نقيب المحامين يشارك الطائفة الإنجيلية الاحتفال بعيد القيامة    أسقف نجع حمادي يترأس قداس عيد القيامة بكنيسة ماريوحنا    غدا وبعد غد.. تفاصيل حصول الموظفين على أجر مضاعف وفقا للقانون    بث مباشر| البابا تواضروس يترأس قداس عيد القيامة بالكاتدرائية المرقسية    81 مليار جنيه زيادة في مخصصات الأجور بالموازنة الجديدة 2024-2025    اتحاد الغرف التجارية يكشف مفاجأة بشأن انخفاض أسعار الأسماك (فيديو)    نائب رئيس هيئة المجتمعات يتفقد أحياء الشروق ومنطقة الرابية    «القومى للأجور» يحدد ضمانات تطبيق الحد الأدنى للعاملين بالقطاع الخاص    رئيس النواب الأمريكي يقترح سحب تأشيرات الطلاب الأجانب المشاركين بالتظاهرات    حريات الصحفيين تثمّن تكريم «اليونسكو» للإعلاميين الفلسطينيين وتدين جرائم الاحتلال    سفير فلسطين في تونس: مصر تقوم بدبلوماسية فاعلة تجاه القضية الفلسطينية    سوبر هاتريك ل هالاند، مانشستر سيتي يكتسح وولفرهامبتون بخماسية في الدوري الإنجليزي    «ريناد ورهف» ابنتا المنوفية تحققان نجاحات في الجمباز.. صداقة وبطولات (فيديو)    التصريح بدفن جثة سيدة التف حولها سير ماكينة حصاد القمح بالغربية    مصرع شاب صعقاً بالكهرباء في كفر بركات بالعياط    تعرف علي موعد عيد الأضحي ووقفة عرفات 2024.. وعدد أيام الإجازة    تامر حسني يعلن إنضمام "ميكا" لفريق فيلمه الجديد ري ستارت    الكاتبة الصحفية علا الشافعي: نجيب محفوظ فتح لي مكتبه في بداية حياتي المهنية    دعاء يغفر الذنوب والكبائر.. الجأ إلى ربك بهذه الكلمات    أحمد كريمة يعلن مفاجأة بشأن وثيقة التأمين على مخاطر الطلاق    مستشار الرئيس عن مضاعفات استرازينيكا: الوضع في مصر مستقر    4 نصائح لشراء الفسيخ والرنجة الصالحة «لونها يميل للذهبي» ..قبل عيد شم النسيم    «صحة الفيوم»: قافلة طبية مجانية لمدة يومين بمركز طامية.. صرف الأدوية مجانا    خبير تغذية: السلطة بالثوم تقي من الجلطات والالتهابات    خبير اقتصادي: الدولة تستهدف التحول إلى اللامركزية بضخ استثمارات في مختلف المحافظات    خاص| زاهي حواس يكشف تفاصيل جديدة عن مشروع تبليط هرم منكاورع    السعودية تصدر بيان هام بشأن تصاريح موسم الحج للمقيمين    بالصور.. محافظ الشرقية من مطرانية فاقوس: مصر منارة للإخاء والمحبة    وكيل صحة الشرقية يتفقد طب الأسرة بالروضة في الصالحية الجديدة    أمريكا والسفاح !    وزير الشباب يفتتح الملعب القانوني بنادي الرياضات البحرية في شرم الشيخ ..صور    رسميا .. مصر تشارك بأكبر بعثة في تاريخها بأولمبياد باريس 2024    قرار عاجل بشأن المتهم بإنهاء حياة عامل دليفري المطرية |تفاصيل    السجن 10 سنوات ل 3 متهمين بالخطف والسرقة بالإكراه    5 خطوات لاستخراج شهادة الميلاد إلكترونيا    التعادل السلبي يحسم السوط الأول بين الخليج والطائي بالدوري السعودي    قرار جديد من التعليم بشأن " زي طلاب المدارس " على مستوى الجمهورية    مفاجأة- علي جمعة: عبارة "لا حياء في الدين" خاطئة.. وهذا هو الصواب    ميرال أشرف: الفوز ببطولة كأس مصر يعبر عن شخصية الأهلي    موعد ومكان عزاء الإذاعي أحمد أبو السعود    محمد يوسف ل«المصري اليوم» عن تقصير خالد بيبو: انظروا إلى كلوب    «الصحة» تعلن أماكن تواجد القوافل الطبية بالكنائس خلال احتفالات عيد القيامة بالمحافظات    بعد رحيله عن دورتموند، الوجهة المقبلة ل ماركو رويس    استعدادًا لفصل الصيف.. محافظ أسوان يوجه بالقضاء على ضعف وانقطاع المياه    ما حكم تلوين البيض في عيد شم النسيم؟.. "الإفتاء" تُجيب    رويترز: قطر قد تغلق مكتب حماس كجزء من مراجعة وساطتها بالحرب    الخارجية الروسية: تدريبات حلف الناتو تشير إلى استعداده ل "صراع محتمل" مع روسيا    أوكرانيا: ارتفاع قتلى الجيش الروسي إلى 473 ألفا و400 جندي منذ بدء العملية العسكرية    السكة الحديد تستعد لعيد الأضحى ب30 رحلة إضافية تعمل بداية من 10 يونيو    ماريان جرجس تكتب: بين العيد والحدود    القوات المسلحة تهنئ الإخوة المسيحيين بمناسبة عيد القيامة المجيد    التموين: توريد 1.5 مليون طن قمح محلي حتى الآن بنسبة 40% من المستهدف    رئيس الوزراء يتفقد عددًا من المشروعات بمدينة شرم الشيخ.. اليوم    مي سليم تروج لفيلمها الجديد «بنقدر ظروفك» مع أحمد الفيشاوي    هل بها شبهة ربا؟.. الإفتاء توضح حكم شراء سيارة بالتقسيط من البنك    برج «الحوت» تتضاعف حظوظه.. بشارات ل 5 أبراج فلكية اليوم السبت 4 مايو 2024    المطرب هيثم نبيل يكشف كواليس فيلم عيسى    هبة عبدالحفيظ تكتب: واقعة الدكتور حسام موافي.. هل "الجنيه غلب الكارنيه"؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حول فيروز:
نشر في أخبار الأدب يوم 07 - 01 - 2012

يقول بعضهم إني بين مقال وآخر لا بدّ أن أعود إلي فيروز. حقّ. محطّات وشاشات تُصبّح بفيروز فلمَ لا نُمسّي. ذاك حسن وهذا. مَن شبَّ علي حلمٍ شاب عليه. جِنّهُ أعطفُ من الأنس.
أيّ فرقٍ بين فيروز الفنّانة وفيروز الشخص؟ إنّه الفرق بين الشخص وانعكاسه في المرآة. فرقٌ كبير وفي الوقت نفسه لا يُذْكَر. الفرق بين الكمون في الذات والظهور للذات، والذات هنا، عوض المرآة، هي الجمهور.
فيروز الفنّانة العاملة ترتمي في النار قبل أن تعود إلي البيت وترتمي في الانتظار. هناك نار وهنا جمر.
حارت الأفكار في فيروز الشخص. تارةً لغز وطوراً بساطة. قد يجتمع عشرة ممّن عرفوها ويحاولون رسم ملامحها فيكتشفون أن كلّاً منهم سيضع »حقيقة« مختلفة عن «حقائق» زملائه. المغلَقة الأليفة.
المكافِحة بلا آثار جروح.
هي بشخصيّتها منذ ما قَبْل الأخوين. عمود بيت أهلها من أيّام المدرسة، المستسلمة لدعوتها استسلام المسحور، بثقةِ مَن يثق الثقة المطلقة وتشكيك مَن يشكّك الشكّ المطلق. لها أبواب وليس لها وجوه، فوجهها واحد بلا تلاعب، وقد ترتكب بسبب هذا »الالتزام« أنواعاً من القسوة.
حارت بها التأويلات. ما يعتبره الواحد قليلاً تراه هي كثيراً. والعكس. ما تراه هي ثباتاً يراه الآخر انقلاباً. والعكس. مقاييسها لها، وهي تريحها، وهذا تقريباً كلّ ما يريحها. القلق مقيم فيها أكثر منها. عندما تتذكّر أجزاء من ماضيها، ما بين المدرسة والأغنيات الأولي، يستنير وجهها بابتسامةٍ عريضة. تُدْهَش. «كان كلّ شي يضحّكني».
يمكن أن يُطلق علي فيروز لقب »جبّارة« الذي أطلق علي أحد أجداد أمّها المعلّم بطرس البستاني في القرن التاسع عشر. العلّامة والعَلَامة. مثله تجمع إلي الترهُّب لفنّها بساطةَ العيش والتواضع ودماثة الأخلاق ورحابة الصدر، وبالأخص صفتي الصبر والجَلَد وفوقهما وأكثر منهما ثبات العزيمة والنفور من الرياء، وكره التعصّب.
تتواري فتترك مكانها غلالة تُعذّب مستنطق اللغز. جان بيار دوليفير، مصمّم الأزياء الموهوب، وقد عمل معها مراراً، كان يقول متهيّباً: «حبّذا لو يتوصّل أحد إلي شقّ الباب علي هذا الكنز المسحور!». كان يقولها بحماسة ويأس. «كائنٌ غريب مُغْلَق في محيطٍ يحبّها ولا يشبهها».
الافتتان بصوتها جعل العاملين معها، تأليفاً وتلحيناً وأداء، يعطون أفضل ما فيهم. شخصيّة تستحوذ، تستنهض، تستقطب أقصي العطاء. صوتٌ لا يَفتعل، لا يفعل شيئاً لمخاطبة الحلم، فهو نفسه، بواقع أمره، وحتّي من دون لحن ولا غناء بل بمجرّد المحادثة: حلم يقظة وضّاح ورؤيا منامٍ صاحٍ.
غناء فيروز لا يتشنّج، لا يعلو صراخها. قد يضطرّها دورٌ مسرحيّ إلي الصراخ لكنّ غناءها لا يعرض
فيروزية المذاق، ولعل كلام منصور عن تطور الرحابنة ينطبق أول ما ينطبق علي صوت فيروز: عندما يكون هناك صوت أو مغن أو عناصر من فرقة موسيقية تعرف إمكاناتها فإنها توحي إليك بأن تؤلف لها. لقد تربينا مع صوت فيروز. صرنا نكبر ونتطور معه ويكبر معنا والموسيقي تكبر وتتطور. وصرنا نكتشف إمكانات قوية لديها. وبدأنا بالتلحين لهذه الإمكانات، ومحاولة تطوير الصوت حتي ينطلق إلي آفاق أوسع، وكانت فيروز تستجيب ببراعة. وأتصور أننا لو كنا نتعامل مع مطربة غير فيروز لما استطعنا أن نقدم ما قدمناه .
كان هم الرحبانيان هو خلق موسيقي لبنانية ذات هوية واضحة. ونظرا للنجاح المحدود للمرحلة الراقصة عادا إلي الفلكلور، إلي الماضي، وأخذا بعض الأغنيات وأعادا توزيعها دون تغيير بالكلام. في مرحلة لاحقة صارا يخلطان الألحان الفلكلورية بعضها ببعض في أغنية واحدة مع كلام مع تأليفهما، وتبع ذلك تأليف أغانٍ واسكتشات غنائية فكاهية تقوم علي ألحان الطرب الشعبي اللبناني، حيث تشكّلت علي نحو واضح هويتهما الفنية كموسيقيين لبنانيين. ثم جاءت الأغنية التي شكلت علامة فارقة في تاريخهما الفني. فبين ليلة وضحاها صنعت عتاب التي سجلت في 12 نوفمبر 1952 من فيروز مطربة كبيرة في العالم العربي.
تواصل النجاح عندما انطلق الرحابنة مع فيروز في إذاعة الشرق الأدني، منتجين عددا كبيرا من الإسكتشات والأغاني التي تستلهم التراث الشعبي اللبناني، إلي جوار أغنيات تمثل تجديدها الأساسي في تقديم لون من الحكاية الدرامية أو القصة القصيرة ، مثل وقف يا أسمر.. في إلك عندي كلام .
زواج فيروز وعاصي
في ذلك الوقت، كانت برامج الإذاعة تبث علي الهواء مباشرة، وكانت الأغاني تقدم بشكل حي دون تسجيل مسبق. كانت فيروز وعاصي- ملحنها ومرافقها الدائم- قد اعتادا الجلوس تحت شجرة قرب بركة ماء في الفناء الخلفي للاستوديو يدردشان لتمضية الوقت، بانتظار أن يأتي دورهما. وكانت فيروز تطلق العنان لأحلامها، حيث كان هاجسها الحقيقي أن تصبح معلمة لتساهم في انتشال عائلتها من الفقر والفاقة. وكثيراً ما ردت تلميحات عاصي بأنها لن تتزوج في حياتها أبداً، مرددة موقفا كثيرا ما كانت تكرره آنئذ دون تفكير، ربما تأثرا بزجر الأم.. فقد انتقل مع فيروز من قرية جدتها إلي بيروت الولع بجمع الزهور البرية، وبلغ استغراقها في هذه العادة حدا دفع أمها إلي تعود زجرها بأنها لن تزوجها إلا من بستاني.. ربما كان لهذا الزجر تأثيره، ناهيك عن أن فيروز نشأت في عائلة كاثوليكية صارمة، أقرب إلي الزهد والرهبنة في خصالهما، وخلا صباها من أحلام الصبايا وفرسان تلك الأحلام.
يقول الشاعر سعيد عقل: كنت أعرف فيروز من أيام بيتها المتواضع في حي البطريركية. ومرة زرتها هناك مع عاصي، وكان لا يخفي حبه لها. و كنت اكتشف أن الفتاة التي يكتب لها أغانيه ليست فتاة خيالية، وإنما تنطبق عليها أوصاف فيروز.. وأن فيروز حينما تغني للرجل في أعمال الأخوين الرحباني، لم تكن تغني لرجل مجهول، بل تغني لعاصي، ومن خلال هذه القناعة التي أكسبتني إياها معرفتي بالحب والمحبين قلت لعاصي ونحن نعود من زيارة فيروز: ماذا تنتظر يا عاصي حتي تتزوجها؟ لقد رأيت الحب الخجول في عيني فيروز ورأيت حبك لها في عينيك، في أغانيك، في أصابعك التي تحترق، تزوجها يا عاصي. وكأن عاصي كان ينتظر هذه الدعوة فتزوجها .
في يوم من ربيع عام 1954 بينما كانت فيروز تتمرن مع عاصي تحت الشجرة علي حافة بركة ساحة الإذاعة قالت فيروز لعاصي بشكل عابر، أنها لم تستسغ طريقة اهتمامه بإحدي الفتيات في المحطة. ولم تذهب هذه الملاحظة البريئة سديً، فكرر عاصي عرضاً كان قد قدمه للزواج.. وهذه المرة تخلت فيروز عن رفضها العنيد للفكرة. وقد صور عاصي واقعة الزواج قائلا: كان الأمر أشبه باسكتش من الاسكتشات التي كنا نعدها آنئذ.. كنت مدعوا علي الغذاء لدي أهل فيروز، وكانت هي قد أعدت صينية كفتة وبطاطا وسلطه. وبعد أن تغذينا قلت لفيروز: اتركينا شوي. بدنا نحكي كلمتين.
خرجت فيروز، فالتفت إلي والدها وقلت له: أكون ممنونك لو جوزتني بنتك.
فقال: علي بركة الله.
هكذا أتي طلبي يد فيروز وموافقة أهلها، كأنه مسمع في اسكتش إذاعي .
المهم أن فيروز وعاصي تزوجا فعلا في يناير 1955.
القاهرة وراجعون
مع أغانٍ مثل عتاب اشتهرت فيروز والأخوين رحباني في كثير من بلدان العالم العربي، وكثيراً ما كانوا يذهبون إلي إذاعة دمشق لتقديم أعمالهم. وفي عام 1955وجهت إذاعة صوت العرب دعوة للرحابنة لزيارة القاهرة. رحبوا بالسفر إلي مصر للتعرف من قريب علي التوجهات الفنية فيها، والتقوا أحمد سعيد مدير صوت العرب، ووقع معهم عقدا لتقديم أغان وأناشيد وبرامج لمدة ستة شهور. وفي تلك الفترة قدما النهر العظيم وأعمالا أخري.
ويوما اقترح أحمد سعيد أن يسافر الرحبانيان إلي غزة ليستمعا إلي الموسيقا والشعر هناك، لتقديم عمل عن القضية الفلسطينية، فاعتذرا لخوفهما من ركوب الطائرة، فأتي لهما ببعض الأغاني المسجلة. وجدا أنها مفعمة بالبكاء والنواح والاستجداء والشكوي: يا من يرد لنا أرضنا . فعرضا علي أحمد سعيد أن يقدما شيئاً بطريقتهما الخاصة، لأنه لا يمكن أن يسترد فلسطين إلا الفلسطينيين، وتعبيرا عن وجهة النظر هذه قدموا غنائية راجعون ، بما تنطوي عليه من استنهاض لهمم الفلسطينيين المشردين، خوفا من أن ينشأ جيل من أبنائهم يفتقر إلي الحنين الكافي للنضال من أجل استرداد أرضه.
وفي هذه المرحلة تطورت القصة القصيرة لتأخذ الدراما في راجعون- كما في النهر العظيم- أبعادا أوسع تتجاوز نبرة الحنين السالبة المنطوية علي الرومانسية والمأساوية:
أنت من بلادنا يانسيم
ياعبير يقطع المدي
حاملا هموم أرض يهيم
أهلها في الأرض شردا
وذلك من خلال الحوار والصراع بين بؤس الواقع
كان ذلك زمن الهجرة إلي المدن بحثا عن الرزق.. تنزح الأسرة الفقيرة من منبتها إلي المدينة، بعد التفتيش عن أقرباء أو حتي معارف وصلوا قبلاً من نفس ضيعتها، ليعينوها علي العيش والتكامل في نسيج المجتمع الجديد، حيث التكافل مبدأً أساسيا بين الفقراء بجميع طوائفهم.
هكذا شدت أسرة وديع حداد وليزا البستاني الصغيرة، بعد أن رزقا بابنة سمياها نهاد (في 21 نوفمبر 1935، وعرفتها دروب المجد فيما بعد باسم فيروز)، شدت رحالها بعد عامين من مولد الطفلة إلي بيروت. اشتغل حداد كعامل بسيط في مطبعة، وسكن مع أسرته غرفة من بيت متواضع في محلة زقاق البلاط علي أطراف المدينة. وكانت تعيش في البيت بضع أسر، تتشارك في المطبخ وغيره من المنافع. وكان وديع اسما علي مسمي.. هادئاً دينا حسن الخلق، مما انعكس علي أسرته، ولهذا سرعان ما أحبها الجيران.
شبت الطفلة تلهو مع أترابها في زقاق البلاط لهوا من النوع الذي لا يكلف الأسرة مالا، لكنها كانت تترقب بفروغ الصبر ظهور صندوق الدنيا في الزقاق، لتتشارك تحايلا مع إحدي بنات الجيران علي طاقة من طاقاته الثلاث، فقد كانت الفرجة بفرنك، والفرنك في ذلك الوقت- وفق تعبير فيروز- يحكي.. أما الذهاب إلي السينما فقد ظل حلما بعيدا مراوغا، حتي بعد أن تحقق مرات مع هذا أو ذاك من الأقرباء.
لم يكن بمقدور الأسرة المتواضعة الحال شراء مذياع، ذلك الجهاز السحري الذي ذاع صيته مع اقتناء قلّة محظوظة له. لكن صوته الآتي من بعيد ظل يشكل للطفلة بعض العزاء، مع شحنة من شعور مبهم بالانتماء والارتباط بعوالم يعز التفكير فيها لأنها بعيدة المنال.
وفي هذا الإطار شكل المطبخ نقطة حرجة في حياة نهاد فقد اعتادت إطالة وقت البقاء فيه لأن الصوت الآتي من راديو الجيران كان أوضح هناك.. ووجه الحرج أن المطبخ لم يكن يخص أسرتها وحدها. لكن الدأب علي كل حال لفتها إلي أغاني ليلي مراد وأسمهان، المطربتان المصريتان اللتان اشتهرتا في حينه، ووجدت نفسها تداعب غنائهما في ولع وعلي استحياء، منذ السنوات الباكرة من عمرها.
كانت فيروز تتوق إلي الأيام التي تذهب فيها إلي جدتها المحبوبة، في ضيعة الدبيّة حيث لا كهرباء، وحيث يطبق ظلام الليل الدامس باكرا علي المنازل الطينية القليلة، لا يتسلل عبر خيمته إلا أضواء ضئيلة مرتعشة متلأئة، تصدر عن النجوم المبدورة علي صفحة السماء إلي جوار القمر البهي متعدد الوجوه.. تنهمك في مساعدة جدتها بأعمال البيت نهاراً، إلي جوار تلبية توق عارم كانت تحسه تجاه الطبيعة، تجسد في الزهور البرية التي شغلت وشغفت بجمعها وتنسيقها في باقات تزين بها جنبات البيت، ومع حلول الظلام تسعد بسماع حكايات الجدة. لكن الشيء الأساسي أن نهاد وجدت في مجال الضيعة البري الرحب ملعبا تمارس فيه غنائها.. لقد كان لديها نزعة فطرية إلي الغناء منذ نعومة أظفارها، وعندما كانت ترفع صوتها ببيتهم في بيروت، كان الجار النائم يهب غاضبا شاكيا من الإزعاج، ساخراً من الفتاة الصغيرة، مبدياً استغرابه من نقل الإذاعة إلي بيتهم- العامر بالضجيج أصلا- دون غيره من بيوت الزقاق!
لكن مع تشجيع الكثيرين الذين فطنوا إلي حلاوة صوت نهاد، ومع انطلاقات الضيعة عند الجدة تحول الغناء إلي عادة.. وكان عليها كأخت كبيرة ومنذ نعومة أظفارها أن تقوم، إلي جوار الدرس، بمساعدة الأم، الأمر الذي علمها المسئولية والجدية منذ الصغر. لكنها لم تنس ممارسة هوايتها الغنائية خلال ذلك.. أثناء الغسيل خلف البيت، وخلال الخبيز وعند الاعتناء بأختيها هدي وأمال وأخيها جوزيف و...، والمهم هنا أن طقوس الجدية والمسئولية قد ارتبطت بالغناء، فحتي قبل أن يخلد الأطفال للنوم كان لا بد أن تغني متمنية لهم أحلاما سعيدة ونوم هانئ.
وفّر الأب بعضاً من دخله الضئيل من أجل تعليم أولاده. لذلك حظيت فيروز بفرصة الالتحاق بالمدرسة، وكانت تلميذة نجيبة، بالرغم من كراهيتها مادة الحساب، لكن ما جذب الانتباه إليها فوراً هو صوتها، حيث كانت سماته الفريدة تحول الأناشيد الوطنية الدارجة، التي يؤديها غيرها بروتينية، إلي شيء مدهش آسر الجمال.
الاكتشاف والتجلي مع محمد فليفل
كان محمد فليفل أستاذا في معهد الموسيقي اللبناني، وهو الذي وضع مع أخيه لحن النشيد الوطني السوري.. وكان الأخوين فليفل يُحضران (1946) لتقديم برنامج غنائي في الإذاعة اللبنانية المؤسسة حديثاً، وهداهمها تفكيرهما إلي البحث عن مواهب جديدة في المدارس. ووجدا ضالتهما باكتشاف بعض الأصوات الشابة، بما في ذلك من المدرسة التي كانت تدرس فيها نهاد. وعند مفاتحة والدها، الذي ينتمي إلي بيئة محافظة، بوقوع الاختيار علي ابنته كان مستاءً من فكرة غنائها للعامة. لذلك رفض في البداية منح موافقته لفليفل، الذي راح يطمأنه بأن نهاد لن تغني إلا ضمن كورال الإذاعة، وأنها سوف تشارك في غناء الأغاني الوطنية فقط، وأنه- فليفل- سوف يتحمل نفقات تعليمها في معهد الموسيقي و... .
المهم أن فليفل ظل يلح علي الأب حتي نجح في الحصول علي موافقته، لكن شريطة أن يرافقها أخوها جوزيف إلي حيث تذهب.
كان يرأس معهد الموسيقي (الكونسيرفتوار) في ذلك الوقت وديع صبرا، ملحن النشيد الوطني اللبناني فتحمس لأن تدرس فيروز في المعهد بالمجان، هي وبقية الطلاب الذين رشحهم فليفل، هذا الذي تبني صوت نهاد علي نحو أبوي، لإيمانه بأن جوهرة نادرة تنطوي في حناياه.. ولم يقتصر الأمر علي ما يخص الغناء مباشرة، إذ ظل يلفتها إلي عدم تناول أنواع من الطعام والحمضيات و...، وغير ذلك من الأشياء التي يمكن أن تؤذي أحبالها الصوتية. كما حذرها من غناء الطبقات العالية أو المقاطع التي تتطلب جهداً شديداً. وربما كان أبرز ما أفاد به فليفل نهاد هو تعليمها تجويد القرآن الكريم، فهذا هو الأسلوب الأكثر فعالية في ضبط مخارج الألفاظ والتمرس بموسيقي اللغة في التراث العربي. ولعل ذلك هو ما عزز القاعدة الموسيقية الرحبة لصوت فيروز وجعله قادرا علي الجمع بين الأداء الطقوسي الكنسي والغناء العربي التقليدي.
استمرت دراسة نهاد في معهد الموسيقي أربع سنوات، مثلت بعدها باستدعاء من أسعد الأسعد مدير الإذاعة اللبنانية أمام لجنة الاستماع، وكانت مؤلفة من: حليم الرومي، خالد أبو النصر، نقولا المني وآخرين. وكان يوماً حاسما في حياة فيروز التي خفت إلي الامتحان في زيها المدرسي، فقد كانت ما تزال تلميذة بالمدرسة، وغنت بمصاحبة عود حليم الرومي يا ديرتي لأسمهان. وأذهل صوت نهاد الرومي حتي أنه توقف عن العزف مندهشا في منتصف الأغنية.. وواصلت فيروز تألقها فغنت مطلع يا زهرة في خيالي لفريد الأطرش، ليحيط بها أعضاء اللجنة مهنئين مشجعين مبدين تقديرهم لصوتها الفريد. وشاركهم الترحيب عاصي الرحباني وإن كان بحماس أقل، حين تصادف مروره بمكان تواجدهم، حيث كان يعمل عازفا وملحنا في الإذاعة.
كورال الإذاعة وحليم الرومي
هكذا اختيرت فيروز كمغنية في جوقة (كورال) الإذاعة.. وفي البداية عارض والدها فكرة العمل بالإذاعة، وتطلب إقناعه كثير من الجهد، وجاءت موافقته بعد تدخل ملح وضغوط خشنة من المعارف المقربين، وبعد اشتراط أن ترافقها أمها أو أخوها جوزيف، أو حتي ابن الجيران عند ذهابها إلي الإذاعة!
كانت هذه المرحلة هي فترة التمعن في الممارسة والملاحظة والتعلم بالنسبة لنهاد.. درست عن كثب أسلوب غناء كل من أفراد الجوقة، وكثيرا ما كان يطلب منها أن تحل محل مغنية تأخرت أو عجزت عن الأداء الصحيح، فقد كانت تمتلك فطرة وحشية وإحساساً فنياً عالياً وذاكرة حادة ثاقبة، وهكذا سرعان ما باتت تؤدي بشكل انفرادي.

كان حليم الرومي شديد الإعجاب بصوت نهاد حداد حيث وجد أنه ينطوي، علاوة علي شرقيته وأصالته، علي مرونة كافيه للتفاعل مع النمط الغربي وعلي نحو مثير للإعجاب. وهكذا جاءت أولي أغانيها الخاصة تركت قلبي وطاوعت حبك (أول أبريل لعام 1950) من ألحان حليم الرومي نفسه، وقد كان عائدا من دراسته الموسيقية بمصر، متأثرا بأجوائها الموسيقية. وعند التحضير لبث الأغنية، اقترح حليم علي فتاته أحد اسمين فنيين (كالنجوم) كان الرأي قد استقر في الإذاعة علي تسميتها بأحدهما: شهرزاد و فيروز. وفي البداية لم تأخذ نهاد الأمر علي محمل الجد، لكنها عملت بنصيحته أخيراً واختارت اسم فيروز. وكانت أغنيتها الثانية باللهجة المصرية، أما الأغنية الثالثة عاشق الورد فقد غنتها مع حليم الرومي نفسه كثنائي، حيث كان يجرب في إطار تجربته الموسيقية في القاهرة. وتبع ذلك العديد من الأغاني القصيرة الخفيفة التي اجتهد أن تكون مختلفة المشارب، في محاولة لتجنب حصر فيروز في نمط غنائي واحد، الأمر الذي دفعه إلي تشجيعها علي التعاون مع غيره، حتي أن عام 1951 جاء وقد غنت من ألحان مدحت عاصم، نقولا المني، سليم الحلو، محمد محسن، توفيق الباشا، خالد أبو النصر وآخرين. في تلك الفترة كان نجم الأخوين رحباني قد بدأ في البزوغ.
فيروز مع الرحابنة
في عام 1944 دخلت حياة عاصي ومنصور الرحباني الفنية مرحلة جديدة، حيث انخرطا في تقديم أغنيات قصيرة لا تتجاوز مدتها ثلاث دقائق. كان حضورهاً إيجابياً في إذاعة دمشق، وإذاعة الشرق الأدني، اللتان وجد مديراها فيما يفعل الرحابنة نمطاً جديداً للأغنية، غير الأغنية الطويلة السائدة، والتي كانت تعتمد علي الترداد والتطريب.
وبعد الحرب العالمية الثانية، قرر عاصي ومنصور أن ينتقلا من الهواية إلي الاحتراف، وكانت الإذاعة طريق الانطلاق الوحيد في هذا المجال. وكان عليهما أن يجتازا اختبارا، فقدما بعضاً من أعمالهما الخاصة، إلا أنها لم تلق ترحيباً من لجنة الفحص- باستثناء ميشيل خياط- الذين رأوا أن الأغاني تتضمن كلمات غير مألوفة في الأغنية العربية عامة واللبنانية خاصة. وحول هذا قال منصور: نحن جئنا بتفكير شعري مغاير، وبموسيقي مغايرة. غيرنا كل شيء. لماذا؟ لا أعرف. تأثرنا بعبدالوهاب. تأثرنا بسيد درويش. تأثرنا بالعديد من الفنانين. لكن عندما جئنا لنكتب كتبنا بلغتنا الخاصة. وبرأيي علي الفنان أن يقول جديداً وإلاّ فليصمت... .
المهم أن كورال الإذاعة ومطربيها رفضوا أن يغنوا للرحبانيين، فأحضرا أختهما سلوي وأسمياها نجوي وراحت تؤدي أغانيهما في الإذاعة. ومع استمرار تقديم أعمالهما، بدأ البعض يؤمن بلونهما الفني الجديد. ومن هؤلاء فؤاد قاسم رئيس الإذاعة، الذي تبني أعمالهما، وطلب من عاصي، الذي كان قد تعلم العزف علي الكمان في الكونسيرفتوار، وتعلم الأصول العلمية للموسيقي علي يد الأستاذ إدوار جهشان في أكاديمية ألكسي بطرس للفنون ، طلب منه العمل كعازف كمان ومؤلف موسيقي في الإذاعة، فوافق عاصي واستقال من الشرطة حيث كان يعمل.

كان حليم الرومي متحمساً جداً لموهبة فيروز، وكان قد لحن لها وغني معها، لكنه كان مشغولا لدرجة لا تمكنه من أن يكرس لها ما تستحق من اهتمام، كما أن حس الفنان جعله يوقن أن اللون المصري الذي يبرع فيه ليس هو اللون الذي تحتاجه، وأنه لن يصنع منها شيئا متفردا، لهذا فكر في أن تعمل مع الرحابنة.. اقترح علي فيروز عام 1951 أن يقدمها لعاصي الرحباني، لكن فيروز لم تكن تتوقع الكثير من اللقاء- ربما تأثرا بعدم حماسه خلال اللقاء الأول بالإذاعة- لهذا ردت بأنها لا تود الكلام مع عاصي، لكن الرومي نجح في أن يغير رأيها.
وكان رأي عاصي الأولي أن صوت فيروز مناسب لغناء الأغاني الشرقية وليس الأغاني العصرية، التي كان مهتماً بها. واحتج الرومي موضحا أن صوتها غير محدود الإمكانيات، وهو قادر علي أداء الأغاني الحديثة والأغاني الفلكلورية و... . المهم أن عاصي الرحباني وافق في النهاية علي التلحين لفيروز، الأمر الذي عده شقيقه منصور فيما بعد بصيرة اخترقت حجب المستقبل، لأن منصور نفسه جاهر في البداية بأن صوت فيروز هو الاختيار الخاطئ لأعمالهما.
حين سألوا منصور أي الأعمال الرحبانية هي لعاصي وأيها لمنصور؟ ولمن كلمات هذه الأغنية ولمن لحن تلك؟ رد: لا يعرف أحد. لقد كان عاصي يقول بلهجته اللبنانية ما حدا يسألنا هيك سؤال إذا بتريدوا هيدا من عمل الأخوين رحباني وبس .. ويضيف منصور بحسه الإنساني الراقي: كان عاصي متقدما دائما, وحتي بعد أن أصبحنا مشهورين، كنا إذا اختلفنا في الرأي حول هذه الجملة الموسيقية أو الشعرية, كانت جدتي لوالدتي عندما يتناهي إليها شجارنا, تقول لي: أخوك أكبر منك، اسمع منه عالعمياني . والحقيقة أنهما حين كانا يختلفان كانا يلجآن إلي واحد من أعضاء المؤسسة الموهوبين (مثل فليمون وهبه) ويقدمون له الآراء المتباينة، ويفوضونه حرية الاختيار، لأنهم يعرفون أنه يختار الأجمل دوماً.
وإن كنا ننتشي مع مثل هذه الثنائيات عاصي ومنصور، ومكاوي وجاهين، وإمام ونجم، و... فما بالنا وقد أنضم إلي روح الثنائي الرحباني ذلك الكيان النوراني المتفرد الذي يتمثل في صوت فيروز.
تجريب
هكذا انتقلت فيروز، ولم يزد عمرها في الكورال علي سنة، إلي إذاعة الشرق الأدني. في البداية، انصبت جهود الرحابنة بشكل رئيسي علي صياغة الألحان الخفيفة الراقصة. وكانت بيروت في ذلك الوقت تستقطب عددا من الفرق الفنية الكبيرة القادمة من وراء البحار، لتعزف التانغو والرومبا لشريحة واسعة من ذوي الأهواء الغربية في العاصمة اللبنانية. إحدي هذه الفرق كانت فرقة إدواردو بيانكو الأرجنتينية.. أثناء التسجيل في استوديوهات إذاعة الشرق الأدني اقترح صبري الشريف، الذي كان يدير القسم الموسيقي، تنفيذ تجربة غير مسبوقة في الموسيقي الشرقية، وهي أن تغني فيروز مع أوركسترا بيانكو ألحاناً وضعت بالأصل لرقصات، مثل la compersita وتانجو la boheme . وكان ذلك اليوم (الأول من أكتوبر 1951) ذو أهمية خاصة في حياة فيروز والأخوين رحباني، حيث اعتقدا أنه بداية حقيقية غير مسبوقة للأغنية الراقصة في الموسيقي العربية، باستثناء أغاني الملحن المصري مدحت عاصم.

كانت الموسيقا الدارجة وقتها التانغو والجاز والبوليرو والسلو، وغيرها من الألحان الغربية، فصارا يأخذان مقاطع من هذه الموسيقا ويضعان لها كلاماً لبنانياً وتوزيعاً موسيقياً جديداً، لكنهما سرعان ما أدركا ضرورة أن يكون للبنان موسيقاه الراقصة الخاصة به، فجاءت أغاني مثل: نحنا والقمر جيران ، وأغانٍ فلكلورية بإيقاعات راقصة مثل البنت الشلبية ، قبل أن يتطور الأمر إلي أغان خالصة التأليف والتلحين للأخوين رحباني.

لقد هيّأ الرحابنة لفيروز انطلاقة جديدة محض رحبانية، وخضع صوتها للكثير من التجارب، فغنت الألوان الأوروبية الصعبة، ثم الألوان الشرقية الصعبة، ومع مختلف الأوركسترات. كانت دائماً تثبت جدارتها، وتكونت لديها خبرة لم تتوفر لمطربة أخري. هذا كما هيأ صوت فيروز للرحابنة إنطلاقة
كان ذلك زمن الهجرة إلي المدن بحثا عن الرزق.. تنزح الأسرة الفقيرة من منبتها إلي المدينة، بعد التفتيش عن أقرباء أو حتي معارف وصلوا قبلاً من نفس ضيعتها، ليعينوها علي العيش والتكامل في نسيج المجتمع الجديد، حيث التكافل مبدأً أساسيا بين الفقراء بجميع طوائفهم.

هكذا شدت أسرة وديع حداد وليزا البستاني الصغيرة، بعد أن رزقا بابنة سمياها نهاد (في 21 نوفمبر 1935، وعرفتها دروب المجد فيما بعد باسم فيروز)، شدت رحالها بعد عامين من مولد الطفلة إلي بيروت. اشتغل حداد كعامل بسيط في مطبعة، وسكن مع أسرته غرفة من بيت متواضع في محلة زقاق البلاط علي أطراف المدينة. وكانت تعيش في البيت بضع أسر، تتشارك في المطبخ وغيره من المنافع. وكان وديع اسما علي مسمي.. هادئاً دينا حسن الخلق، مما انعكس علي أسرته، ولهذا سرعان ما أحبها الجيران.
شبت الطفلة تلهو مع أترابها في زقاق البلاط لهوا من النوع الذي لا يكلف الأسرة مالا، لكنها كانت تترقب بفروغ الصبر ظهور صندوق الدنيا في الزقاق، لتتشارك تحايلا مع إحدي بنات الجيران علي طاقة من طاقاته الثلاث، فقد كانت الفرجة بفرنك، والفرنك في ذلك الوقت- وفق تعبير فيروز- يحكي..

أما الذهاب إلي السينما فقد ظل حلما بعيدا مراوغا، حتي بعد أن تحقق مرات مع هذا أو ذاك من الأقرباء.
لم يكن بمقدور الأسرة المتواضعة الحال شراء مذياع، ذلك الجهاز السحري الذي ذاع صيته مع اقتناء قلّة محظوظة له. لكن صوته الآتي من بعيد ظل يشكل للطفلة بعض العزاء، مع شحنة من شعور مبهم بالانتماء والارتباط بعوالم يعز التفكير فيها لأنها بعيدة المنال.

وفي هذا الإطار شكل المطبخ نقطة حرجة في حياة نهاد فقد اعتادت إطالة وقت البقاء فيه لأن الصوت الآتي من راديو الجيران كان أوضح هناك.. ووجه الحرج أن المطبخ لم يكن يخص أسرتها وحدها. لكن الدأب علي كل حال لفتها إلي أغاني ليلي مراد وأسمهان، المطربتان المصريتان اللتان اشتهرتا في حينه، ووجدت نفسها تداعب غنائهما في ولع وعلي استحياء، منذ السنوات الباكرة من عمرها.
كانت فيروز تتوق إلي الأيام التي تذهب فيها إلي جدتها المحبوبة، في ضيعة الدبيّة حيث لا كهرباء، وحيث يطبق ظلام الليل الدامس باكرا علي المنازل الطينية القليلة، لا يتسلل عبر خيمته إلا أضواء ضئيلة مرتعشة متلأئة، تصدر عن النجوم المبدورة علي صفحة السماء إلي جوار القمر البهي متعدد الوجوه.. تنهمك في مساعدة جدتها بأعمال البيت نهاراً، إلي جوار تلبية توق عارم كانت تحسه تجاه الطبيعة، تجسد في الزهور البرية التي شغلت وشغفت بجمعها وتنسيقها في باقات تزين بها جنبات البيت، ومع حلول الظلام تسعد بسماع حكايات الجدة. لكن الشيء الأساسي أن نهاد وجدت في مجال الضيعة البري الرحب ملعبا تمارس فيه غنائها.. لقد كان لديها نزعة فطرية إلي الغناء منذ نعومة أظفارها، وعندما كانت ترفع صوتها ببيتهم في بيروت، كان الجار النائم يهب غاضبا شاكيا من الإزعاج، ساخراً من الفتاة الصغيرة، مبدياً استغرابه من نقل الإذاعة إلي بيتهم- العامر بالضجيج أصلا- دون غيره من بيوت الزقاق!
لكن مع تشجيع الكثيرين الذين فطنوا إلي حلاوة صوت نهاد، ومع انطلاقات الضيعة عند الجدة تحول الغناء إلي عادة.. وكان عليها كأخت كبيرة ومنذ نعومة أظفارها أن تقوم، إلي جوار الدرس، بمساعدة الأم، الأمر الذي علمها المسئولية والجدية منذ الصغر. لكنها لم تنس ممارسة هوايتها الغنائية خلال ذلك.. أثناء الغسيل خلف البيت، وخلال الخبيز وعند الاعتناء بأختيها هدي وأمال وأخيها جوزيف و...، والمهم هنا أن طقوس الجدية والمسئولية قد ارتبطت بالغناء، فحتي قبل أن يخلد الأطفال للنوم كان لا بد أن تغني متمنية لهم أحلاما سعيدة ونوم هانئ.

وفّر الأب بعضاً من دخله الضئيل من أجل تعليم أولاده. لذلك حظيت فيروز بفرصة الالتحاق بالمدرسة، وكانت تلميذة نجيبة، بالرغم من كراهيتها مادة الحساب، لكن ما جذب الانتباه إليها فوراً هو صوتها، حيث كانت سماته الفريدة تحول الأناشيد الوطنية الدارجة، التي يؤديها غيرها بروتينية، إلي شيء مدهش آسر الجمال.
زواج فيروز وعاصي
في ذلك الوقت، كانت برامج الإذاعة تبث علي الهواء مباشرة، وكانت الأغاني تقدم بشكل حي دون تسجيل مسبق. كانت فيروز وعاصي- ملحنها ومرافقها الدائم- قد اعتادا الجلوس تحت شجرة قرب بركة ماء في الفناء الخلفي للاستوديو يدردشان لتمضية الوقت، بانتظار أن يأتي دورهما. وكانت فيروز تطلق العنان لأحلامها، حيث كان هاجسها الحقيقي أن تصبح معلمة لتساهم في انتشال عائلتها من الفقر والفاقة. وكثيراً ما ردت تلميحات عاصي بأنها لن تتزوج في حياتها أبداً، مرددة موقفا كثيرا ما كانت تكرره آنئذ دون تفكير، ربما تأثرا بزجر الأم.. فقد انتقل مع فيروز من قرية جدتها إلي بيروت الولع بجمع الزهور البرية، وبلغ استغراقها في هذه العادة حدا دفع أمها إلي تعود زجرها بأنها لن تزوجها إلا من بستاني.. ربما كان لهذا الزجر تأثيره، ناهيك عن أن فيروز نشأت في عائلة كاثوليكية صارمة، أقرب إلي الزهد والرهبنة في خصالهما، وخلا صباها من أحلام الصبايا وفرسان تلك الأحلام.
يقول الشاعر سعيد عقل: كنت أعرف فيروز من أيام بيتها المتواضع في حي البطريركية. ومرة زرتها هناك مع عاصي، وكان لا يخفي حبه لها. و كنت اكتشف أن الفتاة التي يكتب لها أغانيه ليست فتاة خيالية، وإنما تنطبق عليها أوصاف فيروز.. وأن فيروز حينما تغني للرجل في أعمال الأخوين الرحباني، لم تكن تغني لرجل مجهول، بل تغني لعاصي، ومن خلال هذه القناعة التي أكسبتني إياها معرفتي بالحب والمحبين قلت لعاصي ونحن نعود من زيارة فيروز: ماذا تنتظر يا عاصي حتي تتزوجها؟ لقد رأيت الحب الخجول في عيني فيروز ورأيت حبك لها في عينيك، في أغانيك، في أصابعك التي تحترق، تزوجها يا عاصي. وكأن عاصي كان ينتظر هذه الدعوة فتزوجها .
في يوم من ربيع عام 1954 بينما كانت فيروز تتمرن مع عاصي تحت الشجرة علي حافة بركة ساحة الإذاعة قالت فيروز لعاصي بشكل عابر، أنها لم تستسغ طريقة اهتمامه بإحدي الفتيات في المحطة. ولم تذهب هذه الملاحظة البريئة سديً، فكرر عاصي عرضاً كان قد قدمه للزواج.. وهذه المرة تخلت فيروز عن رفضها العنيد للفكرة. وقد صور عاصي واقعة الزواج قائلا: كان الأمر أشبه باسكتش من الاسكتشات التي كنا نعدها آنئذ.. كنت مدعوا علي الغذاء لدي أهل فيروز، وكانت هي قد أعدت صينية كفتة وبطاطا وسلطه. وبعد أن تغذينا قلت لفيروز: اتركينا شوي. بدنا نحكي كلمتين.
خرجت فيروز، فالتفت إلي والدها وقلت له: أكون ممنونك لو جوزتني بنتك.
فقال: علي بركة الله.
هكذا أتي طلبي يد فيروز وموافقة أهلها، كأنه مسمع في اسكتش إذاعي .
المهم أن فيروز وعاصي تزوجا فعلا في يناير .1955
القاهرة وراجعون
مع أغانٍ مثل عتاب اشتهرت فيروز والأخوين رحباني في كثير من بلدان العالم العربي، وكثيراً ما كانوا يذهبون إلي إذاعة دمشق لتقديم أعمالهم. وفي عام 1955وجهت إذاعة صوت العرب دعوة للرحابنة لزيارة القاهرة. رحبوا بالسفر إلي مصر للتعرف من قريب علي التوجهات الفنية فيها، والتقوا أحمد سعيد مدير صوت العرب، ووقع معهم عقدا لتقديم أغان وأناشيد وبرامج لمدة ستة شهور. وفي تلك الفترة قدما النهر العظيم وأعمالا أخري.
ويوما اقترح أحمد سعيد أن يسافر الرحبانيان إلي غزة ليستمعا إلي الموسيقا والشعر هناك، لتقديم عمل عن القضية الفلسطينية، فاعتذرا لخوفهما من ركوب الطائرة، فأتي لهما ببعض الأغاني المسجلة. وجدا أنها مفعمة بالبكاء والنواح والاستجداء والشكوي: يا من يرد لنا أرضنا . فعرضا علي أحمد سعيد أن يقدما شيئاً بطريقتهما الخاصة، لأنه لا يمكن أن يسترد فلسطين إلا الفلسطينيين، وتعبيرا عن وجهة النظر هذه قدموا غنائية راجعون ، بما تنطوي عليه من استنهاض لهمم الفلسطينيين المشردين، خوفا من أن ينشأ جيل من أبنائهم يفتقر إلي الحنين الكافي للنضال من أجل استرداد أرضه.
وفي هذه المرحلة تطورت القصة القصيرة لتأخذ الدراما في راجعون- كما في النهر العظيم- أبعادا أوسع تتجاوز نبرة الحنين السالبة المنطوية علي الرومانسية والمأساوية:
أنت من بلادنا يانسيم
ياعبير يقطع المدي
حاملا هموم أرض يهيم
أهلها في الأرض شردا
وذلك من خلال الحوار والصراع بين بؤس الواقع
والتشرد وضرورة النهوض:
وقوفا.. وقوفا أيها المشردون
وقوفا يا تري هل تسمعون
ديارنا من يفتديها؟
من غيرنا يموت فيها؟
وبين الأمل الساعي إلي المقاومة:
بالإيمان راجعون
للأوطان راجعون
في الرمال والظلال
في الشعاب والتلال
راجعون راجعون راجعون
وقد تم تسجيل الغنائية بأصوات فيروز وكارم محمود والكورس.. وذلك مع الحلول الفنية التي وزعت أدوار الدراما بين الأوركسترا وصوت الجماعة (الكورال) وصوت ضميرها المفرد فيروز، رابطة القضية بالأرض والبيت والذكري، في تجاوز لشعارات وحماسيات المرحلة والشكل المألوف للنشيد الوطني وصياغته الموسيقية بالمارشات العسكرية في نفس الوقت.
ومن الأمور البليغة الدلالة التي يجب عدم إغفالها هنا أن الرحابنة رفضوا خلال الزيارة كل عروض التلحين والتأليف التي تقدم بها شعراء وملحنون مصريون كبار، باستثناء قصيدة مرسي جميل عزيز لم لا أحيا وظل الورد يحيا في الشفاة . حتي رغبة محمد عبدالوهاب في التلحين لفيروز تم تجاهلها رغم طرح الفكرة مرات. وقد قيل في حينه أن الأخوين خافا أن تجرف أضواء القاهرة فيروز كما جرفت غيرها من المطربات اللبنانيات (صباح ونور الهدي وسعاد محمد و...)، وإن صح ذلك علي نحو جزئي، فإن الأمر كان أكبر كثيرا، ولعل ما فكر فيه حليم الرومي لفيروز من نكهة بعيدة عن النكهة المصرية السائدة (التي يجيدها) أمر دال في هذا الصدد، فقد كانت نية الرحابنة تمضي نحو تقديم أغنية لبنانية جديدة تنفلت من العباءة المصرية الآسرة، وتقترب من التوجهات والموسيقي الأوربية.
عادت فيروز والرحابنة إلي بيروت بعد ستة أشهر، وفي أول يوم من سنة 1956 أنجبت فيروز بكرها زياد، الذي كان رمزا لإثمار العلاقة وإرهاصا بالآفاق الباهرة التي سترتادها المؤسسة الفيروزية الرحبانية .

الانطلاق الفني
خلال عام 1956، اضطرت إذاعة الشرق الأدني إلي التوقف عن البث، بعد أن قاطعها الكثير من الموسيقيين اللبنانيين- بمن فيهم الرحابنة- استنكاراً لموقفها مع العدوان الثلاثي علي مصر، ويومها قام صبري الشريف المدير الفني لأعمال الرحابنة بنقل أنشطتهم إلي إذاعة دمشق، التي كان لها دور كبير في انتشارهم، وفي عام 1957 وقفت فيروز للمرة الأولي أمام الجمهور السوري في دمشق وغنت قصيدة بردي للأخطل الصغير. وكان جمهورا هائلا قياسا علي ما عرفته، لهذا لا تكل فيروز من تكرار إن الجمهور السوري احتضنها وأحبها، منذ البداية، كما أحبته .
عندما بدأت مهرجانات بعلبك في لبنان، كان منظموها يقتصرون علي الاستعانة بفرق أجنبية من مختلف أنحاء العالم، ولكن ابتداءً من عام 1957 برزت الحاجة إلي تقديم فن لبناني في هذه المهرجانات، وهكذا طلب الوزير حبيب أبو شهلا من الرحابنة إحياء حفلات مهرجانات بعلبك. عرضت اللجنة المنظمة عليهم في البداية مهمة التلحين فقط، وكانت ضد إسناد الغناء لفيروز، لكن عاصي لم يوافق، وصارح أعضاء اللجنة بأنهم لا يقدرون فيروز حق قدرها، وطمأنهم بأنها ستغني شيئاً جديدا مختلفاً عما يتوقعون، وعرض أن تتقاضي فيروز لقاء الدور الذي ستقوم به أجرا رمزيا قدره ليرة لبنانية واحدة. وهذا ما كان.
ليلة الافتتاح في صيف عام 1957 كان أول لقاء حي لفيروز مع جمهور لبنان، واقفة علي قاعدة أحد الأعمدة الستة التي تشكل معبد جوبيتير، أمام أكبر حشد- علي الإطلاق- تجمع في المعبد الروماني. وتحت قمر بهيئة هلال عمد المخرج صبري الشريف إلي إغراق فيروز من أسفل بضوء أزرق من اتجاهات مختلفة حتي بدت وكأنها تسبح في الفضاء. وحين بدأت بالشدو بصوت واثق لبنان يا أخضر حلو ، كان المشهد صاعقاً للجمهور. كانت اللحظة سحرية حقاً واشتعل الناس تصفيقاً، مفتونين في موجة من التأثر والبكاء والغبطة. وقدم الحفل ليلة ثانية كما كان مقرراً، وشاهد العرض في الليلتين عشرة آلاف مشاهد، كان من بينهم الرئيس اللبناني كميل شمعون.
المسرحيات الغنائية الكبيرة
ومع أيام الحصاد كان الرحابنة قد وضعوا أيديهم، في نهاية المطاف، علي الشكل الفني الذي أحدثا به ثورة في الفن العربي (المسرحيات الغنائية الطويلة ذات القصة)، ولم يخفوا أنهم استلهموا هذا الشكل من تجربة سيد درويش الرائدة. ومنذ ذلك الوقت راحت فيروز تغني وتمثل، مرة واحدة في السنة علي الأقل في بعلبك ثم في دمشق. وتطور الأمر رويدا إلي إبداع مسرحيات غنائية ضخمة وأكثر قيمة وتأثيرا.
وقد بشّر عام 1960 بولادة عصر جديد في مسيرة الرحابنة، حيث انخرطوا في تقديم المسرحيات داخل لبنان وخارجه، في مهرجانات بعلبك ومهرجانات الأرز ومعرض دمشق الدولي و...، بدءاً من موسم العز و البعلبكية ، وحتي لولو و بترا . وكانت فيروز تقدم، بنجاح كبير، حفلاتها الغنائية في قصر بيت الدين. وقد أزال ذلك الحواجز التي أحاطت بفيروز، وفتح الباب لتقديمها أغاني سيد درويش (طلعت يا محلا نورها، زوروني كل سنة مرة...)، بل والتعاون مع محمد عبدالوهاب لتغني جارة الوادي، خايف، اسهار، سكن الليل ، ناهيك عن إقامة الحفلات الغنائية الخاصة.
الفن وهموم الناس
ومن خلال هذه الأعمال قالت المؤسسة الفيروزية الرحبانية بأبلغ الصور أن العمل الفني ليس كائنا شريدا تائها غائبا عن القضايا التي يعيشها الناس، إذ لابد أن يحمل في ثناياه إشارات عميقة للوقائع التاريخية والاجتماعية والثقافية والإنسانية المرتبطة بواقعهم وعالمهم..وذلك مع جملة فنيات تشكيل الصورة وتوظيف الموسيقي وصناعة المتخيل يوظف فيها المبدع طاقته لكي يستجلي عمله بسياقاته وآفاقه المتعددة.. ومن هذا المنطلق حققت المؤسسة الفيرزرحبانية مع هذه المسرحيات- كما مع الغناء- الارتباط الرابع- بعد أو قبل الكلمة واللحن والصوت- الأعظم علي الإطلاق، حين أثبتت أنها قادرة بامتياز علي التعبير عن مشاعر الناس وهمومهم والالتصاق بقضاياهم, يقول منصور رحباني: أنت تعالج علي المسرح مواضيع من مئات السنين, فإذا لم يجد المشاهد في هذه المواضيع نفسه, همّه, وجعه, فرحه, وتوقه إلي الحرية والعدالة, حصل انفصال بين الصالة والمسرح. لذلك, مهما كان موضوعك غائماً في التاريخ, عليك أن تجعل المشاهد يري نفسه فيه. أنت تأتي بإنسان لكي يكون مرآة الآخر, وإذا لم تتحقق هذه المعادلة فلا لزوم للاستعاضة بشخصية تاريخية أو بحدث تاريخي, أو بأي شخصية أو حدث آخر. لقد توجهنا بأعمالنا وباستمرار إلي الشعب, لم نخاطب النُخَب فقط, بل خاطبنا النخب والناس العاديين البسطاء, لماذا أحرم المواطن العادي من الفن وأجعله وقفاً علي المثقفين وحدهم مادام باستطاعتي أن أتواصل مع الفئتين معاً؟ .
هكذا وهبت المؤسسة الفيرزرحبانية الفن العربي واحدة من أروع الصفحات في تاريخه حين ربطت الفن والجمال بالوطن والحياة والمستقبل والعدل والحرية .
زهرة المدائن والقدس في البال
ولعل هنا اللحظة المناسبة لنطوي الحديث عن المسرحيات الغنائية، حتي نواصل الوقوف عند جوهرة التاج في الرباط الأعظم للفن مع الجمهور العربي، إذ تظل كوكبة زهرة المدائن هي التلخيص الأوفي لعلاقة الجمهور العربي الأوسع بالمؤسسة الفيروزرحبانية، فقد شكلت الظاهرة الغنائية العربية الجماهيرية الموازية للظاهرة الشعرية الفلسطينية التي تلخصها كلمات محمود درويش:
حاصر حصارك.. لا مفر
سقطت ذراعك فالتقطها
واضرب عدوك.. لا مفر
وسقطت قربك فالتقطني
واضرب عدوك بي..
فأنت الآن حر
حيث ارتفع صوت فيروز يناجي القدس:
عيوننا إليك ترحل كل يوم
تدور في أروقة المعابد
تعانق الكنائس القديمة
وتمسح الحزن عن المساجد
ياليلة الإسراء يادرب من مروا إلي السماء
عيوننا إليك ترحل كل يوم
...
الغضب الساطع آت وأنا كلي إيمان
الغضب الساطع آت سأمر علي الأحزان
من كل طريق آت بجياد الرهبة آت
وكوجه الله الغامر آت آت آت
...
وستغسل يانهر الأردن
وجهي بمياه قدسية
وستمحو يانهر الأردن
آثار القدم الهمجية
ليس فقط لأن الظاهرة الدرويشية والظاهرة الفيروزية بين الظواهر التي حولت المسألة الفلسطينية في وجداننا من مأساة لاجئين يستحقون الشفقة والعطف إلي قضية شعب ووطن ونضال وعودة، وإنما لكونهما تبقيان أيضا الروح تقاوم الموات في أجسادنا.
في عام 1964 زارت فيروز مع عاصي ومنصور القدس، وأثناء تجوال فيروز في شوارعها استوقفتها مقدسية وتطرق حديثهما إلي نتف من مأساة الفلسطينيين فتأثرت فيروز ولم تتمالك نفسها فبكت، وعملت المقدسية علي التخفيف عنها فأهدتها مزهرية، وعادت فيروز تحكي لعاصي، لتولد مغناة القدس العتيقة :
مريت بالشوارع
شوارع القدس العتيقة
قدام الدكاكين
اللي بقت من فلسطين
حكينا سوا الخبرية
عطيوني مزهرية
قالولي هيدي هدية من الناس الناطرين
وكانت هذه المغناة مجرد مدخل لألبوم كامل هو القدس في البال ، الذي شكلت خيوطه ذاكرة المكان وجسدته غنائيات زهرة المدائن، القدس العتيقة، يافا، بيسان، ياربوع بلادي،... ، لتكرس مع خيوط الرجوع راجعون، أجراس العودة، جسر العودة، سنرجع يوما، ... نسيج المقاومة وخيوط وإشعاعات الروح التي تقاوم موات الجسد العربي.
ولابد من إشارة إلي أن المقوم الأساسي الأول للنجاح الفيروزي في كل أدوارها- إلي جوار الدأب والجهد الهائل- هو عملها علي التمثل الصادق الحي لهذه الأدوار.
مرحلة من عمر الفن العربي
لقد اجتمعت في صوت فيروز مع النشأة خصائص الأداء الطقوسي الكنسي مع موسيقي العربية كما تجلت عبر تجويد القرآن الكريم والغناء العربي التقليدي.. فبعض أغانيها ارتكزت صوتيا علي الموشح التقليدي، وأخري قدمت من جديد أعمالاً قديمة بشكل حديث كأعمال الشيخ سيد درويش، و... وكل ذلك مما أكسب فيروز طابعاً صوتياً متميزاً، بل ومتفردا.
لقد جاءت الأغنية الفيروزية لتتجاوز التطريبية التقليدية، وكانت ذات مواصفات خاصة من حيث الأداء، ومن حيث تشكيل الصورة وتوظيف الموسيقي وصناعة المتخيل، وصارت هناك معها أغنية شعبية لبنانية منفتحة علي العرب وقضاياهم بل وقضايا الإنسان عامة، بعيدا عن الخطابية والشعارات، ذلك رغم أن فيروز غنت لمصر (مصر عادت شمسك الذهب) وللقدس وبغداد ودمشق ومكة ويثرب وعمان بل وصدح صوتها بالسيرة المحمدية و... .
ولا يمكن أن يفوتني قبل إنهاء هذه العجالة الإشارة إلي كبرياء الفنان القادر من خلال واقعة دعوة فيروز للغناء في حفل عشاء رسمي أقيم في فندق بريستول علي شرف شاه إيران، إذ كان ردها علي رئيس وزراء لبنان آنئذ: أنا لا أغني إلا علي خشبة مسرح ولا أغني لأشخاص . الأمر الذي استتبع إصدار رئيس الوزراء أمرا بمقاطعة أغاني فيروز في الإذاعة اللبنانية.
ومنذ ظهورها الأول علي المسرح عام 1957 سافرت فيروز كثيرا.. غنت علي مدرج فيلادلفيا الأثري في عمان، كما غنت في القاهرة وبغداد وتونس والرباط والجزائر و... . بل وسافرت إلي المهاجرين العرب في مختلف مدن العالم.. وقد قدمت كثير من هذه المدن مفاتيحها الرمزية امتنانا إلي فيروز، وإن ظل الأقرب إلي قلبها وقلوبنا ذلك المفتاح المصنوع من خشب الزيتون لمدينة القدس، حيث تظل كوكبة زهرة المدائن هي التلخيص الأوفي لعلاقة الجمهور العربي الأوسع بالمؤسسة الفيروزرحبانية.. ومن هنا استحقت فيروز أن يحملها المقدسيون مفتاح مدينتهم (عام 1968)، كما استحقت أن تمنحها السلطة الوطنية الفلسطينية جائزة القدس (1997)، مع القول المأثور لعميد الظاهرة الشعرية الفلسطينية الموازية لزهرة المدائن الفيروزية، قول محمود درويش: مع صوت فيروز نحن نكتشف الجديد دائما .
ولعلها نقطة مناسبة لإشارات يتعذر بدونها فهم التكوين الإبداعي لفيروز.. لعل أولها أن الإيمان العميق بالمولي عز وجل مكون أساسي في وجدان فيروز، وناهيك عن أنها تغني وكأنها تصلي في خشوع ووقار، فإن الإيمان هو الذي ساعدها علي تحمل كوارث كبيرة، إذ عاش ابنها هلي أمامها كسيحا طوال عمره، وفقدت ابنتها ليلال علي نحو درامي كما فقدت زوجها. أما الإشارة الثانية فإلي سمة وثيقة الصلة بالأولي هي التقشف الروحي، فليس غريبا أن لا يعرف بيت أسرة فيروز الفقيرة السجاد، لكن من اللافت للنظر أن تقول فيروز بعد أن وصلت القمة أنها مازالت تحن حتي الآن للحصير.. المهم أن هذا التقشف هو ما ساعدها علي مجابهة المحن بنوع من الصلابة والصمت والكتمان- رغم الحزن المتأصل- مما زادها جلالا ومهابة.
لقد تجلت موهبة فيروز في البداية من خلال أشعار وموسيقي الرحابنة، لكن كثيرا من الشعراء العرب الكبار سرعان ما سطروا أشعاراً لصوتها، ومن هؤلاء: عمر أبو ريشة، نزار قباني، سعيد عقل، الأخطل الصغير، أبو سلمي، ناهيك عن جبران خليل جبران، ميخائيل نعيمة، هارون هاشم رشيد. هذا كما اتسعت قائمة من لحنوا لفيروز.. ولعل أبرز هؤلاء فليمون وهبة، الذي تميزت ألحانه- علي خلاف ألحان الرحابنة التي كانت تنزع نحو التجديد والتطوير الموسيقي- بروحها الشرقية الواضحة، مما جسد فيروز في دور المطربة الشرقية بامتياز. وقد أحبت فيروز شخصية فليمون المرحة الخفيفة الظل، مثلها مثل ألحانه، فكثيراً ما كان يفاجئها علي المسرح بالخروج عن النص والارتجال، مما كان يضطرها إلي كتمان نوبات الضحك المتفجرة وراء الكواليس.. كان فليمون موهوباً بالفطرة، وعند التحضير لأي عمل، كان الرحابنة يقدمون له- كما أشرنا- الآراء المتباينة، ويفوضونه حرية الاختيار، لأنهم يعرفون أنه يختار الأجمل دوماً.
وصحيح أن فيروز تعاملت مع الحرب الأهلية في لبنان بالدعوة إلي الحفاظ علي لبنان الأخضر الحلو . وصحيح أنها تعودت أن تقول: أنا في حالة حلم دائم. أحب عملي كثيرا وأعيش يوميا حالة انتظار لأي شيء مهم جديد قد يضيف خطوة إلي رحلتي الفنية. أنا حريصة علي التجدد. فالحياة هي المستقبل، والزمن لا يرحم. إنه يتطور باستمرار وعلينا أن نتطور معه. علي الفنان أن يكون مستقبلي. يدخل الطريق الشائك والصعب الذي يبحث فيه عن جمال الكائن ويكسر السائد .
صحيح أنها قالت كل ما سبق لكنها هي القائلة أيضا: ما من شيء عظيم تكرره الحياة مرتين و أشعر اليوم بحاجز كبير يفصلني عن (بحبك يا لبنان) ثمة لغة عاشت، لكنها دفنت.. وأصبحنا مضطرين إلي ابتكار لغة جديدة بعد أن ضاع الحلم في بشاعة الواقع. لقد غنيت للحلم. وفي كل ما غنيت كانت هناك دعوة للحلم. وأصبحت أقول ليتني لم أعرف الواقع وبشاعة الواقع الذي فرض علينا .
يأخذنا صوت فيروز المخملي الحنون القوي الشجي المفرح الأسطوري.. يأخذنا دوما إلي آفاق الأحلام، يدغدغ خيالاتنا ويسمو بأذواقنا ويلمس الهواجس منا، يُشيع الدفء في أرواحنا.. ومن هنا عشنا نغني مع فيروز للحب والعمل والربيع والتقدم والقمر، ناهيك عن لبنان ومصر ومكة ويثرب وبغداد ودمشق، ومعها قضايا الحرية والعدل والمستقبل.. لكن تظل كوكبة زهرة المدائن هي التلخيص الأوفي لعلاقة الجمهور العربي بالمؤسسة الفيروزرحبانية، إذ شكلت الظاهرة الغنائية العربية الجماهيرية الموازية والمتكاملة مع الظاهرة الشعرية الفلسطينية (حاصر حصارك.. لا مفر/ سقطت ذراعك فالتقطها/ واضرب عدوك.. لا مفر/ وسقطت قربك فالتقطني/ واضرب عدوك بي../ فأنت الآن حر)، ليس فقط لتحولا معا- الظاهرتان- الوجود العربي بعيدا عن التناقض بين كوننا نعيش شكلا في العالم الحديث وكوننا جوهرا خارجه.. لتحولات من مأساة التناحر بين شرارم طائفية متناحرة متخلفة يفعل بها الفاعلون ما يريدون، إلي صناع حياة قويمة ووطن ونضال، للعيش في العصر، عيش الفاعلين مع شعوبه.
تري ما هي حكاية التكوين الإبداعي لزهرة المدائن العربية.. فيروز؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.