استقرار أسعار صرف الدولار مقابل الجنيه المصري في بداية تعاملات اليوم    لتر الزيت ب 83 جنيها.. قائمة أسعار السلع الأساسية اليوم 29-4-2024    «الضرائب» تؤكد عدم صدور تعليمات بشأن تطبيق الضريبة على الأرباح الرأسمالية    مدبولي: أي هجوم على رفح سيدفع الفلسطينين للضغط على مصر لعبور الحدود    رضا عبدالعال يكشف مفاجأة بشأن صفقة الزمالك الجديدة    فضل الدعاء وأدعية مستحبة بعد صلاة الفجر    خبير: مركز الحوسبة السحابية يحفظ بيانات الدولة وشعبها    ارتفاع جماعي لمؤشرات البورصة في مستهل تعاملات اليوم الإثنين    كلية إعلام بني سويف تنظم ورشة عمل عن الصحافة الاستقصائية    أبو الغيط يدعو أسواق المال العربية لتوطين الذكاء الاصطناعي    الأعاصير تتسبب في مقتل أربعة أشخاص بولاية أوكلاهوما الأمريكية    مدبولي: أكثر من 85% من المساعدات الإنسانية لغزة كانت من مصر    مطار أثينا الدولي يتوقع استقبال 30 مليون مسافر في عام 2024    رئيس كوريا الجنوبية يعتزم لقاء زعيم المعارضة بعد خسارة الانتخابات    "عشماوي": الإطار الوطني للمؤهلات يسهم في الاعتراف بخريجي المؤسسات التعليمية    أول رد فعل لاتحاد العاصمة بعد تأهل نهضة بركان لنهائي الكونفدرالية    بفرمان من تشافي.. برشلونة يستقر على أولى صفقاته الصيفية    قبل مشادته مع كلوب.. 5 وقائع مثيرة بطلها محمد صلاح في ليفربول    سبب توقيع الأهلي غرامة مالية على أفشة    «الأرصاد»: منخفض جوي وكتل هوائية أوروبية وراء انخفاض الحرارة اليوم    انطلاق اختبارات المواد غير المضافة للمجموع لصفوف النقل بالقاهرة    مصرع عامل وإصابة آخرين في انهيار جدار بسوهاج    مش عايزة ترجعلي.. التحقيق مع مندوب مبيعات شرع في قتل طليقته في الشيخ زايد    درس الطب وعمل في الفن.. من هو المخرج الراحل عصام الشماع؟    سور الأزبكية في معرض أبو ظبي الدولي للكتاب    جيش الاحتلال: هاجمنا أهدافا لحزب الله في جبل بلاط ومروحين جنوبي لبنان    أكلة فسيخ وسؤال عن العوضي.. أبرز لقطات برومو حلقة ياسمين عبدالعزيز في "صاحبة السعادة"    من هي هدى الناظر زوجة مصطفى شعبان؟.. جندي مجهول في حياة عمرو دياب لمدة 11 سنة    لأول مرة.. تدشين سينما المكفوفين في مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير    وزير الإسكان يتابع مشروعات الخدمات ورفع الكفاءة والتطوير بعدة مدن جديدة    أمين لجنة الشئون الدينية بمجلس النواب: هذا أقوى سلاح لتغيير القدر المكتوب    ختام فعاليات مبادرة «عيون أطفالنا مستقبلنا» في مدارس الغربية    "استمتع بالطعم الرائع: طريقة تحضير أيس كريم الفانيليا في المنزل"    مفاوضات الاستعداد للجوائح العالمية تدخل المرحلة الأخيرة    سيد معوض عن احتفالات «شلبي وعبد المنعم»: وصلنا لمرحلة أخلاقية صعبة    البحوث الفلكية: غرة شهر ذي القعدة فلكيًا الخميس 9 مايو    أسعار الحديد والأسمنت اليوم الإثنين 29 أبريل 2024    اليوم.. مجلس الشيوخ يستأنف عقد جلسته العامة    أموك: 1.3 مليار جنيه صافي الربح خلال 9 أشهر    تساقط قذائف الاحتلال بكثافة على مخيم البريج وسط قطاع غزة    اتحاد الكرة : عدم أحقية فيتوريا فى الحصول على قيمة عقده كاملا ومن حقه الشرط الجزائى فقط والأمور ستحل ودياً    صحة قنا: خروج 9 مصابين بعد تلقيهم العلاج في واقعة تسرب غاز الكلور    سامي مغاوري: جيلنا اتظلم ومكنش عندنا الميديا الحالية    يعيش في قلق وضغط.. هل تُصدر المحكمة الجنائية مذكرة باعتقال نتنياهو؟    المندوه: كان يمكننا إضافة أكثر من 3 أهداف أمام دريمز.. ولماذا يتم انتقاد شيكابالا بإستمرار؟    مصرع شخص وإصابة 16 آخرين في حادث تصادم بالمنيا    عمره 3 أعوام.. أمن قنا ينجح في تحرير طفل خطفه جاره لطلب فدية    سامي مغاوري يكشف سبب استمراره في الفن 50 عامًا    بعد عامين من انطلاقه.. برلماني: الحوار الوطني خلق حالة من التلاحم    "السكر والكلى".. من هم المرضى الأكثر عرضة للإصابة بالجلطات؟    السفيه يواصل الهذيان :بلاش كليات تجارة وآداب وحقوق.. ومغردون : ترهات السيسي كلام مصاطب لا تصدر عن رئيس    من أرشيفنا | ذهبت لزيارة أمها دون إذنه.. فعاقبها بالطلاق    فهم حساسية العين وخطوات الوقاية الفعّالة    ربان الكنيسة السريانية الأرثوذكسية في مصر يحتفل بعيد الشعانين ورتبة الناهيرة    البابا ثيودروس الثاني يحتفل بأحد الشعانين في الإسكندرية    بالصور.. الوادي الجديد تستقبل 120 طالبًا وطالبة من كلية آداب جامعة حلوان    مصرع شاب في انقلاب سيارة نقل بالوادي الجديد    الإفتاء توضح حكم تخصيص جزء من الزكاة لمساعدة الغارمين وخدمة المجتمع    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



انطونيو تابوكي
سيدة ميناء بيم
نشر في أخبار الأدب يوم 29 - 04 - 2012


انطونيو تابوكى
منذ أسابيع قليلة رحل الكاتب الإيطالي الكبير أنطونيو تابوكي وعمره 68 سنة بعد صراع طويل مع مرض سرطان الرئة في المدينة التي كانت تمثل له حياة وعشقا وأدبا، لشبونة البرتغالية، وهو الذي ولد عام 1943 في مدينة إيطالية عريقة هي "بيزا" الشهيرة ببرجها المائل. عشق تابوكي لشبونة "حتي الموت" بين جنباتها انطلق من عشقه لشاعرها الكبير فرناندو بيسوا والذي كان تابوكي من أشهر شراحه ومعلقيه في العالم، ولكنه اشتهر فقط بعد رواية "بيريرا يزعم" وهي رواية تدور أحداثها أيضا في البرتغال حول قصة حقيقية عن مصرع معتقل في نظام البرتغال الاستبدادي السابق واستطاع تابوكي بروايته أن يساهم في أن تصل أجهزة التحقيق إلي الجاني الحقيقي المسئول عن مصرع هذا المعتقل. ترجمت لتابوكي روايات عديدة للغة العربية منها "ساحة إيطاليا" و"رأس داماسثنو مونتيرو الضائع" و" ليال هندية" التي ترجمت مرة أخري بعنوان "طائر الليل الهندي"، بالإضافة إلي "هذيان" و"أحلام أحلام". هنا فصول من كتابه الذي يترجم لأول مرة إلي العربية "سيدة ميناء بيم"..وسوف يصدر قريبا كاملا.
عندي حب كثير لكتب الرحلات الأمينة، وكنت دائما قارئا نهما لها. فهي تملك فضيلة أن تمنح مكاننا المفروض علينا والراسخ فينا مكانا آخر نظريا نقبله. وعندي وفاء مبدئي يفرض علي أن أحذر من قد يتوقع من هذا الكتاب الصغير أن يصور يوميات رحلة، وهو نوع أدبي يفترض سرعة الكتابة وذاكرة لا يمسسها الخيال الذي تنتجه الذاكرة- وهي صفات لنوع غريب من الواقعية استطعت أن أفلت من تبعيته. لقد وصلت إلي العمر الذي أصبح فيه زرع الأوهام أكرم من الخسة، واستسلمت لمصير الكتابة وفقا لمزاجي.
ومع ما تقدم، فسوف يكون من عدم الأمانة ترويج هذه الصفحات علي أنها نتاج خالص من نواتج الخيال: الملهمة التي فرضتها، مع شيء من الفضفضة الخصوصية، وأستطيع أن أقول إنها كانت قليلة، لا تقارن ولا حتي من بعيد بالملهمة عالية الشأن لريمون روسل الذي استطاع أن يكتب "انطباعات إفريقية" دون حتي أن ينزل من يخته. وفعليا فإنني ما أن وضعت قدمي علي الأرض منذ فترة من الزمن في جزر أزور، حتي استقي هذا الكتاب أصوله وبدأت بواكيره، ولم يكن ذلك بسبب توفري علي الأكاذيب وحسب. موضوع الكتاب الرئيسي عن الحيتان، والتي تبدو كأنها من صور المجاز، أكثر من كونها حيوانات؛ ومعها غرق السفن، والتي تبدو هي الأخري من المجاز بنفس القدر، في معناها الذي يحمل الإهمال في عمل ما، أو الفشل. الاحترام الذي أحسه تجاه الصور الخيالية التي تولدها جونا والكابتن اشاب تحميني من الحاجة إلي تقديم نفسي بنعومة لعالم الأدب، بين الأساطير والأشباح التي تسكن مخيلتنا. وإذا كنت قد تحدثت عن الحيتان وغرق السفن فلأنها تتمتع بأنها حقيقية ملموسة لا لبس فيها.
في هذا الكتاب الصغير هناك علي أي حال قصتان لن يكون غير صحيح تماما تعريفها بأنها من نسج الخيال. القصة الأولي، في أحداثها الجوهرية، هي حياة انتيرو دي كونتال، وهو شاعر كبير تعيس قاس أعماق الكون والروح الإنسانية ببوصلة سوناتا قصيرة. أدين لطرح اوكتابيو باث بأن الشعراء ليس لهم سيرة حياة وأن أعمالهم هي حياتهم، حكوها كما لو أنها حياة متخيلة. من ناحية أخري فإن الحيوات التي تضيع في الطريق، مثل حياة أنتيرو، ربما كانت تلك التي يمكن أن تروي وفقا لقوانين افتراضية. للفضفضة مع رجل أتصور أنني قابلته في خمارة بميناء بيم أدين بالقصة التي أختتم بها الكتاب. ولا أستبعد أنني عدلتها بإضافات وأسباب نابعة من مزاعم شخص يعتقد أنه يستطيع أن يستخرج من قصة حياة معني لهذه الحياة. ربما سوف يمثل اعترافا مخففا أن استهلاك المشروبات الكحولية في هذه الخمارة كان وفيرا وأنه بدا لي من غير اللائق أن أنأي بنفسي عن العرف السائد هناك.
الجزء من القصة التي كان عنوانها "حيتان زرقاء صغيرة" التي تتنزه في جزر الأزور يمكن اعتباره علي العكس خيال موجه، بمعني أن خيالي استوحاه من جانب من حوار سمعته بالصدفة. ولا أنا نفسي أعرف ما قبل وما بعد القصة. وأتصور أنه نوع من الغرق: من هذا جاء ضمه إلي الفصل الذي ضمه. والقطعة المعنونة "حلم علي شكل رسالة" تدين في جزء منها إلي قراءة أفلاطون، وفي جزء آخر من دوران عربة بطيئة حول نفسها كانت ماضية من هورتا إلي الموكساريف. ربما كان الانتقال من حالة الحلم إلي حالة النص تعرض لتحوير شرير ولكن لكل واحد الحق في معالجة أحلامه علي أفضل نحو يتصوره. علي العكس فإن الصفحات المعنونة "صيد" لا تطمح لأن تكون سوي تسجيل للأحداث وتطالب بحسنة وحيدة وهي أن تكون جديرة بالتصديق. وبالمثل هناك صفحات أخري كثيرة، يبدو لي سطحيا القول بأنها مجرد وصف للواقع ولما كتبه آخرون. وفي النهاية فإن النص المعنون "حوت يري البشر"، بعيدا عن رذيلتي القديمة في التجسس علي الأشياء في الجانب الآخر، يستوحي دون مواربة قصيدة كارلوس دروموند دي اندراد، والذي عرف قبلي وأفضل مني أن يري البشر من خلال عيون متألمة لحيوان بطيء. ولدروموند أهدي بتواضع هذه القصة، ولكن أيضا لذكري ظهيرة قضيتها في إيبانيما، حيث كنت في بيت بلينيو دويل الذي تحدث لي عن طفولته وعن مذنب هالي.
فيكيانو في 23 ديسمبر 1982
هيسبيريديس. حلم علي شكل رسالة
بعدما أبحرت أياما عديدة وليالي كثيرة فهمت أن الغرب ليس له نهاية، ولكنه يستمر في التنقل معنا، وأننا نستطيع أن نتشبث به علي مزاجنا دون الوصول إليه أبدا. وهكذا فإن البحر المجهول الذي يقع خلف الأعمدة، بلا نهاية، ولا اختلاف، منه تطفو قشور صغيرة لجزر، مثل الشوكة الفقرية لعملاق منقرض وعقد صخرية تتماهي مع اللون السماوي.
الجزيرة الأولي التي تقابلها، إذا نظرت إليها من البحر، هو امتداد أخضر وفي الوسط تلمع ثمار فاكهة كأنها أحجار كريمة، وأحيانا طيور غريبة لها ريش أحمر فاقع تختلط معها. السواحل كانت منيعة، من صخور سوداء مسكونة بصقور بحرية تبكي عندما يهبط الغروب وتحلق متوترة بإحساس ألم قاتل. الأمطار كانت غزيرة والشمس قاسية: ولهذا المناخ، وللأرض السوداء الغنية، كانت الأشجار عالية جدا، والغابات الكثيفة والأزهار الوفيرة: زهور زرقاء كبيرة وورود، ممتلئة كأنها فاكهة، لم أرها في أي مكان من قبل أبدا. الجزر الأخري كانت أكثر صخرية، ولكنها كانت دائما غنية بالثمار والأزهار، والرزق معظمه يجنيه السكان من الغابات، والباقي من البحر دافئ الماء كثير السمك.
كان الرجال من أصحاب البشرة الفاتحة، بعيون مذهولة كأنها تبث دهشة من يري عرضا مسرحيا ثم ينساه، وهم صامتون، منعزلون، دون أن يكونوا حزاناء ويضحكون غالبا، ومن لا شيء مثل الصبية الصغار. النساء جميلات بكبرياء، بعظام وجه بارزة وجباه عريضة، يمشين والجرار فوق رؤوسهن، وينزلن الدرجات الحادة التي تؤدي إلي الماء دون أن يتحرك شيء من أجسامهن، حتي كن يظهرن مثل التماثيل التي وهبها أحد الألهة القدرة علي الحركة. وهؤلاء الناس ليس لهم ملك، ولا يعرفون الطبقات. لا يوجد محاربون، فليسوا بحاجة إلي شن الحروب، فليس لهم جيران. ولديهم قسس، ولكن بصورة خاصة جدا سوف أحكي لك عنها آنفا، وكل واحد يمكن أن يصبح قسا حتي الفلاح البسيط أو الشحاذ. معبدهم لا تسكنه الآلهة مثل معابدنا التي تتوجه نحو السماء، ونحو الأرض، ونحو البحر، والعوالم السفلية، والغابات، والمحاصيل، الحرب، والسلام، وأشياء الناس. هي علي العكس آلهة الروح، والمشاعر، والعواطف؛ الأساسيون عددهم تسعة، بعدد الجزر، وكل منها لها معبد في جزيرة مختلفة.
إله "الحزن" و"الحنين" طفل له وجه كهل. معبده مشيد في أبعد الجزر، في واد تحميه جبال وعرة، بالقرب من بحيرة، في منطقة مقفرة موحشة. تغطي الوادي دائما غلالة من الضباب الخفيف كأنه حجاب، وهناك أشجار زان عالية يدفعها الريح إلي الغمغمة، وهو مكان فيه حزن عظيم. للوصول إلي المعبد يلزم اجتياز شعاب محفورة في الصخور التي تشبه مجري نهر اختفي: وأنت تسير تقابل هياكل عظمية غريبة لحيوانات مجهولة، ربما كانت أسماكا، وربما كانت طيورا؛ وقواقع؛ وأحجارا وردية مثل اللؤلؤ. سميته معبدا ذلك المبني الذي كان ينبغي أن أسميه كوخا: لأن إله الحزن والحنين لا يمكن أن يسكن قصرا أو بيتا فاخرا، وإنما مسكنا فقيرا كأنه فواق، هو وسط أشياء هذا العالم مثل العار الذي يمثله الألم السري لأرواحنا. لأن هذا الإله لا يتعلق فقط بالحزن والحنين، ولكن ألوهيته تمتد إلي منطقة من الروح يسكنها الحزن، والألم علي ما كان، ولم يعد يسبب ألما، ولكنه يثير ذكري الألم، والألم لذلك الذي لم يكن وكان يمكن أن يكون، وهو الألم الأكثر تأثيرا. يذهب الرجال إليه وهم يرتدون أكياسا بائسة والنساء مغطيات بمعاطف داكنة؛ يشملهم الصمت وأحيانا نسمع البكاء، ليلا، عندما يضيء القمر الوادي بضوء فضي والحجيج ممددون علي العشب يهدهدون أحزان حياتهم.
إله "الكراهية" كلب أصفر صغير له مظهر هزيل، ومعبده يقوم علي جزيرة صغيرة قمعية الشكل: للوصول إليها يلزم السفر لعدة أيام وكثيرا من الليالي؛ والكراهية الحقيقية وحدها، تلك التي تنفخ القلب بطريقة غير محتملة والتي تشتمل علي الحسد والغيرة، التي يمكنها دفع التعساء إلي القيام بهذه الرحلة المزعجة. ثم هناك إله الجنون وإله الرحمة، وإله الشهامة وإله الأنانية: ولكنني لم أزرها قط، وسمعت عنها فقط حكايات خيالية غامضة.
عن إلههم الأهم، والذي يبدو لي أبا لكل الآلهة الآخرين والسماء والأرض، وصلتني حكايات مختلفة جدا ولم أستطع أن أري معبده ولا أن اقترب من جزيرته؛ ليس لأن الأجانب ليس مرحبا بهم، ولكن لأن مواطني هذه الجمهورية لا يستطيعون الوصول إليه إلا عندما يصلون إلي تجهيز للروح والتي لا يتم الوصول إليها إلا نادرا ثم لا يعودون. في جزيرته يقوم معبد يسميه أهل هذه الأماكن بطريقة يمكن أن أترجمها علي النحو التالي االمساكن الرائعة»، ويتكون من مدينة افتراضية، بمعني أنه لا توجد مباني ولكن فقط خريطتها المرسومة علي الأرض. مثل هذه المدينة لها شكل رقعة شطرنج دائرية وتمتد لأميال وأميال: وكل يوم يقوم الحجيج بواسطة قطعة طباشير بتحريك المباني حسب أهوائهم كما لو كانت قطع شطرنج، وهكذا تكون المدينة متحركة وقابلة للتنوع، وتتبدل طبيعتها باستمرار. وفي منتصف رقعة الشطرنج يقوم برج علي قمته وضعت كرة ضخمة مذهبة، تذكر علي نحو غامض الفاكهة التي تتوافر بكثرة في هذه الجزر. وهذه الكرة هي الإله.
لم يتح لي إطلاقا اكتشاف من عساه يكون هذا الإله: التعريفات التي قيلت لي حتي الآن غير دقيقة ومتناقضة، وربما تكون غير مفهومة تماما بالنسبة للأجنبي. واستنتج أن له علاقة بفكرة الاكتمال، والامتلاء والكمال؛ وهذه فكرة مجردة جدا وقليلة الوضوح من جانب الفكر الإنسايي. وكان هذا هو السبب في أنني ظننت أنه إله االسعادةب: ولكنها سعادة من فهم فهما تاما معني الحياة والذي لم يعد للموت أية أهمية بالنسبة له؛ ولهذا فإن القلة المختارة التي تذهب لتكريمه لا تعود بعد ذلك. وضعوا لحراسة هذا الإله شخصا أهبل له وجه ذاهل وكلام غير مترابط، والذي ربما كان علي صلة بالإله بطرق غامضة لا يعرفها العقل. عندما أعربت عن رغبتي في تقديم هدية له ابتسمت الناس وبانطباع حب ربما يحمل في طياته شيئا من الشفقة قبلوني علي وجنتي. علي العكس قدمت أنا أيضا هدية لإله الحب والذي يرتفع معبده علي جزيرة لها شواطئ شقراء مموجة، علي رمال فاتحة يحفها البحر. وصورة الإله ليس صورة المعبود ولا صورة شيء منظور، ولكن صوت، الصوت النقي لماء البحر الذي يدخل المعبد من خلال قناة محفورة في صخرة تتحطم لتتحول إلي حوض سري: وهنا، بسبب شكل الجدران واتساع المبني، فإن الصوت يتردد في صدي لانهائي يستولي علي من يسمعه فيعطيه انتشاء أو ذهولا. ومن يتعبد لهذا الإله يتعرض لتأثيرات كثيرة وغريبة، لأنه مبدأه يتحكم في الحياة، ولكنه مبدأ نزوات غريب؛ وإذا كان حقيقيا أنه هو الروح والاتفاق بين العناصر، فإنه أيضا يمكن أن ينتج أوهاما، وهذيان وهلوسة.
وقد شاركت في هذه الجزيرة في عروض هزتني بحقيقتها البريئة: خاصة وأنني ساورني الشك في أن مثل هذه الأشياء قد تكون موجودة في الحقيقة وأنها ليست أشباحا من صنع مشاعر تخرج مني وتكتسب شبها واقعيا في الهواء لأنني تعرضت إلي الصوت المسحور للإله: وبهذا الفكر دلفت إلي طريق يؤدي إلي نقطة أعلي من الجزيرة، حيث يمكن رؤية البحر من كل جانب. وعندئذ أدركت أن الجزيرة كانت قفرا، وأنه لا يوجد أي معبد علي الشاطئ وأن الصور والوجوه المختلفة للحب التي رأيتها كأنها لوحات حية والتي تتخذ درجات متعددة للروح مثل الصداقة، ورقة المشاعر، والعرفان، والفخر، والزهو؛ كل هذه الوجوه، التي كنت أعتقد أنني رأيتها في أشكال إنسانية، لم تكن إلا سرابا خلقه بداخلي سحر لا أدري من أي جاء. وهكذا وصلت إلي قمة الجزيرة وبينما كنت أراقب البحر الممتد بلا نهاية، وكنت بالفعل استكين إلي شعور عدم الراحة الذي سببه انهيار الوهم، هبط ضباب أزرق فوقي واختطفني إلي حلم: وقد حلمت أنني أكتب إليك هذه الرسالة، وأنني لم أكن الإغريقي الذي أبحر يبحث عن الغرب ولم يعد، ولكنني فقط كنت أحلم به.
انتيرو دي كوينتال
حياة
جاء أنتيرو طفلا تاسعا وأخيرا لعائلة كبيرة من عائلات الأزور كانت تملك مراع وحدائق برتقال، وعرفت طفولته اليسر الصارم المنظم لحياة أصحاب الأملاك بالجزر. كان من بين جدوده عالم فلك وصوفي. كانت صورهما، بالإضافة إلي صورة جده تزين جدران صالون داكن تفوح منه رائحة الكافور. كان اسم جده اندريه دا بونتي كوينتال وكان قد عاش في المنفي والسجن لأنه شارك في الثورة الأولي الليبرالية عام 1820. هذا هو ما حكاه له والده، وكان رجلا رقيقا محبا للخيول وشارك في معركة منديلو ضد الحكم المطلق.
كانت ترافقه في سنواته الأولي مهرات مبرقعة وأغاني حزينة قديمة لخادمات كن يأتين من جبال ساو ميجويل، حيث توجد قري من حمم بركانية ولها أسماء مثل كالديراس وبيكو دي فيرو. كان طفلا هادئا شاحبا، شعره ضارب للحمرة، وعيناه كانتا فاتحتين بحيث تبدوان أحيانا شفافتين. كان يقضي صباحه في صحن الدار الكبيرة، حيث تحتفظ النساء بمفاتيح خزانات الملابس وحيث كانت النوافذ لها ستائر من الدانتيللا الثقيلة. كان هو يجري ويطلق صيحات مبتهجة
وكان سعيدا. كان يحب أخاه الأكبر حبا جما، أخاه الذي كان علي مدي فترات طويلة يغطي فيه جنون صامت علي ذكاء نادر وغريب: اخترع معه لعبة كانوا يسمونها االسماء والأرضب يستخدمون فيها قطع كسر الفخار والقواقع علي لوحة دائرية تشبه لوحة الشطرنج يتم رسمها علي تراب الأرض.
عندما كان الطفل في عمر التعلم استدعي له أبوه شاعرا برتغاليا في المنزل هو فليتشانو دي كاستيو وعهد إليه بتعليمه. كان كاستيو يعتبر في ذلك الوقت من الشعراء الكبار، ربما بفضل ترجماته لأوفيديو وجوته، وربما أيضا لعمي ألم بعينيه أحيانا ما أعطي أبياته نبرة شعرية كانت محبوبة للغاية من جانبلرومانسيين. الحقيقة أنه كان موسوعي الثقافة عصبيا وصارما يحب البلاغة والنحو. تعلم معه الصغير انتيرو اللغة اللاتينية والألمانية والعروض الشعري. ووسط هذه الدراسات وصل إلي عمر المراهقة.
ذات ليلة من ليالي من إبريل أتم فيها عامه الخامس عشر، استيقظ انتيرو منتفضا وأحس بأنه يريد أن يذهب إلي البحر. كانت ليلة هادئة والقمر كان هلالا. كان البيت كله ينام والريح تنفخ ستائر الدانتيللا. ارتدي ملابسه في صمت ونزل نحو الشعاب الصخرية. جلس فوق صخرة ونظر إلي السماء، يحاول أن يخمن ما الذي يمكن أن يكون قد دفعه إلي الذهاب لذلك المكان. كان البحر هادئا يتنفس كأنه نائم، والليل كان مثله مثل كل الليالي. هو وحده الذي كان يحس بتوتر عظيم، كأن قلقا يجثم علي صدره. في تلك اللحظة وصل إلي مسامعه هدير أخرس يأتي من الأرض، وصار القمر بلون الدم، وانتفخ البحر كأنه بطن ضخمة ارتطمت بالصخر. ارتعشت الأرض وانحنت الأشجار أمام قوة ريح هوجاء. جري انتيرو إلي البيت ذاهلا فوجد العائلة مجتمعة في صحن الدار؛ ولكن الخطر كان قد انقضي، وأصبح خجل النساء من ملابس الليل يتجاوز الرعب الذي تعرضن له. قبل أن يعود إلي فراشه أخذ انتيرو قطعة من الورق وكتب علي عجل، دون أن ينجح في السيطرة علي نفسه، بضع كلمات. وبينما كان يكتب أدرك أن الكلمات تنتظم علي الورق، من تلقاء نفسها تقريبا، حسب الترتيب العروضي للسوناتا: وأهداها هو، باللاتينية، إلي جده المجهول الذي أوحي إليه بها. نام بصفاء تلك الليلة وعند الفجر حلم بقرد صغير له وجه ساخر وحزين يقدم إليه رسالة صغيرة: قرأها وفهم سرا لم يعط لآخر، ولا يعرفه إلا الحيوان، أنه في سبيله لأن يصبح رجلا. كان يدرس الفلك والهندسة، وترك نفسه تقبل إغراء فرضية لابلاس عن نشأة الكون، فكرة وحدة القوي الطبيعية وفكرة رياضيات الفضاء. وفي المساء كتب أحجياته القصيرة الغامضة والتجريدية والتي ترجم فيها بالكلمات فكرته عن إله الكون. كان قد استسلم لحلم القرد الصغير ذي الوجه الساخر الحزين ويكاد يندهش لليالي التي لا يزوره فيها.
وعندما أصبح في عمر الدراسة الجامعية سافر إلي كويمبرا امتثالا لتراث العائلة، وأعلن أن الوقت قد حان لترك دراسة القوانين الكونية وأن يتفرغ للقوانين الإنسانية. كان قد أصبح شابا طويلا فتيا، له شارب أشقر يعطيه مظهرا وقورا، يكاد يصل إلي التكبر. وفي كويمبرا عرف الحب، قرأ ميشيليه وبرودون وبدلا من القوانين التي كانت تطبق العدالة في ذلك الوقت تحمس لفكرة العدالة الجديدة التي كانت تتحدث عن المساواة وعن كرامة الإنسان. وتابع هذه الفكرة بحب أتاه من أجداده ساكني الجزر، ولكن أيضا بمنطق الإنسان الذي كان هو نفسه، لأنه كان مقتنعا بأن العدالة والمساواة يمكنهما أن يشاركا في هندسة العالم. وفي القالب المغلق والمكتمل للسوناتا سجل التوهج الذي كان يسيطر عليه وقلقه عن الحقيقة. سافر إلي باريس وعمل طباعا، بنفس إحساس رجل آخر مقبل علي الرهبنة، لأنه كان يريد أن يختبر مشقة البدن والوجود المحسوس للمعدات. وبعد فرنسا سافر إلي إنجلترا ثم إلي الولايات ا لمتحدة، وعاش في نيويورك، وفي هاليفاكس، لكي يعرف المدن الجديدة التي كان الإنسان يبنيها والطرق المختلفة للحياة فيها. وعندما عاد إلي البرتغال كان قد أصبح اشتراكيا. أسس الجمعية الوطنية للعمال، وسافر وتقمص دور المرتد، وعاش بين الفلاحين، ومر بالجزر مدافعا وخطيبا متحمسا، وعرف غطرسة الأقوياء وتملق المنافقين وجشع الخادمين. كان يملأ شعره بالسخط ويكتب سوناتا سخرية وغضب. عرف خيانة بعض الرفاق، والكيمياء الغامضة لمن ينجح في مزاوجة الميزة العامة مع الميزة الخاصة.
فهم أنه يجب أن يترك للآخرين، الأكثر قدرة منه، مهمة استكمال العمل الذي بدأه هو، كما لو أنه لم يعد ينتمي إليه. حان وقت العمليين، وهو ليس منهم. وكان هذا يعطيه إحساسا بالإحباط، مثل طفل يفقد براءته ويكتشف فجأة سوقية العالم. لم يكن قد أكمل الخمسين من عمره وكان وجهه قد اكتسي بالفعل بعلامات الزمن. فعيناه أصبحتا مقعرتين ولحيته مالت إلي شيب الشيخوخة. بدأ يعاني من الأرق وأن يطلق صيحات استسلام في لحظات الراحة النادرة. أحيانا كان يحس بأن كلماته لا تنتمي إليه وكثيرا ما كان يفاجأ بأنه يتحدث مع نفسه كأن شخصا آخرا يتحدث معه. شخصه طبيب في فرنسا بأنه يعاني من الهستيريا ووصف له العلاج بالكهرباء. سجل انتيرو في كتاباته بأنه يعاني من اللانهائي، وربما كان ذلك مرضا يرحب به شخصيا. ربما كان فقط متعبا من الصورة الانتقالية والمنقوصة للمثل الأعلي وللعشق، وأن قلقه أصبح يتوجه إلي نظام هندسي آخر. في كتاباته بدأت تظهر كلمة «لا شيء»، والتي بدت له الصورة الأكثر اكتمالا للكمال. كان يدخل عامة التاسع والأربعين فعاد إلي جزيرته.
مرض في الحادي عشر من سبتمبر عام 1891 فخرج من بيته في بونتا ديلجادا، نزل علي قدميه الشارع المنحدر المظلل حتي ايجريخا ماتريس ودخل إلي محل صغير لبيع الأسلحة. كان يرتدي معطفا أسود وعلي القميص الأبيض كان يضع رابطة عنق مثبتة بدبوس علي شكل قوقعة. كان المالك رجلا ودودا وسمينا يحب الكلاب والمطبوعات العتيقة. كانت هناك مروحة من النحاس تدور ببطء علي السقف. عرض صاحب المحل علي الزبون مطبوعة قديمة من القرن السابع عشر اشتراها مؤخرا وتصور مجموعة من الكلاب تطارد غزالا. كان صاحب المحل العجوز صديقا لوالده، وكان انتيرو يتذكر أنه عندما كان طفلا كان الرجلان يحملانه معهما إلي معرض كالورا حيث كانت توجد أجمل خيول ساو ميجويل. أمضيا وقتا طويلا في الحديث عن الكلاب والخيول، ثم اشتري انتيرو مسدسا بماسورة قصيرة. عندما خرج من المحل كانت أجراس مارتيز تدق الساعة الحادية عشرة. اجتاز ببطء شارع البحر كله حتي قيادة الميناء ثم تأخر كثيرا علي الرصيف ينظر إلي المراكب الشراعية. ثم عبر المرسي ودخل إلي ميدان اسبيرانسا المحاطة بأشجار موز صغيرة. كانت الشمس وحشية وكان كل شيء أبيض. كان الميدان خاليا، في تلك الساعة، بسبب الحر الشديد. حمار حزين، مربوط بالجدار بحلقة، كان تاركا رأسه تتدلي. بينما كان يعبر الميدان تناهت إلي سمع انتيرو موسيقي. توقف، وتلفت. علي الناصية المقابلة، تحت ظل شجرة موز، كان هناك غجري يعزف علي أرغن يدوي صغير. أشار الغجري إليه بإيماءة فتوجه إليه انتيرو. كان غجريا نحيفا، وكان يحتفظ بقرد علي كتفه. كان قردا صغيرا بوجه ساخر حزين وكان يرتدي سترة حمراء بأزرار مذهبة. تعرف فيه انتيرو علي القرد الذي يزوره في الحلم وفهم من يكون. مد إليه الحيوان يده السوداء الصغيرة فترك انتيرو قطعة من العملة تسقط فيها. في المقابل التقط القرد ورقة صغيرة ملونة من بين أوراق كثيرة كان يحتفظ بها الغجري في شريط القبعة وأعطاها له. أخذها وقرأها. عبر الميدان وجلس علي أريكة تحت جدار دير سيبرانسا البارد حيث كان هناك هلب أزرق مرسوم علي جير الجدار. أخرج المسدس من جيبه، ووضعه في فمه، وضغط علي الزناد. حانت منه لحظة دهشة من أنه لا يزال يري الميدان والأشجار وتألق البحر والغجري الذي كان يعزف علي أرغونه. أحس بخيط دافئ يسيل علي عنقه. سحب أجزاء المسدس وأطلق النار مرة ثانية. عندئذ اختفي الغجري مع المنظر الطبيعي وبدأت أجراس مارتيز تدق دقات منتصف النهار.
(2)
عن الحيتان وصائدي الحيتان
في عرض البحر.
عند نهاية الحرب الأخيرة جنح أنثي حوت منهكة وربما مريضة علي شاطئ مدينة ألمانية، ليس بمقدوري أن أقول ما هي. كانت ألمانيا، مثلها مثل أنثي الحوت، منهكة ومريضة، وكانت المدن مدمرة والناس كانت جائعة. تحرك سكان المدينة إلي الشاطئ، لرؤية هذا الحيوان العملاق الزائر الذي يرقد هناك، مجبرا علي حالة سكون غير طبيعية ، وهو يتنفس. مرت عدة أيام ولكن الحوت لم يمت. كانت الناس كل يوم تذهب لرؤية الحوت. في تلك المدينة لم يكن أحد يعرف كيف يقتل حيوانا ليس حيوانا، وإنما أسطوانة ضخمة داكنة ولامعة لم يروها حتي ذلك الوقت سوي في الرسومات. حتي أخذ واحد من الناس سكينا ضخما واقترب من الحوت، وحفر مخروطا في ذلك اللحم الدهني وحمله معه بسرعة إلي المنزل. بدأ السكان كلهم يحفرون قطعا ويأخذون قطعا الحوت. كانوا يذهبون هناك ليلا، متخفين، لأنهم يخجلون من بعضهم البعض، حتي وإن كانوا يعرفون أنهم يفعلون الشيء نفسه. واصل الحوت الحياة مع ذلك لعدة أيام أخري، رغم الجروح المريعة التي ظهرت عليه.
حكي لي هذه القصة ذات مرة صديقي كريستوف ميكيل. كنت أتصور أنني طردتها من ذاكرتي، ولكن العكس عادت إلي ذهني فجأة عندما رسوت علي جزيرة بيكو، وكان هناك حوت يطفو ميتا بالقرب من صخور الشاطئ.
عندما تطفو الحيتان في وسط المحيط تبدو كأنها غواصات منجرفة مصابة بصاروخ. وفي بطنها يمكن تخيل طاقم كامل ممن التقمهم الحوت وقد أصبحت رداراتهم غير مجدية، وقد تخلوا عن الاتصال بأطقم أخري، بل ينتظرون الموت باستسلام.
قرأت في مجلة علمية أن الحيتان تتصل فيما بينها بالموجات الصوتية. وأن حاسة السمع لديهم رهيفة، بوسعها أن تلتقط نداءاتهم علي بعد مئات الكيلومترات. وكان أسراب الحيتان من قبل تتصل فيما بينها من أقصي أطراف المعمورة، وفي الغالب كانت النداءات غرامية أو رسائل من نوع آخر معناها لا يزال مجهولا علينا. اليوم وقد أصبحت البحار مليئة بالضوضاء الميكانيكية الاصطناعية، وهو ما جعل الرسائل بين الحيتان أكثر اضطرابا حتي يستعصي استقبالها وتفسيرها. ولكنها لا تزال تطلق بلا جدوي إشاراتها ونداءاتها التي تضيع في الأعماق.
هناك وضع تتخذه الحيتان يطلق عليها صيادو الحيتان تعبير احوت ميتب وهو اصطلاح يتحقق دائما علي كل الحيوانات الكبيرة والمهجورة تقريبا. عندما يكون الحوت اميتاب يبدو مهجورا تماما علي سطح البحر، تطفو دون جهد واضح، كأنها فريسة نعاس عميق. يري الصيادون أن هذه الظاهرة تتحقق فقط في أيام سكون بحر ثقيل وشمس كثيفة، ولكن الأسباب الحقيقية لموت الحيتان تظل مجهولة.
يري صائدو الحيتان أن الحيتان تظل غير عابئة علي الإطلاق بالحضور البشري أثناء التزاوج بل وكانوا يتركونهم يقتربون حتي يكادوا يلمسونهم. الحدث الجنسي يتم عن طريق الاتحاد فوق البطن علي الطريقة البشرية. طبقا لصيادي الحيتان فإن الزوجين يطفوان برأسيهما من الماء، ولكن علماء الطبيعة يرون أن وضع الحيتان هو الأفقي وأن الوضع الرأسي هو فقط من ثمار خيال الصيادين.
أيضا تندر المعلومات المعرفية عن مراحل ولادة الحيتان واللحظات الأولي في حياة الصغير. في جميع الأحوال هناك شيء مختلف عما هو معروف عن الحيوانات البحرية الأخري لابد أنه يحدث، حتي لا يغرق الصغيرة ولا يموت اختناقا عند فصل الحبل السري الذي يربطه بالجهاز الدوري للأم. كما هو معروف فإن لحظات الولادة والتزاوج هي الوحيدة في حياة الحيوانات البحرية الأخري التي تتذكر فيها حياتها الأرضية السابقة؛ حتي أنها تخرج إلي الأرض فقط لكي تتزاوج ولكي تلد، وتبقي فيها فترة زمنية تكفي بالكاد للحظات الحياة الأولي للصغير. لابد أن هذا الحدث الأرضي هو الأخير الذي يغيب عن الذاكرة الفسيولوجية للحيتان، والتي هي من بين كل الأحياء المائية هي التي بعدت الشقة وبينها وبين أصلها الأرضي.
«ليست هناك أية علاقة بين هذه السلالة الجميلة من الأحياء، والتي لها مثلنا دم أحمر وحليب للرضاعة، وحوش العصور السابقة، وهي اجهاضات مريعة لطين الأرض عند منشئها. لقد عثرت الحيتان، وهي من الأحياء الأحدث جدا، ماء نقيا وبحرا حرا وعالما يعيش في سلام. حليب البحر، وزيته، كانا يفيضان؛ دهنه الحار، المحيون، كان يختمر بقوة خيالية، كان يريد أن يعيش. كانوا يتزايدون، ينتظمون بهذه الضخامة، «أطفال ممنوحة» من الطبيعة التي وهبتها قوة لا تقارن، وكل ما هو ثمين: الدم الأحمر الناري الجميل. لأول مرة يؤكد الدم حضوره. ها هي زهرة الدنيا الحقيقية. كل مخلوقات الدم عديم اللون، البخيل، عديم الحيوية، النباتي، تبدو بلا قلب إذا ما قورنت بالحياة الكريمة التي تغلي في هذا اللون الأرجواني، وتضخ فيه إما الغضب أو الحب. تكمن قوة العالم الأعلي، وسحره، وجماله، في الدم... ولكن مع هذه النعمة الرائعة تزيد بلا حدود الحساسية العصبية. هكذا نصبح أكثر انكشافا، وأكثر قدرة علي أن نعاني وعلي أن نستمتع. ولأن الحوت لا يمتلك علي الإطلاق حواس متطورة للصيد، ولا الشم، ولا السمع، فقد عهدت بكل شيء فيها إلي حاسة اللمس. الدهن الذي يحميها من البرد لا يحميها في الواقع من الصدمات. جلده مرتب علي نحو راق من ستة أنسجة مختلفة، يرتعش ويتذبذب عند أي طارئ. الحلمات الرقيقة التي تغطيه هي أدوات لمس حساسة للغاية. وكل هذا فيه حياة، تحييه تدفقات الدم الأحمر الذي لا يقارن في كمياته، نظرا لضخامة الحيوان، بأي من الأحياء الأرضية. يفيض به الحوت الجريح علي البحر في لحظة، فيصبغه بلون أحمر علي مساحات شاسعة. الدم الذي لدينا منه قطرات لديه هو منه أنهار.
«الأنثي تحمل تسعة شهور. حليبها له نكهة، يميل إلي الحلاوة، ولكنها حلاوة فاترة مثل حليب المرأة. ولكن لأنها لابد عليها من أن تشق الأمواج دائما فالحلمات لو كانت علي الصدر فسوف يكون الصغير معرضا لأية صدمة محتملة؛ وبالتالي فهي تقع إلي الأسفل قليلا، في مكان محمي أكثر، علي البطن، في المكان الذي خرج منه الصغير. وإليه يلجأ الابن، ويتمتع بالموجة التي تكسرها له أمه» (ميشيله، الأم، ص 238).
يقولون إن العنبر الرمادي قد يكون بقايا قشرة صلبة للقشريات التي لا يفلح الحوت في هضمها والتي تتراكم في أقسام معينة من الأمعاء. ولكن آخرين يرون أنها نتيجة لعملية مرضية، نوع من الحصوات المعوية المقيدة. يستخدم العنبر الرمادي اليوم حصريا في صناعة العطور الفاخرة، ولكن في تاريخ تجارة العنبر كانت له تطبيقات متنوعة علي قدر التخيل الإنساني: فقد تم استخدامه بخورا في الطقوس الدينية، ومرهما تجميليا، شاهدا علي الوجدان الديني للحجاج المسلمين الذين كانوا يزورون الحجر الأسود بمكة. ويقال إنه ربما كان فاتحا للشهية لا تستغني عنه ولائم الحكام. يتحدث ميلتون عن العنبر الرمادي في الفردوس المفقود. تحدث عنه شكسبير أيضا، لا أتذكر أين.
«الحب يخضع عندهم لشروط صعبة، يتطلب مكانا عميق الطمأنينة. ومثل الفيل النبيل، الذي يخشي العيون الوقحة لا يفضل الحوت ذلك إلا في الصحراء. تكون هذه المواعيد الغرامية عند القطبين، في الخلجان المنعزلة بجروينلاند، وسط رذاذ مضيق بحر بهرنج، بل وأيضا في البحار الدافئة التي يجدها المرء بالقرب من القطبين. «العزلة كبيرة. إنه مسرح موت وصمت غريب لحفل الحياة الصاخب هذا. دب أبيض، فقمة، ثعلب أزرق ربما، شهود محترمون، يتمتعون بالحياء، ويراقبون عن بعد. ولا تغيب عن الحفل الثريات والشمعدانات والمرايا الرائعة. كريستالات زرقاء، قمم ثلجية، طائر المالك الحزين الجليدي الرائع، عذراء الثلج، هؤلاء هم الشهود الذين يجلسون من حولهم ويشاهدون.
«إن ما يجعل هذا الزواج مؤثرا جليلا، هو أنه يعبر عن إرادة. ليس لديهم سلاح سمك القرش الاستبدادي، ولا تلك الهجمات للسيطرة علي الأضعف. علي العكس، فسواعدهم تنزلق وتفصل بينهم وتبعدهم. يهربون رغما عنهم بسبب هذه العقبة اليائسة. في اتفاق عظيم مثل هذا قد يقول المرء إنها معركة. يزعم صائدو حيتان أنهم شاهدوا مثل هذا المشهد الفريد. العاشقان، بحمولتهما الملتهبة، يرتفعان للحظات ويعلوان، كأنهما برجا نوتردام، يبكيان ذراعيهما القصيرين، وهما يحاولان العناق. ثم يعودان للسقوط بوزنيهما الرهيبين... الدب والإنسان تصيبهما هذه المفاجأة بالرعب» (مشيليه، البحر، صفحات 240-242). هذا المقتطف الذي نقلته عن ميشيليه يحمل من الشاعرية والتكثيف حتي يصبح من الظلم تسطيحه بالترجمة. تخيلت أن أيام البحر الساكن الثقيلة والشمس الكثيفة، عندما يهبط علي المحيط قيظ غليظ، هي اللحظات النادرة التي تسمح للحيتان بالعودة بالذاكرة الفسيولوجية إلي سلالتها الأرضية. يحتاجون إلي تركيز كامل مكثف حتي يسقطوا في نعاس عميق كأنه موت ظاهري: وهكذا تطفو، كأنها جذوع شجر عمياء لامعة، وتنجح في التذكر، كأنها في حلم، ماض ضارب في البعد كانت فيها زعانفها البائسة أطرافا جافة مناسبة قادرة علي اللمز والتحية والهدهدة، والركض فوق العشب بين زهور عالية وصخور، علي أرض جاءت من حمم البراكين عناصرها ما تزال تبحث عن رابط بينها، عن نظرية تنتظم فيها.
يحكي صائدو حيتان الأزور أن الحوت عندما يبلغ يوضع علي مسافة خمسة أو ستة أميال من الأنثي، والتي حتي وإن كانت في حالة الموت الظاهري تستيقظ مفزوعة وتهرب مرتعبة. أما الحيتان التييصيدونها في الأزور فتكون في الغالب من نوع نطفة الحوت.
»نطفة الحوت. إنه الحوت نفسه الذي كان يعرفه الإنجليز القدامي علي نحو غير محدد باسم حوت ترومبا أو الحوت ذي الرأس المعقود علي شكل سندان الحداد، وهو نفسه الذي يعرفه الفرنسيون حاليا باسم كاشالو، والألمان باسم بوتفيش، الرأس الكبير الذي تعبر عنه كلمات طويلة. وهو بلا شك أكبر الحيتان في المعمورة، وأكثرها رهبة من بين الحيتان التي يمكن أن تقابلها، ومظهرها هو الأكثر جلالا، وهو أكثر الحيتان قيمة بفارق كبير عمن يأتي بعده علي المستوي التجاري، لأنه الكائن الوحيد الذي يمكن الحصول منه علي تلك المادة الثمينة التي تسمي العنبرية. وسوف أنشر في مواضع أخري عن خصائصها كلها؛ أما الآن فسوف أكتفي فقط بالحديث عن اسمها: فاسمها من ناحية أصله وفصله عبثي. منذ عدة سنوات عندما كان نطفة الحوت مجهولا تماما في تفرده وزيته الذي كان يتم جمعه بالصدفة وحدها من البلدان التي يسكنها، في تلك الأيام بدا أن العنبرية كان يعتقد في الأعراف الشعبية أنها مادة تأتي من مخلوق كان يعرف في تلك الأيام في إنجلترا باسم حوت جروينلانديا أو الحوت الأفرنكي. كما كانوا يظنون أن هذه العنبرية نفسها هي مادة مزاج التخصيب في حوت جروينلانديا التي تعنيها المقطعان الأولان من الكلمة حرفيا. في تلك الأزمنة كانت العنبرية كذلك نادرة جدا، ولم يكن يستخدم في الإضاءة وإنما فقط كمرهم ودواء. لم يكن من الممكن الحصول عليه إلا من الصيدلية، مثلما نشتري اليوم أوقية من الراوند. في رأيي عندما تم التعرف علي الطبيعة الحقيقية للعنبرية مع تقدم الزمن حافظ التجار علي اسمها الأصلي حتي يزيدوا من قيمتها مع التنويه المؤثر علي نحو غريب بندرتها» (ملفيل، موبي ديك، الفصل 32، ترجمة تيزاري بافيزي).
«نطفة الحوت هي من الحيتان الكبيرة التي تعيش في مناطق من نصفي الكرة الأرضية حيث درجة الحرارة عالية إلي حد كبير. هناك اختلافات كبيرة في صورتها عن صورة الحيتان: فالأهداب التي تزين فم هذه الأخيرة, والتي تستخدمها في طحن الغذاء صغير الحجم, تستبدل في نطفة الحوت إلي أسنان قوية جبارة مغروسة في الفك الأسفل وتستخدم في مضغ الفرائس الضخمة, ورؤوسها كتلة ضخمة تنتهي رأسيا مثل مقدمة السفينة، تحتل ثلث الجسم كله. هذه الاختلافات التشريحية بين المجموعتين تعطي لكل منهما مملكته الخاصة: تجد الحيتان في المياه الباردة في المناطق القطبية طبقات كثيفة من الأحياء الدقيقة التي تمتصها بالسهولة نفسها التي نتنفس بها نحن، أما نطفة الحوت فتتغذي علي الرخويات الضخمة التي تنمو وتزدهر في المياه الساخنة. كما توجد أيضا في سلوك هذه الحيتان الضخمة اختلافات جوهرية تعلم صائدو الحيتان تمييزها تماما لصالح سلامتهم الخاصة. فبينما تعتبر الحيتان حيوانات رقيقة فإن ذكور نطفة الحوت التي تصبح وحيدة علي طريقة الخنازير البرية فإنها تدافع عن نفسها وتميل للانتقام. كثير من صائدات الحيتان التي التقمتها أفكاك هذه الحيوانات العملاقة بعد رميها برمح الصيد فتكت بها؛ وكثير من أطقم المراكب هلكوا في الصيد» (البرت، أمير موناكو، مهنة البحار، صفحات 277-278).
«عدد غير قليل من صائدي الحيتان يأتون من جزر الأزور، حيث كانت ترسو سفن نانتوكيت التي كانت تقصد البحار البعيدة لكي تزود الأطقم بالقرويين الشجعان من هذه الشواطئ الصخرية. ليس معروفا علي وجه الدقة لماذا، ولكن المسألة هي أي أهل الجزر هم من أفضل صائدي الحيتان» (ميلفيل، بوبي ديك، الفصل السابع والعشرين، ترجمة تشيزاري بافيزي).
جزيرة بيكو هي مثلث بركاني يتسرب خلسة من المحيط: فهي ليست سوي جبل عال شديد الانحدار موضوع فوق الماء. فيها ثلاث قري: مادالينا، ساو روك ولاخيس، وباقي الجزيرة صخرة من الحمم ينمو فوقها أحيانا كرم عنب صغير وبعض أشجار الأناناس البري. رست العبارة الصغيرة علي رصيف مادالينا، وكان اليوم يوم أحد، وكثير من العائلات تتنقل بين الجزر القريبة محملة بالسلال والبقج. من السلال تخرج ثمار الأناناس والموز وزجاجات النبيذ والأسماك. وفي لاخيس هناك متحف صغير للحيتان وأنا أريد أن أراه. ولكن العبارة اليوم تعمل نصف يوم لأنه يوم إجازة، ولاخيس تبعد 40 كيلومترا من الطرف الآخر للجزيرة. أجلس بصبر علي أريكة، تحت نخلة، أمام كنيسة عجيبة في الميدان الصغير. كنت قد فكرت في الاستحمام في البحر، فقد كان الطقس جميلا ودرجة الحرارة مقبولة. ولكنهم حذروني علي العبارة لأنه بالقرب من الصخور يوجد حوت ميت والبحر مليء بكلاب البحر.
وبعد انتظار طويل في حر الجنوب أري تاكسي وبعد أن نزل منه الراكب في الميناء بدأ يعود إلي الخلف. منحني السائق توصيلة مجانية حتي لاخيس لأنه كان قد أنهي مشوار عمله وفي طريق عودته إلي بيته؛ والراكب كان قد دفع أيضا تكلفة العودة، وهو لا يريد مالا ليس له حق فيه. وفي لاخيس لا يوجد سوي سيارتي تاكسي، سيارته وسيارة ابن عمه. والشارع الوحيد هو شارع بيكو وهو يجري علي طول الشاطئ المنحدر بمنحنيات ومرتفعات، فوق بحر ملئ بالزبد، وهو طريق ضيق متقطع يعبر المنظر الصخري الكئيب وعليه بضع منازل متناثرة. أنزل إلي الساحة الرئيسية في لاخيس، وهي قرية صامتة يهيمن عليها دير ضخم غير متناسق معها يعود إلي القرن الثامن عشر وضخامة شعار حكم يعبر عنه شعار من الحجر كان البحارة البرتغاليون يزرعونه لحساب الملك في الأماكن التي يرسون فيها. متحف الحيتان يوجد في الشارع الرئيسي، في الطابق الأول من بيت لأحد النبلاء تم ترميمه. كان مرشدي شابا يلوح عليه مظهر سطحية غامض ويستخدم لغة ساذجة واحتفالية. كان اهتمامي منصبا أساسا علي الأشياء المصنوعة من العاج التي كان صائدو الحيتان القدامي يصنعونها، ثم كتب المتن، وبعض الأدوات القديمة التي لها طريقة عمل عجيبة. علي أحد الجدران توجد بعض الصور القديمة. وعلي واحدة منها أقرأ: لاخيس، 25 ديسمبر عام 1919. من يدري كيف استطاعوا سحب حوت العنبر حتي ساحة الكنيسة. لابد أنهم استخدموا عددا لا بأس به من الثيران. كان حوت عنبر ضخم علي نحو مريع، حجمه لا يصدق. كان هناك ستة أو سبعة فتيان كانوا قد تسلقوا علي رأسه: أسندوا علي فمه سلما خشبيا ومن أعلي كانوا يلوحون بالشعر والمناديل. وصائدو الحيتان قد وقفوا طوابير في مقدمة الصورة، وعلي سيمائهم شعور بالفخر والرضا. ثلاثة كانوا يضعون قبعات من الصوف تتدلي منها كرات الصوف، وواحد بقبعة قماش مشمع علي طريقة رجال الإطفاء. وجميعهم حفاة، واحد فقط يلبس حذاء برقبة، لابد أنه رئيسهم. وأظن أنهم جميعا خرجوا من الصورة ونزعوا قبعاتهم ثم دخلوا الكنيسة، كأن الشيء الطبيعي الأكثر شيوعا في العالم هو ترك حوت في ساحة الكنيسة. وهكذا مر عيد الميلاد في بيكو في عام 1919.
عندما أخرج من المتحف تنتظرني مفاجأة. في نهاية الشارع الذي كان خاليا دائما، ظهرت أوركسترا فيلهارموني. شيوخ وشباب يرتدون اللون الأبيض، بقبعة بحارة؛ كانت الآلات النحاسية قد تم تلمعيها حتي أنها كانت تعكس الشمس، وكانوا يعزفون بطريقة ممتازة مقطوعة حزينة تشبه الفالس. سبقتهم فتاة صغيرة كانت تمسك عصا علي طرفها رشقت رغيفين وحمامة من السكر. أسير وراء هذا الموكب الصغير في عرضه الأعزل علي طول الشارع الرئيسي حتي وصل إلي بيت نوافذه زرقاء. توزعت الفرقة علي شكل قوس وبدأت تعزف مارش حماسي. انفتحت نافذة وظهر كهل أنيق ألقي بالتحية، وانحني، وابتسم، واختفي، ثم عادة للظهور بعد برهة علي عتبة الباب. ينتظره قليل من التصفيق، ومصافحة لمدير الفرقة، وقبلة للطفلة. من المؤكد أنه تكريم. لمن ولماذا لا أعرف، ولكن السؤال عن هذا لم يكن معني. الاحتفال القصير جدا انتهي، واصطفت الفرقة مرة أخري في صفين، ولكن بدلا من أن تعود للخلف اتجهت ناحية البحر، والذي كان يقع في نهاية الشارع مباشرة.
ما زالوا يعزفون، وأنا أتبعهم. عندما يصلون إلي البحر يجلسون علي الصخور، ويضعون آلاتهم الموسيقية علي الأرض، ويشعلون السجائر.
يثرثرون وينظرون إلي البحر. يستمتعون بيوم الإجازة. تترك الطفلة العصا مستندة علي عمود إنارة وتلعب مع طفلة في مثل عمرها. تطلق العبارة نفيرها
من الجانب الآخر من البلدة لأنها في السادسة تقوم برحلتها الوحيدة إلي مادلينا، ولا يتبقي سوي خمس دقائق.
«يمكن أن تجد في الأزور نوعين من صائدي الحيتان. النوع الأول يأتي من الولايات المتحدة علي متن مراكب شراعية حمولة مائة طن. يبدو وكأنهم أطقم من القراصنة، بسبب خليط الأجناس الذي كانوا يتألفون منه: زنوج، ماليزيون، صينيون، أفراد غير محددي الهوية هم نتاج تقاطع كوزموبوليتاني اختلطوا مع الهاربين والنصابين الذي يلقون بأنفسهم في المحيط هربا من عدالة البشر. في منتصف المركب غلاية ضخمة تحتل نصفها. وهنا يتحول الدهن، المقطع من نطفة الحوت المربوط علي لوح خشبي تحت سور المركب، إلي زيت من خلال طهي في نار كالسعير تعذبه هزات الأمواج، بينما تنتشر دوامات الدخان المقززة في الأنحاء. وعندما يهتاج البحر أثناء هذه العملية يصبح المشهد وحشيا!
فالحقيقة أنه بدلا من التخلي عن ثمرة الفريسة المنتزعة ببطولة من بطن المحيط، يفضلون وضع حياتهم علي محك الخطر. لمضاعفة الحبال التي تربط الحوت إلي اللوح الخشبي المرتجل يغامر بعض الرجال ويعرضون حياتهم للخطر، علي هذه الكتلة الزيتية الضخمة التي يكسحها البحر بأمواجه والتي تهدد بثقلها التي تتقاذفها الأمواج أن تحطم أجناب السفينة. بعد مضاعفة الحبال يسود الانتظار، يطولالخطر حتي تأتي لحظة يصبح فيها الخطر حقيقا. عندئذ يقطعون الحبال الغليظة ويرافق الطاقم كله بوابل من لعنات غضب عنيف الجثة التي تبتعد مع الأمواج تاركة رائحة عفنة في مكان أحلام الثراء التي أثارتها.
النوع الآخر من صائدي الحيتان تتكون من أشخاص يتشابهون مع أشباههم من البشر الفانين. هم صيادو الجز، أو حتي المزارعين ممن يتمتعون بروح المغامرة، وأحيانا مهاجرين بسطاء عادوا إلي بلدهم بروح طبعت عليها زوابع أخري في الأمريكتين. في مجموعة من عشرة يتكون طاقم مركبين لصيد الحيتان ينتميان إلي شركات صغيرة رأسمالها حوالي ثلاثين ألف فرنك. ثلث المكاسب يذهب إلي المساهمين والثلثان يقسمان إلي أقسام متساوية بين أفراد الطاقم. مراكب صيد الحيتان، المصنعة خصيصا للسرعة علي نحو مثير للاعجاب، مجهزة بشراع ومجاديف ودفة عادية و دفة-مجداف. تتكون أدوات الصيد من عدد من الحراب بطرف محمي بعناية في غمد، وعدد من الرماح المختلفة بشفرة حادة جدا، وخمسمائة أو ستمائة مترا من الحبال مرتبة في شكل حلزوني داخل سلال تتدفق منها صوب نقطة تفرع علي مقدمة القارب.
«هذه القوارب الصغيرة تظل رهن الانتظار وقد اختفت علي شواطئ صغيرة أو في خلجان صخرية في تلك الجزر الموحشة. من علي ارتفاع في الجزيرة يقوم مرصد بمسح البحر باستمرار كما يفعل البحارة علي الصواري؛ وعندما تري عمودا من بخار الماء تصدره حيتان العنبر من زفيرها، يقوم المرصد بتجميع صائدي الحيتان بواسطة إشارة متفق عليها. في دقائق قليلة تبحر المراكب متوجهة صوب المكان الذي تقع فيه المأساة» (البرت، امير موناكو، مهنة البحار، صفحات 280-283).
مقتبس من إحدي اللوائح
(1)حول الحيتان
المادة 1. تسري اللائحة الحالية علي صيد الحيتان المبينة بأسفله، عندما يتم الصيد في المياه القومية البرتغالية والجزر التابعة لها:
(حيتان العنبر كابودوليو وفيستر كاتودون (لينايوس).
(الحوت العادي، حوت فيسالوس (لينايوس).
الحوت الأزرق، بالينواوبترا موسكولوس (لينايوس). حوت نانا، بالواوبترا اكوستوروستراتا (لينايوس).
الحوت الأحدب أو «أمبيبيك»، ميجابترا ذات العقل (لينايوس).
(2) حول المراكب
المادة 2. المراكب المستخدمة في الصيد هي التالية:
قوارب صيد الحيتان. قوارب بعارضة مكشوفة، تدفع بواسطة المجاديف أو الشراع، تستخدم في الصيد بالمعني الصحيح للكلمة لقنص الحيتان أو قتلها.
ب) اللنشات. قوارب بالدفع الميكانيكي تستخدم لمساعدة قوارب صيد الحيتان، ولسحب هذه القوارب والحيتان المقتولة. قد تؤدي إذا لزم الأمر وظائف الصيد، بالالتفاف حول الحيتان وقنصها، إذا لزمت الحاجة وبشروط هذه اللائحة.
المادة 44. بمقتضي القانون فإن أبعاد مركب صيد الحيتان محددة وفقا للأبعاد التالية: الطول من 10 إلي 11.50 متر؛ العرض من1.80 إلي 1.95 متر.
المادة 45. لا يقل وزن اللنشات عن 4 طن وسرعة أقل من 8 عقدة.
المادة 51. بالإضافة إلي الأدوات والمعدات الأساسية للصيد، يجب أن تحتفظ جميع قوارب صيد الحيتان علي متنها بالأشياء التالية: فأس لقطع حبل الحربة حيثما توجد الحاجة؛ ثلاثة أعلام صغيرة: أبيض، وأزرق، وأحمر؛ علبة بسكويت؛ وعاء ماء عذب؛ ثلاثة مشاعل مضيئة من نوع هولمز.
(3)
حول ممارسة الصيد
المادة 54. يحظر صراحة ممارسة اصطياد الحيتان بأقل من قاربين اثنين.
المادة 55. ممنوع رمي الحربة عندما تكون المراكب علي مسافة لا تستطيع فيها الواحدة أن تسعف الأخري في حالة وقوع شر.
المادة 56. إذا وقعت كارثة فإن جميع السفن الموجودة في المنطقة المجاورة للحادث يجب عليها تقديم المساعدة لضحايا الكارثة، حتي لو لزم لهذا الغرض التوقف عن الصيد.
المادة 57 إذا كان أحد أفراد الطاقم قد سقط في البحر خلال عمليات صيد الحيتان، فإن علي ربان السفينة الذي وقع فيه الحادث وقف جميع العمليات، وإذا لزم الأمر عليه قطع الحبل والعمل فقط علي استعادة الغريق.
المادة 57 أ. اذا وجد مركب في موقع الحادث يقودها ربان آخر، فإنها لا تستطيع رفض المساعدة.
المادة 57 ب. إذا كان الرجل الذي سقط هو الربان، فإن القيادة تنتقل إلي رامي الحربة، وهو المسئول عن فرض القواعد الواردة في المادة 57.
المادة 61 يختص بإدارة عمليات الصيد الربان الأكبر سنا، ما لم يتفق علي خلاف ذلك ويتم إعلانه مسبقا.
المادة 64 إذا تم العثور في عرض البحر،أو عليالشاطئ، علي حيتان ميتة أو تحتضر، فعلي من يجدها الإبلاغ فورا عن الواقعة لسلطات النقل البحري التي سوف تكلف بالتحقيق الذي يهدف للكشف عن أي حراب مسجلة. وسوف يتم تسليم الحيتان حال جاءت النتيجة إيجابية بذلك إلي أصحاب الحراب الشرعيين.
ويحق للذي عثر عليها مكافأة تصرف إليه وفقا لأحكام المادة 685 من القانون التجاري.
المادة 66 يحظر صراحة إطلاق حراب حرة علي الحيتان (غير مربوطة بالقارب بواسطة حبل) مهما كانت الظروف، ومن يفعل ذلك لا يحصل علي أية حقوق للحوت المصاب بالحربة.
المادة 68 لا يجوز لأي مركب، من دون إذن مسبق، قطع حبال أي مركب آخر، ما لم تكن مضطرة لأسباب تتعلق بخطر.
المادة 69 سوف تعاد الحراب، والحبال، وعلامات التسجيل.. الخ، التي يتم العثور عليها علي حوت من مراكب أخري إلي أصحابها الشرعيين دون أن ينطوي هذا علي أي نوع من المكافأة أو التعويض.
المادة 70 ينهي عن قتل أو رمي حراب علي الحيتان من فصيلة بالينا، والمعروفة شعبيا باسم الحوت الإفرنجي.
المادة 71 يحظر رمي حراب أو قتل الاناث خلال الرضاعة أو الحيتان الصغار الذين لا يزالون في سن الرضاعة.
المادة 72 لأغراض حفظ الأنواع وأفضل استغلال للصيد، يختص وزير البحرية بوضع تدابير حول الحيتان التي يمكن صيدها، ووضع فترات حظر صيد، والحد من عدد الحيتان التي تصاد وتقرير غيرها من التدابير التقييدية يراها ضرورية .
المادة 73 صيد الحيتان لأغراض علمية لا يمكن تنفيذه إلا بموافقة مسبقة من السلطات الوزارية.
المادة 74 ممنوع صراحة أي نوع من أنواع الصيد الرياضي
(لائحة صيد الحيتان، المنشورة في جريدة «دي ريو دي جوفرنو» بتاريخ 19/5/1954، وهي السارية حاليا).
يوافق عيد صيادي الحيتان في هورتا الأحد الأول من شهر أغسطس. وفي هذا العيد يرصون المراكب المطلية حديثا في خليج بورتو بيم، وتدق الأجراس دقة رخيمة مرتين، ويصل القس ويبارك المراكب.
ثم يتم تنظيم استعراض يصعد حتي يصل إلي رئيس الميناء، حيث توجد كنيسة نوسا سينهورا دا جويا. خلف القس تأتي النساء والأطفال، وأخيرا يصل صيادو الحيتان، وكل منهم يحمل حربته علي كتفه. كلهم آسي، ويرتدون السواد. يدخلون جميعا إلي الكنيسة لكي يشاركوا في القداس ويتركون الحراب مستندة إلي الجدار الخارجي، واحدة إلي جوار الأخري، مثلما يرص الناس الدراجات في غيره من الأماكن.
كان مقر الربابنة مغلقا ومع ذلك استقبلني السيد شافيز. إنه رجل مهذب ومجامل، له ابتسامة مفتوحة وساخرة قليلا، وعيناه الزرقاوان ورثهما عن جد أسباني. لم تتبق أية مراكب، قال لي، ولا أعتقد أنه من السهل أن نجد مركبا. سألته إن كان يقصد مراكب صيد الحيتان، فضحك مستمتعا بالسؤال. حدد كلامه أكثر: لا، كنت أتكلم عن صائدي الحيتان، لقد هاجروا إلي أمريكا، لقد أصبحت الأزور مهجورة، ألم تر؟ بلي، لقد أدركت هذا وهو ما أسفت له. لماذا؟ سأل هو. هو سؤال محرج. لأن الأزور تعجبني، أجيب بقليل من المنطق.
ويعترض هو: وسوف تعجبك أكثر وهي مهجورة. ثم يبتسم اعتذارا عن كونه عنيفا. في جميع الأحوال فأنا لا أستطيع أن أعطي الإذن بالتأمين علي الحياة. سوف أتولي أنا أمر إبحارك وسوف أتحدث إلي السيد انطونيو خوسيه الذي ربما يبحر غدا، فيبدو أن هناك سرب حيتان في طريقه للوصول. ولكني لا أعدك بإذن يزيد علي اليومين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.