بعد رفع سعر الخبز، مسئول سابق بالتموين يوجه رسالة قوية لرئيس الوزراء    البنك الأهلي يطلق خدمة إضافة الحوالات الواردة من الخارج لعملاء المصارف لحظيا    مؤيدون لفلسطين يرشقون الشرطة الألمانية بالحجارة خلال تظاهرة في برلين (فيديو)    ناد أمريكي يغازل راموس ب 12 مليون يورو    بداءً من اليوم، فتح باب التظلمات على نتائج الشهادة الإعدادية بالوادي الجديد    تحرير 13 محضرًا تموينيًا في بلطيم بكفر الشيخ    القليوبية تنهى استعدادات امتحانات الشهادة الثانوية الأزهرية    اليوم، ياسمين رئيس تحتفل بزفافها على رجل الأعمال أحمد عبد العزيز    بوليتيكو: الاتحاد الأوروبي يعتزم "معاقبة" رئيس الوزراء المجري بسبب أوكرانيا    إغلاق 3 مراكز دروس خصوصية في الإسكندرية.. والحي يصادر الشاشات والتكييف- صور    أمين الفتوى: من يذبح الأضاحي في الشوارع ملعون    581 طالبا بكلية التمريض جامعة الإسماعيلية الجديدة الأهلية يؤدون امتحان مقرر أمراض الباطنة    السيسي يصدر قرارين جمهوريين جديدين اليوم.. تفاصيل    الإمارات تدعو لضرورة إيجاد أفق لسلام عادل وشامل فى منطقة الشرق الأوسط    كوريا الشمالية تُطلق وابلا من الصواريخ البالستية القصيرة المدى    إعلام إسرائيلي: 10% من المطلوبين للخدمة العسكرية يدّعون الإصابة بأمراض عقلية    لافروف: اتفاق زيادة التعاون الدفاعى مع الصين ليس موجها ضد أى دول أخرى    نقابة الأطباء البيطريين: لا مساس بإعانات الأعضاء    كهربا: أنا أفضل من مرموش وتريزيجيه    شوقي غريب: رمضان صبحي يستحق المساندة في الأزمة الحالية    اليوم.. النطق بالحكم على حسين الشحات في واقعة محمد الشيبي    أسعار الذهب فى مصر اليوم الخميس 30 مايو 2024    استقرار أسعار الحديد في مصر بداية تعاملات اليوم الخميس 30 مايو 2024    17.5 مليار جنيه إجمالي إيرادات المصرية للاتصالات خلال الربع الأول من 2024    المدارس تواصل تسليم طلاب الثانوية العامة 2024 أرقام الجلوس    «بسبب صورة على الهاتف».. فتاة تقفز من الطابق الثامن بالمرج    وفاه إحدى السيدتين ضحايا حادث تصادم الفنان عباس أبو الحسن    الاستماع لأقوال شهود عيان لكشف ملابسات مصرع طفل فى العياط    التأخيرات المتوقعة لبعض القطارات اليوم بالسكة الحديد    اليوم.. حفل افتتاح الدورة 24 من مهرجان روتردام للفيلم العربي    حظك اليوم وتوقعات الأبراج 30 مايو 2024: مكاسب مالية ل«الأسد» وأخبار سارة ل«الحمل»    مصر تُشارك في الاجتماع الأول للمؤسسة الأفريقية للتعلم مدى الحياة في المغرب    «المستقلين الجدد»: تكريم «القاهرة الإخبارية» يؤكد جدارتها وتميّزها    إندونيسى يكتشف زواجه من رجل بعد زفافه ب12 يوما وقصة حب لمدة عام.. صور    جامعة القاهرة تكرم 36 عالمًا بجوائز التميز لعام 2023    نائب وزير الإسكان يستقبل رئيس الاتحاد الأفريقي لمقاولي التشييد ومسؤولي «مشروعات الإسكان» بليبيا    اعرف شروط ومواصفات الأضحية السليمة من أكبر سوق مواشى بسوهاج    الناس اللى بتضحى بجمل.. اعرف المواصفات والعمر المناسب للأضحية.. فيديو    «الصحة»: افتتاح وتطوير 20 قسما للعلاج الطبيعي في المستشفيات والوحدات الطبية    نصائح هامة عند شراء النظارات الشمسية في فصل الصيف    4 حالات اختناق وسط جحيم مخزن بلاستيك بالبدرشين (صور)    مسؤولون باكستانيون: حرس الحدود الإيراني يطلق النار ويقتل 4 باكستانيين جنوب غربي البلاد    أحمد خالد صالح ينضم لفيلم الست مع مني زكي: دوري مفاجأة للجمهور    سعر الذهب يواصل انخفاضه عالميا.. ماذا ينتظر المعدن الأصفر في الأشهر المقبلة؟    عاجل:- قوات الاحتلال تقتحم مدن الضفة الغربية    علاج أول مريض سكري باستخدام الخلايا في سابقة فريدة علميا    السل الرئوي.. الأعراض والمخاطر والعلاج والوقاية    خالد أبو بكر يهاجم "المحافظين": "التشكيك بموقف مصر لو اتساب هتبقى زيطة"    هل تجوز الصدقة على الخالة؟ محمد الجندي يجيب    خالد مرتجي: إمام عاشور من أفضل صفقات الأهلي    تريزيجيه يتحدث عن مصيره بعد اعتزال كرة القدم    ميدو يطالب مجلس إدارة الزمالك بالرد على بيان بيراميدز    بيبو: التجديد ل معلول؟ كل مسؤولي الأهلي في إجازة    وزير الصحة يبحث مع سكرتير الدولة الروسي تعزيز التعاون في مجال تصنيع الدواء والمعدات الطبية    مع زيادة سعر الرغيف 4 أضعاف .. مواطنون: لصوص الانقلاب خلوا أكل العيش مر    أحمد عبد العزيز يكتب // الإدارة ب"العَكْنَنَة"!    بعد مراسم مماثلة ل"عبدالله رمضان" .. جنازة شعبية لشهيد رفح إسلام عبدالرزاق رغم نفي المتحدث العسكري    الإفتاء توضح حكم التأخر في توزيع التركة بخلاف رغبة بعض الورثة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بحب الراديو
نشر في أخبار الأدب يوم 28 - 07 - 2018

في صيف عام 1959 دخل أول راديو إلي قريتي أحضره أبي من لبنان عندما كان يسافر إلي هناك. كان راديو كبير يعمل ببطارية كبيرة توضع بجواره وفيما بعد استبدلت البطارية بصفين من البطاريات الجافة كل صف مكون من أربع حجارة ضخمة. رغم أن أبي خصص رفا في أحد جدران البيت الطيني ليضع عليه الراديو إلا أنه لم يستقر الراديو علي هذا المكان إلا بعد سنوات من دخوله القرية إذ تحول الراديو لملكية عامة يجتمع عليه رجال النجع في الملقة قدام البيوت لاستماع قرآن السهرة وبعده نشرة الأخبار وما تيسر من برامج وأغنيات.
مساء السبت من كل أسبوع يتزايد عدد الذين يشكلون حلقة الراديو. قرآن سهرة السبت من كل أسبوع بصوت عبدالباسط عبدالصمد. يجلس الجميع بإجلال لكلام الله وجمال التلاوة. أحيانا تتوحد أصواتهم ب الله طربا بجمال المعني وحلاوة الصوت.نصف ساعة من الاصغاء يليها رشفات من الشاي الذي أعدته أمي باعتبارها السيدة المضيفة. قبيل غروب الشمس ترص الأكواب النظيفة البراقة فوق الصينية اللامعة التي يحملها أبي علي كفه المفرودة وفي اليد الأخري يحمل البراد الكبير. كطيف يتحرك متجاوزا حلقة نسوة النجع قبل أن يدخل إلي دائرة الضوء التي يحتلها الرجال والتي صنعها نور الكلوب المعلق في جذع شجرة الدوم التي تتوسط هي وفسائل متفرعة عنها ساحة النجع. يضع البراد والصينية علي الأرض الترابية ينتظر بعد انتهاء القرآن ليتخفف الجلوس من قعدتهم المنتصبة الوقورة ويصب الشاي ويناول الأكواب. بعد انتهاء التلاوة يتكئ بعض الجلوس علي كوعه المغروس في رمل الأرض ويواجه بوجهه رفاقا شكلوا حلقة صغيرة وينشغلون فيما بينهم من حكايات. وفريق آخر ينشغل بترميم عيون السيجة المهجورة منذ الضحي أو العصاري. تنتهي اللعبة بهزيمة أحد العجوزين واستكانة الكلاب علي مشارف عيون السيجة التي تهدمت قليلا. بمجرد جمع الكلاب ورصها في العيون تستعيد نفوذها ومجدها داخل ساحة اللعب وتعاود المطاردة وملاحقة كلاب الخصم. بينما الراديو يبث نشرة الأخبار ثم أغاني السهرة.
أعمار الجالسين في حلقة الراديو ونوعية إهتمامهم تتغير تغيرا طفيفا حسب ما يبثه الراديو. مستمعي قرآن السهرة يختلفون قليلا عن مستمعي حفلات أم كلثوم رغم أن أكثر الحلقات إتساعا وشمولا لنوعيات وأعمار مختلفة كانت لسماع عبدالباسط عبدالصمد وحفلات أم كلثوم وعبد الناصر وخطبه الحماسية.
استفاد كثيرون من وجود الراديو منهم أصغر أعمامي من الدرجة الأولي وأصغر أعمامي من الدرجة الثانية. أولاد العم الصديقان اللذان اعتادا التعلق بعيدان قصب السكر التي يحملها قطار القصب من حقول القرية لمصنع السكر بمدينة كوم أمبو. قطار القصب وسيلة نقل غير مكلفة لمن يملك روح المغامرة فقط عليه أن يحفظ توازنه وهو يتعلق بالعيدان ويتسلق جوانب العربة ويحتفظ بتوازنه أيضا وهو فوق حزم العيدان أعلي العربة التي يجرها مع عربات أخري جرار لا يلتفت سائقه. كان أولاد العم الصديقين يذهبان إلي مدينة كوم أمبو لمشاهدة فيلم كوميدي ل إسماعيل يس أو استعراضي ل نعيمة عاكف.أفلام عرضت منذ سنوات في سينمات القاهرة ومازالت تعرضها سينما المحطة حتي تصل أفلام أخري أحدث.
في خميس حفل الست كان الإستعداد مختلفا تأخر وقت الحفل وتوقف قطار القصب في هذا الوقت عن النقل يجعلهم يسرجون حميرهم ويخرجون من القرية بعدما ينضم إليهم آخرون من قري مجاورة وفي أعمار مختلفة تسير قافلة الحمير محاذية قضبان قطار القصب حتي تصل إلي مدينة كوم أمبو.علي مقاعد المقهي القريب من سينما المدينة يتوزعون. يطلبون مشاريبهم وينتظرون بدء المقطوعة الموسيقية الجديدة التي ستغني عليها الست أغنيتها الجديدة.
فيما بعد انتقل العمان برفاقهم لجلسة الراديو وصارت لهم حلقة في الملقة* يلتفون حول مركزها ليتغنوا بأغنيات الست ومن بين حلقتهم خرج المغرمون بفريد الأطرش وعبدالحليم وانبهارهم بعاشقاته وقصات شعره وموديلات ملابسه. كانت صوره في المجلات التي تصل القرية مع أحد المقيمين بعيدا هناك في العاصمة تتناقل بينهم وانتشرت موضة عبدالحليم بين شباب المدارس. وصار لهم نصيب في ما يبثه الراديو وتزايد عددهم في حلقة الراديو في أوقات حفلات أضواء المدينة التي كان يحييها.
علي هامش الحلقة التي يتوسطها الراديو تجلس نساء النجع في حلقة قريبة يتابعن ما يبثه الراديو وينشغلن بحكاياتهن حين تبدأ نشرات الاخبار. اهتمام حلقة النساء كان يتزايد قبيل شهر رمضان لمتابعة إعلان ثبوت رؤية هلال الشهر الفضيل وصوت عبد المطلب يتهادي »رمضان جانا»‬ نفس جمهور هذه الحلقة ينتظر في نهاية الشهرالكريم صوت أم كلثوم ينشر البهجة في »‬يا ليلة العيد» بينما تنبعث من مركز حلقة النساء رائحة الحنة والخًمْرة والدلكة التي تستعد بها النساء لاستقبال العيد ما ان يبدأ صوت أم كلثوم حتي تتفتت حلقتهن ويتركن المكان لصيحات فرحة من بعض الأطفال الذين راوغوا النوم وجلسوا في ساحة الكبار انتظارا لفرحة العيد. خلف أبواب البيوت الصغيرة تخرج النساء حُصر السعف المصبوغ ويفرشنها علي أسرة الجريد وعلي الأرض ليجلس عليه المهنئون بالعيد صباحا. يخرجن الحصر المركونة بحذر شديد خوفا من عقرب مختبئة في الحصير قد تصيب أحدا وتفسد بهجة العيد.
استعداد النساء للعيد غالبا يكون بأشياء بسيطة يبدأنها قبل العيد بيومين أو ثلاثة بخبز القراقيش المعجونة بخميرة اللبن والتي لا تنجح في تجهيزها إلا نسوة عديدات في النجع يكلفن مقدما بإعدادها لتطوف الخميرة علي جميع بيوت النجع. من الطاقات العلوية في جدران البيوت ومن فتحات الأسقف الجريد يتوالي صعود الدخان صانعا تشكيلات مدهشة في سماء النجع تتداخل واصوات فؤاد المهندس وشويكار واعادة لحلقة الأمس من مسلسلهما الرمضاني. في المساء وحين يبث الراديو أغنية أم كلثوم »‬يا ليلة العيد» يختمن مهامهن ويغمرن أجسادهن بعجينة الحنة لتكتسب سًمرتهن المتدرجة لونا نضراً ورائحة طيبة.
قبل الراديو كان رجال من القرية ينتظرون علي حافة النيل حيث تمر عليهم مركب الحكومة كما يسميها الأجداد والتي تعلن ثبوت رؤية هلال رمضان وكذلك شوال أو أن اليوم هو المتمم للشهر. اعلانها كان بأن تضرب طلقاتها في الهواء وهي مبحرة في النهر معلنة الخبر لكل القري البعيدة والواقعة علي حافته. قريتي هناك أقصي الجنوب غالبا يتأخر وصول المركب لمنتصف النهار أو أواخره ، فينتظرها الجميع وهم صائمون حتي إعلان أن اليوم هو المتمم لشهر شعبان لينطلق الجميع صائحين بصوت جماعي »‬بكرة صيام» ليفطر الجميع وينتظروا الغد لبدء أول أيام شهر رمضان. في نهاية الشهر الكريم ينتظر الناس مرة أخري ليعلن ان اليوم هو العيد.
كم من متممات لشعبان صامها أهلي وكم من أعياد تآكل يومها المبهج وهم في انتظار ثبوت رؤية هلال شوال القادم من الشمال البعيد.

في ساحة الراديو هذه تابع الحضور إنجازات عبدالناصر وأخبار زياراته لأسوان لمتابعة مشروع السد العالي. جدي ذهب بصحبة عدد من الجيران إلي مدينة كوم أمبو واستقلوا القطار المتجه إلي مدينة أسوان في محطة أسوان انتظروا مع الجموع الكثيرة وصول الزعيم لمرافقته إلي موقع العمل بالسد العالي. حتي قبيل وفاته كان جدي يحتفظ بالجريدة التي نشرت الصورة التي يطل فيها وجهه خلف عبدالناصر. وجه أسمر وابتسامة فرحة مبتهجة وجلباب صعيدي بأكمام واسعة وشاش كبير يعلو رأسه. نجح جدي في شق طريقه وسط جموع البشر ليفوز بصورة خلف الزعيم،صورة نشرتها جميع الصحف بجوار صور الفنانين الذين رافقوا الرئيس لإحياء حفلات الترفيه عن العاملين في المشروع. كانت الصورة مثار فخر جدي والعائلة وسببا لشجار كوميدي بين جدي وجاره وهما يجلسان علي جانبين متقابلين من مربعات السيجة بينما يلاحق الواحد منهما كلاب الآخر. فيما يزهو جدي بصورته المنشورة خلف الزعيم يرمي الجار جدي بتهمة التخلي عن رفيقه مع أول فرصة تسنح له للفوز بقرب الزعيم. لفترة ليست بعيدة كانت الصورة مثار فخر العائلة.
حكايات السد العالي كانت حاضرة بقوة في أجواء القرية وفي حلقة الراديو التي تفرعت منها حلقات عديدة متجاورة ومتقاطعة من بدء المشروع وحتي افتتاحه وبعده بسنوات كان للمدرسة الابتدائية في القرية نشيد وطني خلاف نشيد بلادي بلادي يتغني بأمجاد السد وما أحدثه من تطور في أسوان.
التحق كثير من افراد القرية بالعمل في السد العالي أكثرهم كان متخصص في تفجير الجبل بالديناميت. كثير منهم لقي حتفه وقليل الذي نجحت فرق الإنقاذ في إسعافهم وإنقاذ أرواحهم وتعويضهم عن الأجزاء المبتورة من أجسامهم بمعاشات مجزية.
ومثلما تابع الجميع خطب ناصر افاقوا علي انباء النكسة وانكسار صوت مذيعي الراديو وأصوات قطار السويس وأنين الجرحي والمصابين من الجنود والمدنيين. مناشدات المواطنين التبرع بالدم أو العمل بالتمريض. وسراًكان يتابع البعض منهم حين يدخل أبي بالراديو إلي البيت صوت مذيعي اذاعة اسرائيل الموجهة للعرب والذين تخصص بعضهم لفضح عبدالناصروكشف انجازاته الوهمية كما يقول.
حكت أمي أنه في هذه الساحة تجمع سكان النجع وغطوا صندوقهم بالأسود الحالك وشيعوا جنازة عبدالناصر مثلهم مثل جموع شعب مصر. بينما كان الراديو يبدل بين صوت القرآن الكريم وبكاء وصراخ وعويل المواطنين لفقد الزعيم.
هي نفس الساحة التي بثت خبر النصر ونبأ العبور العظيم ففرح الذين ذهب أولادهم إلي الجبهة منذ سنوات ولم يعودوا منها بسبب النكسة. صار الجميع يستمع لنشرات الأخبار ويتابع لعل الغائب يعودوالفرح يعم، انتظار يملؤه صوت شريفة فاضل حماسا وهي تهتف »‬أنا أم البطل».
بعد سنوات تفرعت من ساحة الراديو ساحات أخري شغلت نجوع القرية لكل حلقة محطة اذاعية تظبط مؤشرالراديو عندها. من البرنامج العام لصوت العرب حتي المحطة الشابة اذاعة الشرق الأوسط. تقريبا توحدت أصوات جميع الحلقات لمتابعة عبدالرحمن الأبنودي وهو يحكي بلهجته الصعيدية الصريحة عن عزيزة ويونس ومرعي ثم يترك الميكروفون ويقول »‬قول يا عم جابر» ليحرك جابر أبو حسين ربابته ويروي سيرة بني هلال.

بعد موت أبي غادر الراديو ساحة النجع وارتكن إلي رف معلق علي حائط بيتنا الطيني. في سنوات حزنها علي أبي لم يفتح الراديو مطلقا وفيما بعد اكتفت امي بسماع قرآن السادسة صباحا والثامنة والنصف مساء. تدريجيا تحول الراديو لعالم أمي الخاص الذي يبطن جدران بيتنا الصغير المحشور بين بيوت الأعمام. مع قرآن السادسة صباحا يبدأ يومها توقظنا وتحثنا لنسرع بارتداء زي المدرسة ثم تضفر شعرنا الطويل في ضفائر تعقد كل واحدة منها بفيونكة يطيرها الهواء بينما نحمل كتب المدرسة وبينما نخرج من البيت كانت تجلس خلف ماجور العجين وتنهمك في تقليب عجينها وتقطيع أرغفتها في شمس الشتاء الواهنة وفي الوقت الذي تدعو فيه نجاح سلام لحبيبها بالسلامة كانت تنهمر علي ساحة بيتنا أصوات الاذاعة المدرسية وصوتي يقدم نشرة الصباح التي جمعت أخبارها من نشرة الخامسة عصرا والثامنة والنصف مساء واستيقظت مبكرا برفقة أمي نقلب محطات الراديو لنجمع أخبارا أخري طازجة.
صارت برامج الراديو هي مواقيت أمي ينتظم عليها ايقاع حياتها وبرنامجها اليومي. مع صوت فؤاد المهندس يلقي كلمتين وبس كانت تضع الوقيد أمام الفرن وتنقل الأرغفة من تحت الشمس إلي غرفة الفرن تمهيدا لرصها داخله. صار صوت صفية المهندس وهي تنصح ربات البيوت وتحكي لهن مثل دقات ساعة جامعة القاهرة. لو تأخرت أرغفتها عن الاختمار حتي سماع صوت صفية المهندس فلابد أن الخميرة ليست بخير أو أن الشمس استسلمت لهجوم السحب المنذرة بمطر وشيك. في الأوقات العادية قبل أن تبدأ فقرة عيلة مرزوق التي تتابعها تكون جالسة أمام فم الفرن تبدل مواضع الأرغفة ليأخذ كل نصيبه من النار. مع صوت أبلة فضيلة الناعم يحكي حدوتة اليوم كانت الأرغفة تخرج من الفرن علي أطباق الخوص. في أيام المدارس وقبيل النوم كانت تحكي لنا حدوتة أبلة فضيلة التي أذيعت صباحا وقت وجودنا في المدرسة.
علاقة أمي بالراديو كانت تزداد عمقا يوما بعد يوم حتي صار صوت الراديو مع صوت ماكينة الخياطة التي تجلس خلفها بعد انتهاء اعمال البيت لتصنع فساتين بنات النجع الموسيقي التصويرية لمسيرة حياتها.
في البداية كنت أندهش من علاقة أمي بالراديو وارتباطها به حتي أن ما تتابعه من برامج وتمثيليات أصبح يحدد حالتها المزاجية. ويهدئ كثيرا من توترها الذي كثيرا ما يظهر وهي تدفع القماش تحت سن الإبرة أو أنفعالها غير المبرر تجاه بعض افعالنا الصغيرة. لكن بعدما توطدت علاقتي بالراديو وصار ملازما ليومي ادركت انه يطور خيالها الذي ترسم به مسيرة حياتنا المغايرة عن حياة سكان النجع.
عكس نساء قريتي اللاتي حرصن علي وجود المسجل في بيوتهن في نهاية السبعينات وأوائل الثمانينات لم تفكر أمي في شراء مسجل.ارتبط المسجل لديها بذوق شعبي للعمال الذين سافروا إلي الخليج في فترة الانفتاح. كان اول ما يشتري الواحد منهم مسجل ليسمع أهله صوته المسجل علي شريط يرسله مع صديق له سبقه بالإجازة. ويسجل عليه الأهل رسالة لأبنهم المسافر ويرسلونها بنفس الطريقة وربما مع ذات الصديق. خلاف ذلك فقد كان المسجل وسيلة لسماع موال شفيقة ومتولي وأغاني عدوية ومطرب الكف الذي بدأ صيته في الذيوع رشاد عبدالعال.
كما صار المسجل تعبيرا عن طبقة اجتماعية جديدة يتباهي بعض افراد قريتي بالانتماء إليها ويتجلي هذا التباهي في الحرص علي التقاط صور تذكارية مع المسجل صور يظهر فيها الرجل مستندا بذراعه علي حافة المسجل الكبير ببابيه وكأنه مسنود علي عزوة من قبيلة ذات نفوذ! وقد يحمله علي رجليه كطفله المدلل بينما هو جالس ينظر للكاميرا وينبه المصور ان يضبط الكادر ليظهر المسجل كما أراد. وبالغت إحدي نساء قريتي في التباهي فوضعت المسجل في جراب وعلقته ك شنطة اليد في كتفها وكانت تجوب به طرقات القرية وتقضي به كافة مشاويرها ناقلة ربابة الريس متقال لتسمع القرية »‬الفراولة بتاع الفراولة» وصولا ل »‬ميل واسقيني يا واد عمي»!!
في ساحة النجع تفتح بيوت الأعمام وتنهمرعلي الملقة الأصوات المختلفة من مسجلات البيوت. خفت صوت الراديو مع انتشاراشرطة الكاسيت. وجود المسجل في بيوت القرية جميعها ساعد في انتشار أشرطة الريس متقال والريس حفني وعدوية ومطرب الكف الجديد رشاد عبدالعال. رشاد عبدالعال ابن القرية الذي فتح الله عليه من صبي يغني في تجمع الناس في مقامات الأولياء ليكون مطلوبا لإحياء افراح القرية وقري عديدة واستطاع بفضل موهبته الفطرية أن يطور فن الكف حتي صارت أشرطة الليالي التي يحييها تنافس أشرطة عدوية ومتقال وغيرهم من نجوم ذلك الزمن.
ساحة نجعنا التي كان صوت راديو أبي يملأ فضاءها موسعا المكان لخيال خصيب يشكل عوالم أخري بعيدة عن محدودية جغرافيا المكان صارت الساحة حلبة لصراع أصوات عديدة متنافرة.
زوجة عمي المغرمة برشاد عبدالعال قبل زواجها مثل بنات القرية كانت ترقص في ساحة الكف. صباحا كانت العايقة تشغل المسجل علي إيقاع هادئ لصوت الطبلة والعود ثم تنغيم رشاد عبدالعال. تضع شال القطيفة الصفراء علي رأسها لينسدل مخفيا نصف جسمها العلوي بما فيها الوجه. تتمايل علي تنغيم رشاد تقترب بخطوتها الراقصة من صف الشباب حتي تحفزهم ليرتجلوا مقطعا غنائيا يرتجل عليه رشاد عبدالعال أغنيته التي تثير الشباب ليقتربوا بخطوتهم الراقصة منها فتتراجع بظهرها جاذبة إياهم ناحيتها. يغلب الوجد زوجة عمي العايقة فتلف حتي يصبح الشال الموضوع فوق رأسها كخيمة طيرها الهواء دون أن ينتزعها من مكانها. ترقص العايقة في غرفتها الرطبة بأرضيتها المرشوشة بالماء وسقفها الجريد وتتحدث كمن شارك في حدث مصيري عندما تكون قد سمعت الأغنية المسجلة في أحد أعراس القرية وربما كانت الراقصة التي ألهمت المطرب ليواصل ارتجاله المدهش.
العايقة مغرمة برشاد عبدالعال في حين كانت الجدة من عشاق الريس حفني وموال متولي الجرجاوي والريس متقال بينما ظلت أمي مخلصة للراديو حتي مع انتشار الكاسيت لم تهتز مكانته. يزعجها أصوات مسجلات النجع غير أنها كانت تشفق علي من تبدأ يومها بالمسجل وتظل مقطوعة الصلة بالعالم. تنشغل بالراديو بينما صوت ماكينة الخياطة عازلا بين فضاء بيتها وعالمها وفضاء النجع الذي صار مزعجا.
خسرالراديو كثيرا من جمهوره مع انتشار الكاسيت وأيضا مع دخول التليفزيون إلي القرية نهاية السبعينات وانتشاره في الثمانينات انبهر الجميع بالصور المضيئة والممثلين الذين كانوا يسمعون أصواتهم عبر الراديو وسجلت مخيلة كل واحد صورة له تتناسب وتصورهم عنه وربما كانت الصورة تتغير مع كل دور يؤديه الممثل. خسر الراديو جمهوره وخاصة فترات إعادة عرض مسلسل »‬أوراق الورد».
كنا صغارا نجري من المدرسة حتي البيت لنشاهد الحلقة المعادة التي تعرض بعد الظهر من مسلسل أوراق الورد. منبهرين بوجه وردة وهو يخرج باكيا ليشكو »‬أوراق الورد بتتألم/ أوراق الورد بتتكلم/ وبتصرخ وتقول للجاني/ اذا كنت خاصمت البستاني/ ايه ذنب الورد.» كان غالبية جمهور وردة من نساء النجع يبكين معها ازماتها ومشكلات طلاقها وتمزقها بين الابن والحبيب. في حين كان الشباب يجتمع حول عادل إمام ومغامرات »‬إبراهيم الطاير» التي لا تنتهي، كان التليفزيون يعيد عرض المسلسلين كل فترة بالاضافة لمسلسل الأيام الذي التف حوله تلاميذ المدارس وبعض الذين لا زالوا يتابعون الراديو ويتبادلون قراءة نسخة واحدة من جرائد الصباح يحضرها من المدينة واحد من الذين يذهبون للمدينة يوميا ،أحد موظفي مجلس المدينة أومصنع السكر أو تلميذ من تلاميذ المدرسة الثانوية اشتراها بناء علي رغبة أبيه او جده.
أصوات كثيرة متنافرة كانت ترتفع في سماء ساحة النجع وتكاد تخفي صوت الراديو المنبعث من بيتنا القديم الصغير المحشور بين بيوت الأعمام. ما زالت صورته في وعيي ترتبط بصوت الراديو وتكتكات ماكينة الخياطة ورائحة التراب المبلل.
أهل قريتي الذين هجروا الراديو منذ زمن عادوا اليه مرة أخري في التسعينات مع بدء بث إذاعة جنوب الصعيد الناطقة باسمهم المتحدثة بلهجتهم والتي تتبني قضاياهم وتحاور ضيوفا منهم وتذهب إلي منادرهم. وتبث اغنيات أفراحهم وتحكي حكايتهم وطقوس أيامهم ، بحث الجميع عن أجهزة الراديو المركونة منذ زمن والمعطلة وعرف البعض الآخر استخداما آخر للمسجل وحرك مؤشر الراديوالمزود به وضبطه علي موجات »‬إذاعة جنوب الصعيد من أسوان» ليسمعوا اصوات عبدالله أبو الحمد وأشرف جابر وحسن مدني بلكنتها الصعيدية التي انتبهوا أنها صالحة للتعامل اليومي وليس السخرية فقط.
اهتمام أهل قريتي بالراديو كان مؤقتا مثل اهتمامهم بقراءة قصصي عندما عرفوا أن اسمي يظهرمطبوعا في بعض الصحف سرعان ما انصرفوا عن الراديو وعن قراءة قصصي وملاحقتي باسئلتهم. فترة قصيرة تابع فيها الجميع اذاعة جنوب الصعيد وانصرفوا بعدما تعرفوا علي ذواتهم وتاريخهم والجغرافيا التي شكلتهم من خلال ما كانت تقدمه المحطة الإذاعية. انصرفوا عنها تاركين الراديو لعشاقه الحقيقين أمي وقليل جدا من ناس القرية الذين يستنكروا أن يبدا يومهم دون سماع قرآن السادسة صباحا او نشرات الأخبار بمواعيدها المنتظمة التي تربطهم بالعالم أو اغنيات تمنحهم خيال يشكل عوالمهم البعيدة هنا في القرية النائية.

في سكن الطالبات بالجامعة رافقني راديو ترانزستور كنت أضعه بجواري علي السرير مضبوطا علي محطتي المفضلة إذاعة الشرق الأوسط غير انني لا أمانع من تحريك المؤشر حين لا يتوافق ماتبثه المحطة مع حالتي وقتها.أصوات مختلفة كانت تتوالي مع تحريك المؤشر وتشكل مقطوعةغيرمنتظمة خليط غير متجانس يشبه روحي قبيل الكتابة. في رحلة البحث عن صوت يلائمني تختلط جملة موسيقية مع آية قرآنية مع خبر سياسي وأحيانا أسماء مهنئين يهدون أغنياتهم المفضلة لأصدقاء وأحبة. رحلة بحثي عن صوت يناسب حالتي يشبه تماما حيرتي وأنا افكر في جملة البدء التي سأبدأ بها قصتي الجديدة.
رفيقات الغرفة كن مغرمات باشرطة الكاسيت التي تحمل صور ميادة الحناوي وليلي غفران وأنغام وعمرو دياب.أحيانا أشاركهن الاستماع حين يكون الصوت قادراعلي تطوير الحالة ويساعدني لتحويل الشخبطات والخطوط المتشابكة التي أرسمها علي هامش الصفحة وأحولها لكلمات نص جديد.
غالبا يسكت صوت المسجل بمجرد نوم إحدي رفيقات الغرفة ويظل الراديو الذي يشاركني نفس الوسادة يبث أصواته الخافته كهمس العشاق.
منذ متي وأنا أنام علي صوت الراديو؟ ربما منذ كانت أمي تسهر علي ماكينة الخياطة وتأتنس بصوته. ربما اعتدت صوته حتي أنه صار ضروريا لتشكيل تفاصيل حياتي. في الليل اخفض صوته كثيرا حتي يصبح كهمس داخلي تتوالي البرامج والاخبار والتحليلات والأغنيات حتي الصباح. وكثيرايحدث الخلط بين ما يبثه الراديو بأصوات شخوص القصص التي أكتبها بأطياف الاحلأم التي انفتح عليها بمجرد أن أغمض عيني. علي كل صار صوت الراديو الخلفية الصوتية لأيامي. عالمي البذرة التي انبتت خيالاتي العديدة وصارت تحملني بعيدا عن تفاصيل المكان المحاصر.
لسنوات وأنا أضع الراديو بجوار رأسي أنام وأصحو علي أصواته قرآن مرة وأخبار مرة واغنيات كثيرة لأصوات عديدة أحببتها وطورت خيالي. بعد الزواج لم تعد الغرفة لي بمفردي وشاركني السرير فرد آخر غير الراديو كان علي أن اغلق الراديو المزعج!! واغلقته واغمضت عيني علي ظلام ثقيل ظل لسنوات عديدة يفصل بيني وبين شخوص القصص التي كنت أكتبها. كانت تراودني في فترات التوقف وتطل من سقف الروح وأنا اصغي لصوت الراديو الذي يشغله سائق التاكسي الذي أستقله. كثيرا ما انشغلت بمتابعة الراديو عن النزول حتي ينبهني السائق بوصولي للمكان الذي حددته! علي كل ظلت شخوص قصصي حبيسة لسنوات عديدة حتي استعدت صلتي بأصوات الراديو واستعادت حريتها مرة أخري.
الملقة : الساحة أمام البيوت


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.