما هو التنوير أنتهي إلي اعتبار أن هدف التنوير هو أن يكون الفرد قادرا علي أن يفكر بنفسه. كنا في سعينا الحثيث للحصول علي أعلي الدرجات بحسب النظام التعليمي الذي كنا أسري له, نحاول أن نسوق في أوراق الاجابة من الأراء ما يرضي الأساتذة المصححين, حتي وإن لم نكن مقتنعين بها. أما مع الدكتور مكاوي فلم نستطع التوصل لآراء معينة كفيلة بأن تجعله يرضي عنا ويمنحنا أعلي الدرجات, ولهذا كان كل منا يكتب الرأي الذي يراه صحيحا ويدافع عنه بحجج عقلية, أي باختصار كنا نجاوب ونحن نشعر أننا أحرار ولدينا الجرأة والقدرة علي أن تكون لنا رؤيتنا الشخصية. وبدا لنا بعد التجربة أن هذا بالضبط هو ما كان يرضيه. تعلمنا مع الاستاذ في كتبه ومحاضراته أن نتعامل مع الفلسفة بطريقة جديدة. فقد كنا قد تعودنا, حينما يتعلق الأمر بعرض مذهب فلسفي معين, أن نعرض أولا الفلاسفة السابقين عليه والذي تأثر بهم الفيلسوف أو مهدوا له الأرض. وبعد ذلك نعرض لمذهب الفيلسوف ثم نتحدث عن الفلاسفة الذين جاءوا بعده وتأثروا به. وهي طريقة تتبع النموذج الخطي حيث يسير الفكر في خط مرسوم متسلسل زمنيا, ويكون فيه الفلاسفة السابقون سجناء في مستقبلهم والفلاسفة اللاحقون أسري لماضيهم. أما مع الدكتور مكاوي فقد كنا نلاحظ أن الفلاسفة يردون في تناوله دون مراعاة للتسلسل الزمني ودون صلة مباشرة بالموضوع, وتتجاور أسماء فلاسفة لا توجد بينها صلات قرابة واضحة لأن الصلة يقيمها الباحث نفسه. تتحول الفلسفة مع الاستاذ من ممر ضيق نسير فيه مجبرين إلي حديقة غناء ندخل إليها ثم نتجه فيها يمينا أو يسارا كما يروق لنا. وهكذا, من فكرة لدي فيلسوف معين, يمكننا أن ننطلق في جميع الاتجاهات. وهنا يتبع العرض نموذج الشبكة وليس الخط, كما هو الحال أمام شاشة الحاسوب, يمكنك من خلال مجموعة من الروابط أن تواصل الخروج من فكر الفيلسوف وتعود إليه. بهذه الطريقة تعلمنا الفلسفة من أستاذنا. ثم قام بالتنظير لها بعد ذلك الفيلسوف الفرنسي جيل ديلوز. فهذه الطريقة هي الأنسب, من وجهة نظر جيل ديلوز, للحفاظ علي حيوية الفلسفة. فالطريقة التقليدية تحول مذهب الفيلسوف إلي جثة هامدة ويتحول الشرح إلي تشريح لها. إن مذاهب الفلاسفة العظام هي في نظر ديلوز بمثابة مدافع ثقيلة يصعب تحريكها, ومهمة مؤرخ الفلسفة عبر منهجية الشبكة هو صهرها وتحويلها إلي أسلحة صغيرة تصلح لحرب الشوارع. وكان أهم مايميز الفلسفة عند الأستاذ هو هذا المزج البديع والمبدع بين الفلسفة والأدب, سواء في استدعاء الأعمال الأدبية الكبري للمساهمة في توضيح الموضوع الفلسفي, أو في أسلوب التعبير الأدبي في الكتابة الفلسفية. وفي منتصف السبيعينيات كان الدكتور فؤاد زكريا قد وجه علي صفحات الجرائد نقدا لعصر عبد الناصر, وانبري للرد عليه كثير من المثقفين اليساريين والناصريين. فذكروه بالرثاء الذي كتبه عقب الموت المفاجئ للرئيس عبد الناصر في افتتاحية مجلة الفكر المعاصر التي كان يرأس تحريرها. وهو ما يعني اتهامه ضمنا إما بالجبن أو بالنفاق أو بالتناقض. ورد الدكتور فؤاد زكريا مستغربا كيف لم يستطع هؤلاء المثقفون التمييز بين لغته الجافة واللغة الشاعرية للدكتور عبد الغفار مكاوي كاتب الرثاء. وحينها سألت الدكتور مكاوي إذا كان هو كاتب الافتتاحية, فقال: نعم, ولكنني ماذا قلت؟ لقد قلت أن هؤلاء الملايين من الفقراء الذين خرجوا وراءك ليبكونك هم من زرعت في نفوسهم الأمل ولكنهم لم يحصلوا علي شيء. درس جديد نتعلمه من أستاذنا في أن رقة العبارة لا تتعارض مع راديكالية النقد, وأن النقد لا يحتاج بالضرورة إلي العبارات الغليظة. لقد اتاحت لي الظروف أن اقترب أكثر من الاستاذ عندما أصبحت طالبا في قسم الامتياز المخصص للطلاب المتفوقين, وكنا إثنين. ذهبت إليه أنا وزميلتي لنطلب منه أن يدرس لنا مادة الفكر الشرقي, فوافق ودرسنا معه ترجمته الرائعة لكتاب الطريق والفضيلة للحكيم الصيني القديم لاو تسو. وهوكتاب مكون من قصائد صغيرة, تقول إحداها: هذا الذي ترونه يمر من تحت أقواس النصر وتهتف له الجماهير ليس هو البطل لقد انجز البطل عمله وذهب تحت جنح الظلام إلي النهر وأخذ قاربا وعبر إلي الضفة الأخري... واختفي في الغابة. هذا القصيدة تجسد لنا في آن عقيدة الدكتور مكاوي وشخصيته, فهو ينفر من الضجيج, ويري كما يري نيتشه أن العمل يصبح أكثر ابتذالا وأقل تأثيرا حينما يشيع بين العامة. وهذا الاقتضاء من الذات والترفع عن الشهرة الزائفة هو تحقيق لفكرة هيدجر التي طالما حدثنا عنها الاستاذ بشغف وهي فكرة الوجود الأصيل, الذي يكون عبئا علي المرء فيسعي إلي الهرب منه في الثرثرة والغرق في تفاهات الحياة اليومية. كان الدكتور عبد الغفار استاذا بحق لأنه, وكما كان هيجل يقول عن سقراط, هو الفيلسوف الذي عاش فلسفته في حياته. لقد كان لدي الدكتور مكاوي, الإنسان والفكر كيان واحد.