حريق يلتهم 4 أفدنة قمح في قرية بأسيوط    متحدث الصحة عن تسبب لقاح أسترازينيكا بتجلط الدم: الفائدة تفوق بكثير جدًا الأعراض    بمشاركة 28 شركة.. أول ملتقى توظيفي لخريجي جامعات جنوب الصعيد - صور    برلماني: مطالبة وزير خارجية سريلانكا بدعم مصر لاستقدام الأئمة لبلاده نجاح كبير    التحول الرقمي ب «النقابات المهنية».. خطوات جادة نحو مستقبل أفضل    ضياء رشوان: وكالة بلومبرج أقرّت بوجود خطأ بشأن تقرير عن مصر    سعر الذهب اليوم بالمملكة العربية السعودية وعيار 21 الآن ببداية تعاملات الأربعاء 1 مايو 2024    600 جنيه تراجعًا في سعر طن حديد عز والاستثماري.. سعر المعدن الثقيل والأسمنت اليوم    تراجع أسعار الدواجن 25% والبيض 20%.. اتحاد المنتجين يكشف التفاصيل (فيديو)    خريطة المشروعات والاستثمارات بين مصر وبيلاروسيا (فيديو)    بعد افتتاح الرئيس.. كيف سيحقق مركز البيانات والحوسبة طفرة في مجال التكنولوجيا؟    أسعار النفط تتراجع عند التسوية بعد بيانات التضخم والتصنيع المخيبة للآمال    رئيس خطة النواب: نصف حصيلة الإيرادات السنوية من برنامج الطروحات سيتم توجيهها لخفض الدين    اتصال هام.. الخارجية الأمريكية تكشف هدف زيارة بليكن للمنطقة    عمرو خليل: فلسطين في كل مكان وإسرائيل في قفص الاتهام بالعدل الدولية    لاتفيا تخطط لتزويد أوكرانيا بمدافع مضادة للطائرات والمسيّرات    خبير استراتيجي: نتنياهو مستعد لخسارة أمريكا بشرط ألا تقام دولة فلسطينية    نميرة نجم: أي أمر سيخرج من المحكمة الجنائية الدولية سيشوه صورة إسرائيل    جونسون: الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين داخل الجامعات الأمريكية نتاج للفراغ    قوات الاحتلال تعتقل شابًا فلسطينيًا من مخيم الفارعة جنوب طوباس    استطلاع للرأي: 58% من الإسرائيليين يرغبون في استقالة نتنياهو فورًا.. وتقديم موعد الانتخابات    ريال مدريد وبايرن ميونخ.. صراع مثير ينتهي بالتعادل في نصف نهائي دوري أبطال أوروبا    معاقبة أتليتيكو مدريد بعد هتافات عنصرية ضد وليامز    موعد مباراة الأهلي والإسماعيلي اليوم في الدوري والقنوات الناقلة    عمرو أنور: الأهلي محظوظ بوجود الشناوي وشوبير.. ومبارياته المقبلة «صعبة»    موعد مباريات اليوم الأربعاء 1 مايو 2024| إنفوجراف    ملف رياضة مصراوي.. قائمة الأهلي.. نقل مباراة الزمالك.. تفاصيل إصابة الشناوي    كولر ينشر 7 صور له في ملعب الأهلي ويعلق: "التتش الاسطوري"    نقطة واحدة على الصعود.. إيبسويتش تاون يتغلب على كوفنتري سيتي في «تشامبيونشيب»    «ليس فقط شم النسيم».. 13 يوم إجازة رسمية مدفوعة الأجر للموظفين في شهر مايو (تفاصيل)    بيان مهم بشأن الطقس اليوم والأرصاد تُحذر : انخفاض درجات الحرارة ليلا    وصول عدد الباعة على تطبيق التيك توك إلى 15 مليون    إزالة 45 حالة إشغال طريق ب«شبين الكوم» في حملة ليلية مكبرة    كانوا جاهزين للحصاد.. حريق يلتهم 4 أفدنة من القمح أسيوط    دينا الشربيني تكشف عن ارتباطها بشخص خارج الوسط الفني    استعد لإجازة شم النسيم 2024: اكتشف أطباقنا المميزة واستمتع بأجواء الاحتفال    لماذا لا يوجد ذكر لأي نبي في مقابر ومعابد الفراعنة؟ زاهي حواس يكشف السر (فيديو)    «قطعت النفس خالص».. نجوى فؤاد تكشف تفاصيل أزمتها الصحية الأخيرة (فيديو)    الجزائر والعراق يحصدان جوائز المسابقة العربية بالإسكندرية للفيلم القصير    حدث بالفن| انفصال ندى الكامل عن زوجها ورانيا فريد شوقي تحيي ذكرى وفاة والدتها وعزاء عصام الشماع    مترو بومين يعرب عن سعادته بالتواجد في مصر: "لا أصدق أن هذا يحدث الآن"    حظك اليوم برج القوس الأربعاء 1-5-2024 مهنيا وعاطفيا.. تخلص من الملل    هل حرّم النبي لعب الطاولة؟ أزهري يفسر حديث «النرد» الشهير (فيديو)    هل المشي على قشر الثوم يجلب الفقر؟ أمين الفتوى: «هذا الأمر يجب الابتعاد عنه» (فيديو)    ما حكم الكسب من بيع وسائل التدخين؟.. أستاذ أزهرى يجيب    هل يوجد نص قرآني يحرم التدخين؟.. أستاذ بجامعة الأزهر يجيب    «الأعلى للطرق الصوفية»: نحتفظ بحقنا في الرد على كل من أساء إلى السيد البدوي بالقانون    إصابات بالعمى والشلل.. استشاري مناعة يطالب بوقف لقاح أسترازينيكا المضاد ل«كورونا» (فيديو)    طرق للتخلص من الوزن الزائد بدون ممارسة الرياضة.. ابعد عن التوتر    البنك المركزي: تحسن العجز في الأصول الأجنبية بمعدل 17.8 مليار دولار    نصائح للاستمتاع بتناول الفسيخ والملوحة في شم النسيم    "تحيا مصر" يكشف تفاصيل إطلاق القافلة الإغاثية الخامسة لدعم قطاع غزة    القوات المسلحة تحتفل بتخريج الدفعة 165 من كلية الضباط الاحتياط.. صور    أفضل أماكن للخروج فى شم النسيم 2024 في الجيزة    اجتماعات مكثفة لوفد شركات السياحة بالسعودية استعدادًا لموسم الحج (تفاصيل)    مصدر أمني ينفي ما تداوله الإخوان حول انتهاكات بسجن القناطر    رئيس تجارية الإسماعيلية يستعرض خدمات التأمين الصحي الشامل لاستفادة التجار    الأمين العام المساعد ب"المهندسين": مزاولة المهنة بنقابات "الإسكندرية" و"البحيرة" و"مطروح" لها دور فعّال    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الست المصرية
ب 100 راجل
نشر في آخر ساعة يوم 31 - 03 - 2015

من يقول لك إنه اختبر الصعيد دون أن يتعرف علي المرأة الجنوبية فلا تصدقه.. مفتاح الصعيد وسر أسراره محفوظ في قلب امرأة لا تشبه إلا نفسها.
تسلخ الأم الصعيدية الرقة من وجه زوجها.. تنصبه رمزا للخوف في حياة أطفالها.. هجرة الرجال إلي الشمال بحثا عن فرص عمل يندر وجودها في الجنوب الفقير فرض عليها أن تكون بديلا عن الرجل فأهدرت أنوثتها واستبدلتها بمشاعر خشنة.
تشرق الشمس علي أرض الجنوب فتجد في انتظارها يقظة عيون أمهات، يجهزن أنفسهن للعمل، تمارس الواحدة منهن واجبها كسيدة للبيت؛ تنظف، وتعد الطعام، وتغسل الأواني والملابس،.. حتي إذا دبت الحياة في الأرض اتجهت إلي قدرها لتقف علي أرضها بأقدام راسخة، ، تغرس البذور، وتسقي الزرع، وتحرس الثمار من اللصوص.
ورثت فن الحزن (العدودة) من جدة عربية احتفت بالموت ووجدت فيه اكتمالا للرجولة فقدمت له أبناءها كقرابين.
وأغرب ما تراه أرملة صعيدية قتل رجلها، لن تلمح في قسماتها الضعف، عيناها الجافتان تنظران إلي انتقام قادم، فيستمد منها الذكور القوة في كبح جماح مشاعرهم، يتنافسون علي تنظيف سلاحهم ليغسلوا عارهم بدماء تفرح الأم لرؤيتها تسيل من كف أتي بالثأر، فتطلق زغرودة تعلن فيها عن تفوقها في تربية رجل !
والمرأة هي من يرسم قواعد اللعبة في الصعيد، صورتها التي تبدو عليها كذليلة أمام سلطة الرجل، يعرف الرجل أنها مجرد فعل كارتوني لن يستمر، فإذا ما جاء الليل وأغلق عليهما باب الحجرة راح يستشيرها فيما يفعل فتدبر له أموره، وتشير إلي طريق يجب عليه أن يسلكه.
يدرك الرجل الصعيدي أن المرأة أداة رجولته وسر عظمته.. لأن الست المصرية ببساطة ست ب 100 راجل.
مكفيين.. وموفيين
.. وعايشين في نعمة
في ليلة شتوية انقطعت فيها الكهرباء عن قرية حجازة بقنا، تجولت السيدة آسيا في بيتها لتطمئن علي أحوال البيت لتلحق بدورها بالنائمين بعد يوم شاق من العمل، وعندما اقتربت من زوجها المريض، لم تسمع أنينه، قربت الشمعة من وجهه فوجدت أن السر الإلهي خرج من الجسد الضعيف.
كل ما فعلته آسيا أنها غطت الوجه الذي صاحبها 65 عاما، ترحمت عليه، ومشت علي أطراف قدميها حتي لا توقظ ابنها، خرجت من البيت في طريقها إلي منزل شقيق زوجها، أيقظت سلفتها، لتوقظ بدورها زوجها وجلست معه تتناقش في إتمام مراسم الدفن.. حتي إذا تم لها ما تريد، وجهزت كل مستلزمات الغسل وأتت بالكفن، وأرسلت إلي الحفار ليقوم بعمله، أيقظت ابنها في هدوء وهي تخبره بثبات ليعد نفسه لاستقبال الرجال.
يقول ابنها نصر الكاشف - مدرس لغة إنجليزية - إن والدته كانت قليلة الكلام، يشهد لها الناس في القرية بالتماسك في المواقف الصعبة، يشعرك بالقسوة.. يصمت ويقول: لحقت بوالدي فأدركت حينها مدي ضعفها!
يحفظ نصر تاريخ والدته.. يقول إنها تركت أهلها في حجازة وانتقلت مع والده إلي السباعية القريبة من إدفو حيث مكان عمله في شركة نصر للفوسفات. كان الحال عسيرا.. وكانت أمي تدبر أمورها باكتفاء ذاتي.. ترفض المساعدات التي تأتي من والدها وتقول له: مكفيين.. وموفيين.. وعايشين في نعمة.
كان والدي ابن عمها، دائما يستشيرها فيما يفعل، أما مشاكل أخواتي البنات الخمس مع أزواجهن فلا تصل إليه، كانت تقوم بحلها وحدها وحتي لا تتسرب المشكلة إلي أحد
يذكر نصر أن آسيا تلقت صدمات متتالية فقدت شقيقها، وزوجها، وأختها، في أعوام متقاربة، وكانت النكبة في فقد ابنها (شقيقي) الذي كان بمثابة نور عينيها، لأنه أتي بعد ثلاث بنات.. توفي صبري في حادث بالسعودية حيث كان يعمل، أما العجيب فهو تماسكها ونهرها للبنات اللائي يبكين، وقيامها بضيافة المعزيات بعزيمة لا تفتر وتأكيدها أن صبري لم يمت.. فقد ترك ولدين.. لكني كنت أتسلل في الليل إلي حجرتها فأسمع نشيجا مكتوما.
لم يترك شقيقي نقودا لولديه فقامت أمي علي تربيتهما وكنا نتعجب من قدرتها علي تدبير الأمور رغم ضيق الحال، وعدم تفريطها في القراريط التي ورثتها عن أبيها رغم كل الأزمات الطاحنة التي تمر بها.
يشير نصر إلي كنبة صغيرة وسط البيت ويقول: هنا كانت تجلس وتدير شئون البيت، فنجتمع حولها ونطيع أوامرها الصارمة.
أصيبت بكسر في فخذها وتعجب الأطباء من إرادتها القوية التي مكنتها من مغادرة المشاية والسير علي أقدامها في وقت قصير، وكأنها تكذب ما قاله الطبيب من أن حالتها حرجة ولا يمكن أن تسير علي قدميها من جديد.
وعندما أصيبت بنزيف في المخ وذهبت إلي حجرتها منهارا ربتت علي كتفي وقالت: ماتتخدعش قوي.. ولم تخبرني بموتها إلا من خلال رؤيا شاهدتها فيها وهي تلوح بيدها وتقول: مع السلامة يا نصر!
يتذكر نصر رجلا علي باب الله كان يأتي علي فترات فتصنع له آسيا قطعة من الجبن وكوبا من الشاي، وتدس في جيبه مساعدات مالية، في الوقت الذي كانت فيه مقابلة الرجال نوعا من الكوارث.. وعندما رحلت آسيا جاء الرجل ليسأل عنها، لم يصدق أنها ماتت وبكي.
انتصرت علي الفقر وهزمها المرض
وهيبة .. عروس النيل
ثلاثة أيام هو الوقت الذي استغرقه سباعي وأهل النجع بمساعدة الغطاسين لانتشال جثة أمه السيدة وهيبة من النيل، لم يتذوق خلالها الرجال النوم بينما كانت النسوة يبكين بحرقة امرأة فعلت كل شيء لتنقذ ابنها من براثن الفقر، وحين تم لها ما أرادت وأصبح سباعي يمتلك بيتا من المسلح، وثروة جعلت منه رجلا يملأ هدومه بين الرجال وتاجرا يشار إليه بالبنان، جاء من يهددها ليأخذ منها تحويشة العمر فقدمت له حياتها بنفس راضية ليترك الولد في حاله.
في قرية صغيرة جدا علي نيل قنا عاشت وهيبة مع زوجها في بيت صغير من الطوب اللبن، مسقوف بجذوع النخيل والكراتين البالية وقمامة البيت، رحل الزوج وترك لها سباعي وزهيرة وقلة الحيلة، لم يترك الزوج معاشا، أو أرضا تنفق من خيراتها علي البطون الخاوية، فكانت تفترش الشارع ببضاعتها الرخيصة من الحلوي في قفص، وما تنتجه دجاجاتها من البيض لتوفر للأسرة لقمة عيش.
كانت وهيبة ترفض أن تتلقي أي صدقة من أحد، سنوات طويلة مضت ووهيبة تدخر من تجارتها البسيطة لتنمو، وتتوسع كانت- بشهادة الجيران- تتناول وجبة واحدة في اليوم حتي تتمكن من توسيع نشاطها فتاجرت في ليف النخيل والتمر والأغنام، واستطاعت بعد عشرات السنين أن تحقق حلمها وتبني لابنها بيتا من المسلح، وأعطته مالا ليتاجر به فكان يسافر إلي القاهرة ويبيع التمر في العاصمة ويعود بالربح.
حتي إذا استقر الحال، ووجدت أولاد ابنها يتعلمون في المدارس ويقفزون من سنة إلي أخري، وامتلأ البيت بالطعام، داهمها المرض فأخذها سباعي إلي الأطباء الذين أجروا لها التحاليل والفحوصات وكتبوا لها أدوية كثيرة كان ينفق عليها الابن الكثير من النقود.
طلبت الأم من ابنها أن يتركها ولا يعبأ بمرضها، ونصحته بعدم الإنفاق علي عجوز رجلها والقبر، وأن يوفر هذه الأموال لرعاية أولاده، كانت تصرخ في وجهه وتتشاجر معه، لكن سباعي لم ينصت للنصيحة وكان يأتي لها بالأطباء إلي البيت، وبالدواء الغالي من الصيدليات.
أصيبت وهيبة بالصدمة وهي تسمع من الناس الأسعار العالية للحقن التي تأخذها يوميا، فضلا عن أدوية الشرب والبلع.
كررت وهيبة رجاءها للابن أن يتوقف عن هذا الصرف.. ويغلق حنفية النقود التي فتحها مرضها، قالت له: سنعود فقراء كما كنا.. لقد أنفقت عمري في سبيل أن تعيش مستورا، ولم أمد يدي إلي أحد، فلماذا تضيّع شقائي!
وعندما تركها سباعي وذهب لينام لم يكن يظن أن والدته تدبر شيئا رهيبا في رأسها، وعندما أتي الصباح ولم يجدها في البيت أدرك كل شيء.
بحث سباعي وأخته وزوجته وأولاده عن أمه في كل ركن في البيت، سألوا عنها الجيران، وفتشوا النجع، لكنهم لم يجدوا إلا شالها نظيفا علي جرف النيل، وتحته شبشبها وقد نظمته كأنها تعرف أنه سوف يأتي من يستفيد بهذه الأغراض. كان قرار وهيبة أن تتخلص من حياتها حتي لا يقاسي سباعي وأخته ما عاشته من حياة صعبة وفقر مدقع، وألا تضيع تحويشة عمرها وتتركها كما هي لابنها ليستفيد بها في مستقبله.
عمرها 122 عاما ولديها 150 حفيداً:
مفيدة سليمان:
الصبر طبيب
لا يوجد شخص في قرية دندرة بمحافظة قنا لا يعرف السيدة مفيدة سليمان حسن، فالمرأة التي تجاوزت 120 عاماً يحفظ الجميع رحلة كفاحها ويستطيع أن يحكي لك عن عمرها الطويل ونظرها القصير، وضعف جسدها، وقوة ذاكرتها.. أمام البيت يستقبلنا حفيدها نصر هاشم (مقاول) بترحاب ويخطو بنا إلي داخل الدار لنشاهد مسنة نالت منها التجاعيد، وقوس الزمن ظهرها، تحاملت علي نفسها لتجلس، ومدت يدها الواهنة تصافحنا وتدعو لنا بالستر والصحة، وسردت ما تيسر من قصتها الطويلة مع الزمن.
مازالت مفيدة تتذكر يوم أن غرق زوجها في النيل وهو في طريقه إليهم، عائدا من الضفة الأخري، بعد أن باع بضاعته في السوق وجلب لهم الطعام من هناك، لكن المركب اهتزت بحمولتها الثقيلة من البشر والمؤن.. تقول مفيدة: وجد الناس الذين عليها أنفسهم في النيل، بعضهم من كان يعرف العوم فنجا، ولكن الموت كان في انتظار زوجي، ولم يجد أحدا ينقذه كما حدث مع أحمد الخواجة الذي انتشلته صابحة بنته من النيل!
نسألها عن قصة أحمد الخواجة فتقول: الناس حدانا سموه الخواجة.. كان غريبا عن البلد.. أتي من الأقصر مع ابنته الصبية وأغنامه التي يرعاها، واشتري له قطعة أرض وعاش بيننا، وكان يصطحب ابنته في مشاويره، وعندما غرقت المركب بمن فيها لم تتركه صابحة حملته علي ذراعها وأخذت تعوم بذراعها الآخر حتي وصلا سالمين إلي الشاطئ.
وتستطرد مفيدة: أحد أبنائي صدمه ما حدث لوالده، وهو يشاهد الصبية الصغيرة تنقذ أباها، عز عليه أنه لم يكن موجودا هو الآخر مع والده فيفعل مثلما فعلت.. وقال: يعني البنت أرجل مني.. وهرول إلي جرف النيل ليلقي بنفسه في المياه ويلحق بوالده.. ولكني لم أمهله وتشبثت بملابسه وأنقذته من الغرق فأنا أيضا لست أقل من صابحة.. هي انتشلت أبيها، وأنا حافظت علي حياة ابني وإخوته وقمت بتربيتهم علي أكمل وجه.
تصمت مفيدة ويكمل حفيدها نصر القصة: كانت جدتي تغزل الصوف من وبر الغنم لترعي أولادها، تصنع منه السجاد والمفروشات، وتخيط الأكفان لأهل القرية، وتستدعيها النسوة في المآتم لأنها تحفظ العدودة، وكانت كلما وجهتها شدة وعسر في الحال تقول: الصبر طبيب علي المغاليب.
ويواصل: تخطت جدتي ال 122 عاما ولكنها كما تري، تحمل ذاكرة قوية، ورغم ضعف بصرها فهي تتعرف علي الناس من خلال أصواتهم، وكأنها تري بأذنيها، وصار لها 150 حفيدا، وقد تبرعت ابنتها برعايتها ورفضت العرسان الذين تقدموا إليها حتي تسهر علي خدمتها، وتستقبل ضيوفها من الجيران الذين يأتون إليها لتحل مشاكلهم ويأخذون بمشورتها.
أشهر أم مثالية في مصر
صيصة.. 40 عاما في ملابس الرجال
فازت بجائزه المرأة المعيلة في محافظة الأقصر وكرمها الرئيس عبدالفتاح السيسي ضمن الأمهات المثاليات في عيد الأم.. إنها صيصة أبودوح النمر، صاحبة القصة الأغرب من الخيال، تكاد تكون ملحمة إنسانية تعبر بشموخ عن قوة المرأة المصرية وصمودها. وهبت حياتها كلها لابنتها هدي قبل أن تأتي إلي الدنيا ورفضت أن تتزوج بعد وفاة زوجها الذي توفي وهي حامل في الشهر السادس.. وخرجت للعمل في مجتمع يرفض عمل المرأة وقتها وبعد أن أغلقت كل الطرق في وجهها لم تجد بدا من ارتداء ملابس الرجال وتنكرت في زيهم الجلباب الصوف والشال والطاقية واقتحمت كل أعمالهم. لم تمنعها أناملها الرقيقة من العمل في صناعة الطوب داخل مقابر القرية وقالت إن العمل وإن كان شاقا إلا أنه يحفظ كرامتي ويكفيني مذلة السؤال.
كان ذلك منذ ما يزيد علي 42 عاما هي عمر وحيدتها هدي أحمد كامل التي فرغت حياتها كلها لها ولم تشأ أن تأتي لها ب «زوج أم» فالحياة في نظرها لا تساوي مسحة حزن للست هدي كما تحب أن تطلق عليها واستمرت الست صيصة في عملها تتنقل بين أعمال الرجال الشاقة وعملت في كل شيء حتي أعمال المعمار وحمل «قروانة» الأسمنت المسلح وأعمال الحفر وهي الأعمال التي ينوء بحملها أعتي الرجال وقالت إن سعادتي كانت تتجلي يوم أن أعود لابنتي بكل ما تشتهيه.
سألتها: هل تعرضت لأية مضايقات في حياتك. قالت: كتير قوي.. بس أنا كنت أضرب المتنطعين بالروسية وأعرف كيف أضعهم عند حدهم.
واستطردت صيصة: رفضت أن أمد يدي إلي أي إنسان حتي كبرت وحيدتي وتزوجت ورزقت بخمسة من الصبية بعدها تصورت أنه قد آن لي أن أستريح ولكن فجأه سقط زوج ابنتي صريعا لمرضه وأصبحت ابنتي وأطفالها الخمسة في كنفي فخرجت للعمل مرة أخري ولكن في هذه المرة كان عملي بصندوق مسح الأحذية أحسست أنها مهنة بسيطة وغير مرهقة وتكفي عن ذل السؤال، ومازلت أعمل علي صندوق الورنيش رغم تجاوزي 64 عاما من أجل الإنفاق علي ابنتي وزوجها وأبنائهما الخمسة.
وعن حياتها اليومية تقول: أستيقظ مبكرا قبل الفجر بساعة أصلي وأخرج حاملة صندوق مسح الأحذية للبحث عن الرزق وأعود قبل العشاء لأنام مبكرا وأضافت بالتأكيد: أن صحتي لم تعد كما كانت من قبل إلا أنني أمام ستة أفواه مفتوحة فأخرج إلي الشوارع أصول وأجول يلازمني الجلباب البلدي والعمامة ولا أحد يعلم سري إلا الله الذي منحني صوتا كصوت الرجال اكتسبته من خلال عملي في «دق» الطوب اللبن بقصد إعداده والمعيشة في القرافة جبانة أحمد عربي بالجبل ولايزال القالب الذي ربي ابنتي موجودا وتستطرد بلغة لا ينقصها الصدق وبعد ماتعبت من الطوب بدأت أشيل وراء البنائين بال «قروانة» كل دا عشان أحافظ علي ابنتي من التشرد ودا طبعا أكسبني احترام كل الناس واتخذت من أحد المقاهي مقرا لي لأمارس آخر أعمالي وهو مسح الأحذية فنلت احترام كل الناس وكان حلمي أزور قبر النبي صلي الله عليه وسلم فوجدت من أهل الخير من يهدي لي عمرة ولم يقف الاحترام عند المسلمين بس فقد كان لي صداقات من الأقباط وكنت عندما أطلب حلق ذهب للبنت يعطيه لي الأخ إدوارد وأخوه فوكيه أولاد أبو ستة والحاج عبدالهادي العماري أطلق علي لقب الأم المثالية هم يحبونني لأنهم عارفين إني «رجيله».
قلت للسيدة والآن ماذا تريدين؟! قالت أنا كل اللي عايزاه دلوقتي معاش لزوج ابنتي غير القادر علي العمل أنا عايزاه يقبض وبيت صغير يلمنا كلنا حيث إننا متفرقون ولو عملتوه سأدعو لكم ولو لم تفعلوه سأدعو أيضا لكم.
حليمة بنت محمد بن سالم:
البطن لما تقب .. الحزن يروح!
في الملقة - ذلك المكان المترامي حيث الحقول وبيوت قليلة متناثرة يقع بيت حليمة بنت محمد بن سالم، علي رأس أرض عرب الأطاولة بمركز الفتح بمحافظة أسيوط.. والليل ستّار وجسدها النحيل متسربل بعباءة سوداء، بهمة تغزي منقد النار بحطب ناشف، وماكينة ري بجانبها تصدر صراخها لكل أذن يقظة.. يأتي الزوج فيجد كوب الشاي قد أعد، يتناوله ويجلسان سوياً يتقاسمان الحكي عن أيام زمان، تظهر تباشير الفجر فتدعه يستريح وتحمل هي الفأس وتمضي إلي إنهاء بعض الأعمال مثل فتح سد القناة لتدخل مياه الري لحوض وتسد آخر. وحينما تنتهي تدخل البيت لتحلب الأبقار وتعد الإفطار حسب المواسم: البسيسة والعصيدة أو الحريرة شتاء وفي الصيف الفايش واللبن.. يكون البيت قد استيقظ، فتجلس لتوزع المهام علي النساء والأولاد. وعلي الجميع أن يعلن طاعته لها.. فزوجات الأخوال يقلن: حاضر يا عمة.. والأخوال يرضخن بنفس الكيفية.. كلمتها لا ترد.
تقرير الزواج واختيار الزوجات في يدها.. وعندما يتأخر الإنجاب تكون هي من تقود كل الخطوات التي تعرفها ابتداء من شق الندي في صباح يوم مكتمل قمره.. والذهاب للكحروتة حيث يتم دحرجة زوجة الابن. وحينما تمضي الأيام بدون حمل يكون قرارها: لازم تتزوج.. يعترض الخال.. فتسكته.. عاوزين عيال.. ولا عاوز تموت وعيالك في ضهرك!
قتل من دون أن ينفذ لها طلبها.. فوضعته علي فخذها.. وأمرت الصغار أن يقبلوا جبهته، أرادت أن تثبت المشهد في رأس كل واحد من أشقائه ليعرف ما عليه وما له.. وظلت تنتظر دوي طلقات الثأر لتفك حردة شعرها.. وتطلق زغرودة، ولم يطل انتظارها.
ينظر حفيدها مصطفي البلكي - كيميائي بالهيئة العامة للتأمين الصحي - إلي جدته حليمة التي شارفت علي التسعين بجواره ويقول: كنا صغارا نتقافز حولها، تصفو نفسها، فتنظر إلي البيت، تمسحه بنظرة طويلة، تقف عند كل جزء وحينما تتشبع نفسها تعود وظل ابتسامة رائقة علي وجهها وتقول: شايفين البيت ده. شلته كله علي رأسي.. الصغار ينظرون لبعضهم، فتربت علي رأسها وتقول: وحياة سيد أخوي (شقيقها الذي قتل شابا) وتكمل الجدة الحكاية:
كان دروة صغيرة علي رأس الحقل.. كاستراحة للمواشي تقيها حر الصيف.. وكان لابد أن يكون لي بيت.. حملت الطمي من الأماكن المرتفعة في الحقل.. وكومتها بجوار الدروة.. تكون تل من الطمي ففتحته ورويته، كنت أحمل الماء من بئر قريب يومها كنت قوية شابة في الأربعين من عمري والترع جافة.
وفي النهار كان زوجي يحول الطين المخلوط إلي قوالب طوب، ولم تمض شهور إلا وكان لدينا بيت، وفي أول يوم منحني عجوز البيت حقي حينما قال لولده (زوجي): لولا حليمة مكنش بقي لك بيت.. ثم نظر إلي وقال: عمار البيت من المرة واللي يعرف يبني بيت يعرف يعمره.. البيت مملكتي.. هنا حولت سنين عمري واستبدلتها بأولاد وبنات وأحفاد. وابتسمت.
تسكت ويكمل مصطفي: مات الجد، فخاصمت الفرحة الدار وكذلك كل شيء يجلب البهجة ابتداء من الضحكة وانتهاء بالمأكل والملبس، حرمت علينا أن يتم إشعال نار الكانون أو الوابور وارتداء زوجات الأبناء الملابس الفرايحي، وذات يوم منحت القاطنين البيت بنظرة، وجدت الأبناء مازالت لحاهم موجودة، والصورة الخاصة بالجد أمامها، أما زوجة الابن الأكبر فلمحت بطنها وقد انتفخت قليلا، فهزت رأسها، وقامت ونزعت الصورة من مشجبها، وحينما اعترض الابن لأكبر، قالت له ساخرة: روح احلق دقنك.. وحينما اعترض، قالت له: البطون لما تقب يبقي الحزن راح.
تلك القدرة التي منحتها لقب عمود الدار، جعلتها متحكمة في كل شيء، وجعل لها قاموسها الذي منه تستقبل كل لفظة، فلا يوجد شيء إلا وله تفسير، فحينما كانت تخاطب الجد ب«أخوي» كانت تعبر عن الرضا الذي يغلف تلك العلاقة وحينما تمر سحابة كانت تناجيه ب«واد الناس»، حتي نحن حينما تلمح أحدنا وقد التصق بأمه كانت تقول: هاتفضل طول عمرك واد الشقة.
الغريب في الأمر معاملتها للصغار فالصبي له النصيب الأكبر، وحينما تعترض بنت بسبب مناب صغير كانت تقول لها: الواد هايعمر بيت أبوه وأنت هاتعمري بيت جوزك.. هذا السلوك لم يفارقها فالزوجة التي تتأخر في الإنجاب تتولي علاجها فترافقها إلي الأطباء وحينما تجد أنه لا فائدة، والبطن مازال مشفوطا، ترافقها إلي «الكحروتة» بجوار المدافن وبجوار مقام أحد الأولياء، وهناك تستسلم الصبية ليدها، فتكفنها بشقتها ثم تحكم ربطها بتحويلها إلي جثة تم تكفينها، بأن تربطها جيدا من القدمين وعند الرأس، وتريح الجسد «الجثة» علي حافة الدحروجة ثم تدفع بها وتهرول خلفها، هي بمثابة إيزيس تبحث عن أشلاء أوزوريس لتعيد له الحياة.
هناك عند القاع تقف تنتظر الجسد ووقت وصوله تبدأ بفك الشقة، وبعينين جامدتين تطلب من زوجة الابن أن تمسح دموعها، ثم تصطحبها وتعود للبيت.. هذا آخر مشوار فإذا لم تنتفخ البطن يكون قرارها: لازم تتزوج.. يعترض الابن ويعبر عن حبه لزوجته، فتنهره: الحب مش هايجيب ولد.. الحب هايموت ولدك في ضهرك.. يرضخ الابن ويتخلي عن الحب، ويصبح مستعدا لقبول من تأتي بها لتنجب له الولد الذي تغزل له أول طاقية، وتلفه بجزء من جلبابها، وحينما يكمل سنة، يصنعون له كعكة كبيرة تضعها في عنقها معتقدة أنها إذا أكلت منها بعد ذلك فالوليد سيتمتع بنفس عمرها.
زوجها صافح عبدالناصر.. أم جمال:
من تعود الشقاء
.. انتابته الأمراض إذا رقد علي الفراش
في أسوان، وتحديدا في قرية «الشيخ هارون»، تعيش أم جمال، تاريخ ميلادها غير معروف، يقول ابنها جمال (38 عاما) إنها تخطت السبعين.. علي فراشها تئن من الوجع.. نسألها عن مرضها فتجيب: من يتعود الشقاء ويذوق طعم العذاب ..عندما يرقد علي فراشه تنتابه كل الأمراض.
يقول لنا جمال لقد تأخرتم.. لو أنكم أتيتم قبل سنوات قليلة لكنتم شاهدتم كومةٌ سوداء مِن ملابسَ عكرة في داخلها كيان آدمي، إلي جانب عمود خشبي مهمَل ينتصب في قارعة طريق. تصطف أمامها زنابيل، ومقاطف، وقفف، وأسبتة، ومكانس قوامها معطيات نخيل، حيث أمي تعرض منتجاتِها علي المارة، حتي شكلّت والعامود مَعلَما مهما يشار إليه، تَنبت مِن حين لآخر أعمدة أسمنتية لمنازلَ حديثةٍ، كان كل همِّها يتركز في تضفير سعف الجريد إلي بعضه في ضفائرَ طويلةٍ، ثم بمخرز وحبال رفيعة يتكون لديها زنبيل أو قُفَّة.
يضيف: السعف النابت علي جانبَي الجريدة يعد شيئا تافها بل يكاد أن يكون معدوم القيمة، لكنه بين يديها يتلوي علي شكل ضفائر، ثم يتحول إلي مقاطفَ وزنابيل لها معني.
أورثتها أمُّها قبل رحيلها حرفة تَحَسُّبَا لعوادي الزمن، وقد صدقتها حين لجأت إليها بعد وفاة أبي الذي لم يمهله القدر لرعايتهما.. لا تدري كيف اتفق لها الجلوس إلي هذا العمود دون غيره؟ تري أن هناك أعمدة أخري كان مجلس القرية غرسها بأماكنَ متفرقةٍ علي الطريق لتمتد فوقها أسلاك برق وهاتف.. سمعت البقالَ الذي افتتح متجرا في مواجهة مجلسها بإحدي تلك البنايات الحديثة يقول إن هذه الأعمدة باتت بلا معني، إذ إن رئيس المجلس القروي كان قد عدل عن مد أسلاك فوق الأعمدة مستبدلا إياها بكابلات أرضية.
اعتبرت أن كلام البقال تعريضٌ بجلستها، لم تُعِره اهتماما.. عادت إلي مجلسها، أمسكت بنواة البلح، راحت تضرب الحظ وتخطط علي الأرض.. مِن حركات النواة تعرف حظها، أيقنت أن حياتها سوف تسير في نسق واحد، طريق يملؤه الشقاء والعناء، امتطت علي شفتيها ابتسامة كسولة وراحت بصوت عالٍ تلفت أنظار المارة إلي بضاعتها حيث تتخذ النسوة المترددات علي السوق مِن مجلسها إلي جوار العمود استراحة، أو محطة للقاء.
منهن مَن يبتعن بعض منتجاتها، والأهم أنها تجد أُنسًا في مجلسهن إليها، وتجد بنفسها امتنانا لعمود التصقت به لسنوات، حتي شجبت إليه مظلة مِن نسيج أجولة خيش قديمة تقيها وجليسيها أشعة شمسٍ حارقة.
يصمت جمال وينظر إلي أمه قائلا: دائمًا أشعر أن رائحة الليف المبلول، شرائح العرجون القديم، طزاجة الجريد، امتزجت ورائحة جسدها الذي يتصبب عرقا تحت وهج حرارة الشمس.. لكنها كانت تحرص عصر كل يوم خميس أن تستبدل ملابسها العكرة بأخري نظيفة، بعد أن تستحم وتمشط شَعرها تكتحل استعدادًا لزيارة أسبوعية لفقيدها بمرقده الأخير.
لاحظتْ أن مبيعاتِها مِن المكانس والسلال تناقصت وقل الإقبال عليها.. وتفهمت السببَ عندما رأت صاحب (الماركت) بمواجهتها يعرض مكانس وسلالا بلاستيكية ذات ألوان زاهية جذابة أفضلَ كثيرا مِن منتجها.. أسقط في يدها، وعزمت الكف عن إنتاجها مكتفية بالزنابيل والقُفَف والأقفاص. إحساس مريع بأنها تنكمش علي نفسها ببطء علي غير إرادة..
وأخيرًا غزت سماءَ حياتِها واقعةٌ زلزلت معنوياتِها بشدة.. ذات يوم انقض عليها عمال وموظفو مجلس القرية ليُقصِوها عن موضع ارتبطت به علي مدي سنوات بكل غلظة، موضع بلغ بها حدا مِن تآلفٍ وانسجام لا يقل عن ألفة منزل قضت به الشطر الأكبر من حياتها.. ألقوا بكل منتجاتها بعيدا عن العمود الخشبي، بعثروا كيانها دون اعتبار لشيء.. ولولة وصراخ تلازما مع لم شعث دون أن يهتم لها أحد ..لكن الأهم أنهم اقتلعوا العمود عن موضعه، فلم تدر كيف عادت إلي منزلها بما تبقي من منتج فقدتْ أغلبه، عادت حزينة يائسة كأن عائلها مات وما فارقها سوي هذه الساعة.. أذهلها جحود ونكران، وما أسعفتها كلمات احتجاج تواكب ما اعتراها من سخط وحنق، فانغلقت علي نفسها بدموع تركتها تنساب في خطوط متعرجة علي وجنتيها دون أن تنفضها.
وعندما هدأت أخيرا، لجأت إلي ركن بقاع منزلها، وقد عزفت عن الطعام.
وبالكاد نسمع صوت السيدة أم جمال فننصت لها وهي تحكي حكايتها قائلة: كنت صغيرة، وأمي مريضة طريحة الفراش. وأبي يخرج من قبل طلوع الشمس حتي تغيب.. وعندما يأتي بدون طعام لنا، ولكنه دائما يجد طعاماً علي الطبيلة الصغيرة.. أجمع له العيش الجاف وبصلة. وأجهز (السخينة) لأخوتي الصغار. وأدس نصيب أمي.
كنت أسمع لأبي، وأمسح دموعه الساخنة. أهون عليه حتي ينام وأغطيه، بعدما أقرأ له مما أحفظ من القرآن الكريم.. ولا أنام قبل أن أطمئن علي أمي المريضة، ولكن في هذا اليوم لم تحرك ساكنا ماتت .لأن أبي لم يكن يملك حتي الدواء
فأصبحت سيدة البيت كبرت، كنت جميلة وعايقة والكل يريد الزواج مني، لكن علي العروسة أن تجهز جهازها المطبخ ومستلزمات البيت والأب لا يملك هذا المال، حتي جاء ابن العم الذي وافق علي أن يحضر كل شيء ويأخذني بالهدمة التي عليّ..
حرمني الفقر من ليلة العمر التي تنتظرها أي فتاة.. لم تكن هناك زفة ولا فرح خرجت من بيت أبي الي بيت ابن عمي
وأغلق علينا الباب. أنجبت بنتا ثم بنتا حتي أصبحن خمس بنات.
كره زوجي حياتي معه وقرر أن يتزوج بأخري تنجب له الذكور، فذهبت إلي المشايخ والأولياء، والمقابر .يخرج الحفار جثة طفل صغير فأمر عليه، ولكن بلا فائدة
وعندما زارت الحصبة القرية، دخلت الحصبة علي البنات .راحت تقطفهن واحدة تلو الأخري. ولم يبق سوي واحدة.
فحدثت مجاعة وفقر، فهاجر زوجي جنوبا إلي السد العالي، فنزحت معه مع ابنتي، وكنت حاملا.
صافح زوجي الزعيم جمال عبدالناصر، وحلم بأن ينجب ولدا ويطلق عليه جمال، ولأول مرة يدخل المسجد ويصلي ويدعو الله أن تكون تلك المرة ولدا، فأكرمنا الله بجمال ومن بعده رزقنا الله بأربعة غيره، لكن زوجي أصيب بانزلاق غضروفي، جعله طريح الفراش لا يقوي علي العمل، فرجعت من جديد رجل البيت امتهنت أكثر من مهنة حتي أصرف علي بيتي، صاحب البيت طردنا حتي يهدم البيت ويبني عمارة، فسكنت بجوار المقابر معي البنت وخمسة ذكور بالإضافة إلي رجلي المريض.. قررت أن تموت من الجوع مقابل أن يحصل كل واحد علي شهادته.
فتعلموا مني الصبر والتحمل فكان كل واحد من منهم يعمل بالليل ويذهب إلي المدرسة بالنهار. وتمضي الأيام حتي حصل كل واحد علي شهادة، فأحسست بأني أديت مهمتي. فجلست في البيت لأعطي للمرض فرصته بأن ينهش جسدي.
«دولت» صاحبة الكلمة المسموعة:
الشجاعة راجل لراجل ودراع بدراع
تسافرالدكتورة هويدا صالح أستاذة علم الجمال بذاكرتها إلي قريتها «اسمو العروس» بمركز دير مواس في أسيوط لتقص حكاية جدتها «دولت» صاحبة الكلمة المسموعة بين العائلة ومن كان الرجال يعودون إليها في كل تفصيلة.
تقول: كانت جدتي «دولت» ابنة عائلة بسيطة لا تقل فقرا عن عائلة جدي الذي لم يكن يمتلك من الدنيا سوي ذراعه. انتقلت مع زوجها الشاب الفقير إلي بيت من الطين في غرب البلد، وقررت أن تسانده، وتصنع معه حياة يتحدث بها رجال القرية ونساؤها في ليالي الشتاء الطويلة!
تفتخر هويدا بجدتها التي صارت بالفعل بطلة لحواديت النساء لصغارهن وتقول: كانت تربي الدجاجات والطيور المختلفة، فيبيع الزوج مع الصناعات اليدوية التي تصنعها الزوجة من ليف وجريد النخيل والبيض أيضا.
أنجبت منه ثلاثة من الذكور وصبيتين، وربت أبناءها هي وزوجها الفقير علي فكرة العدل، وكانت دائما تري أن القوة والشجاعة دون عدل تؤدي حتما للظلم.
مرت السنون الطويلة وأربعة من الرجال يعملون في حقول الآخرين أجراء وامرأة توفر وتدبر وتسير الأمور كما يجب، وكان السؤال الذي كنت دوما أطرحه علي والدتي: لماذا لم يشتر جدي أرضا ويصير غنيا وجدتي بهذه الحكمة، فتخبرني بيت جدي الصغير كان يقع علي منطقة حدودية بين المنيا وأسيوط، فتحول إلي محطة لاستقبال رجال الله القادمين من الشمال في طريقهم إلي الشيخ عبد الرحيم القناوي في الجنوب، ليستريحوا ويتزودوا بما يمكنهم من إكمال الرحلة إلي القطب الصالح، وكذلك القادمون من الجنوب في طريقهم للشمال، لزيارة آل البيت في القاهرة أو أقطاب الصوفية في طنطا والإسكندرية ولم يأت ضيف لجدي دون أن يجد طعاما وشرابا ومبيتا.
كبر الأبناء وزوجتهم جدتي وعاشوا جميعا في البيت الذي تطور وأعيد بناؤه وصار بيتا ينافس بيت الأغنياء في البلدة، وصارت جدتي سيدة الدار ملجأ كل فقير ومحتاج في البلدة، وصارت كذلك مقصد نساء البلدة يستشرنها في كل أمر، وتتدخل دوما لتحل المشكلات التي تعاني منها النساء. وأحيانا كثيرة تجبر الرجال علي تحقيق وعود قطعوها علي أنفسهم حتي تقبل وساطتهم وتصلح ذات البين بينهم وبين زوجاتهم.
الأبناء والبنات تزوجوا وتفرعت العائلة، وصار في بيت جدي عشرات من الصبية والصبايا الصغيرات، وأصرت جدتي أن يتم إرسال كل هذه الذرية إلي المدارس، وحين أخبرها جدي أن البنات مصيرهن للزواج، فلا يجب أن يذهبن إلي المدارس أصرت علي رأيها، وقالت له نحن نصنع منهم ثروة لا تقل أهمية عن الفدادين والأرض. وكانت تقول للجميع إنهم صنعوا فدادين لكنها وجدي صنعت بني آدمين، وتقصد أعمامي وأبي وشباب العائلة.
وكان عمي عنتر عقلانيا يلوم جدي علي بيتنا المفتوح وضياع النقود والصرف علي الغرباء فتقول له الجدة «عطية ربنا لأهل ربنا» فانفصل عمي عن العائلة حتي لا ينفق شقاه علي الغرباء، وحزن جدي وأبي وعمي الآخر لأنه يكسر جمع العائلة فقالت لهم: خليه يجرب.. حتي يعرف معني البركة. ورغم أن عمي صار غنيا إلا أنه لم يكن يكف عن الشكوي من زوجته ومشاكلها فتقول له: البركة منزوعة.. وكان طول الوقت في شقاء معه فلوس لكنه لا يشعر بالسعادة.
كانت تقول لأعمامي الشجاعة مش إنك تضرب ب»فرد».. الشجاعة تضرب راجل لراجل ودراع بدراع.. وعندما اعتدي عمدة القرية علي أحد فقرائها ونزع منه أرضه بسعر رخيص أمرت جدتي ابناءها أن يتصدوا له، فوقفوا بالنبابيت في الساحة أمام دوار العمدة الذي حاول أن يسترضيهم، واستدعي الشرطة، اقترح الأبناء أن يتصدوا أيضا للشرطة لكن حكمتها جعلتهم يخرجون من المعركة بأقل الخسائر.. اقترحت علي مجلس العائلة أن يقوموا بشراء سلاح يسلمه أحدهم للمأمور ليشيل القضية حتي لا تستبيح الشرطة المنزل وبالفعل وافق الضابط بعد مفاوضات.
عاشت جدتي تسعين عاما، ولم تمت إلا وفي العائلة أطباء ومهندسون وأساتذة جامعات ومدرسون ومحاسبون. ولم يكن جدي الفلاح الفقير يتصور أن يبني عائلة متسعة وقوية بهذا الشكل. ودائما كان يداعبها ويمزح معها أمامنا ويحدثنا عن جمالها وهي صبية وعن مساندتها له. فالنساء في الصعيد مصنع للرجال.
تقول هويدا: كنت أشاهدها في المغربية تملأ القلل بماء الورد وتغطيها بمناديل قماش بيضاء، وتفرغ المياه في الزير عندما تخبز تقعد أمام الفرن وتصيح: لموا عيالكم النار جاية أسألها من تحدثين يا جدة فتقول: سكان الفرن.. وأقول لها يخيل لي أن هناك من يحدثك في الفجر ويقول لك: قومي صلي واحلبي البهايم فتجيب بابتسامة دي عمرة الدار.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.