إذا كانت بيت لحم والقدس وحياة جبرا إبراهيم جبرا في فلسطين، قبل أن يشوهها الاستعمار الاستيطاني الصهيوني الكريه، ويدفع جبرا كرها لمغادرتها، هي (البئر الأولي)، فقد كانت دارة شارع الأميرات في حي المنصور ببغداد هي بئره الثانية. كانت هي الدارة التي أسسها بعد مسيرة شاقة من الفقر والمنفي إلي الأرستوقراطية الثقافية التي استمدها من دراسته الجامعية في كيمبريدج، إحدي المدينتين الجامعيتين الأعرق في بريطانيا. هناك في كلا المدينتين: الجامعيتين: أكسفورد وكيمبريدج تلتقي الأرستوقراطيتين: الأرستوقراطية الطبقية حيث أن الجامعتين العريقتين كانتا في ذلك الوقت قاصرتان علي أبناء الأثرياء، فهما المكان الذي يتم فيه التزاوج بين الصفوة الاجتماعية، وارستوقراطية المعرفة. حيث كان عدد خريجي الجامعة، وقت دراسة جبرا في بريطانيا ضئيلا إلي الحد الذي يشكل معه نخبة النخبة. وفي كيمبريدج حاز جبرا وبحق أرستوقراطية المعرفة تلك المبنية علي المنهجية والثقة بالعقل النقدي واتساع الأفق وهي الأرستوقراطية الباقية والمبررة معا. لكن جبرا حينما عاد للعالم العربي، وعمل في شركة النفط الانجليزية العراقية، اقترب بعمله، أو بالأحري وضعه عمله في تلك الشركة المتميزة وقتها في قلب الصفوة الاجتماعية، ثم ما لبت أن أقترن بالفعل بالأرستوقراطية العراقية وقتها حينما تزوج من لميعة العسكري. رفيقة عمر جبرا، والنموذج الرائع لذوق المرأة العراقية الجميلة والمثقفة، وبنت البيوتات العراقية العريقة. ففي كل مرة زرت فيها جبرا في بيته كانت تنضم للجمع زوجته، وفي كل مرة كانت تدهشني تلك المرأة برهافتها وأرستوقراطيتها وحساسيتها. إذن فجماليات دارة جبرا التي تغنيت ببساطتها الباذخة، وذوقها الرفيع، وتأثيرها الكبير عليّ في الأسبوع الماضي هي نتاج هذا الزواج الموفق بين ارستوقراطية الجمال والثروة العراقية، وأرستوقراطية العقل النقدي والمعرفة والهم الفلسطيني. كما أن هذا الزواج الموفق، والذي ربط جبرا برباطه القوي للعراق بعدما ضاعت فلسطين، حيث قاوم كل الإغراءات التي قدمت له لترك العراق والعمل في الشرق أو في الغرب، كان له تأثيره الكبير في استقرار جبرا بالعراق، ودوره الكبير في حركته الثقافية والفنية. كما كان للوعي الحاد بضرورة أن يدفع عن ثقافته وعن عالمه الخراب الذي حل بفلسطين، دور مماثل في مسيرة جبرا الأدبية. فدور جبرا في حركة الفن الحديث في العراق معروف ومكرور، لكن دوره في حركة الشعر الحديث وفورته الكبيرة التي انجبت أعظم شعراء الحداثة الشعرية، بدر شاكر السياب، والرعيل الأول من شعراء هذه الحركة غير معروف بنفس الوضوح والاتساع. فقد غيرت ترجمته لقسم «أسطورة تموز/أدونيس» من (الغصن الذهبي) لجيمس فريزير الرؤية الشعرية العربية برمتها، وبدون هذه الترجمة ما كان لبدر شاكر السياب ورصفائه أن يملأوا الشعر العربي بتلك الرموز البابلية والسومرية المهمة التي زادته عمقا وتكثيفا. وما كان للشعراء التموزيين، ومن بينهم كيمبردجي مهم آخر هو خليل حاوي، أن يكون لهم هذا التأثير الكبير في تطوير الشعر العربي، وتوسيع قاموسه وصوره ورؤاه. كما غيرت ترجمته البديعة لرائعة وليام فوكنر (الصخب والعنف) الذائقة السردية العربية. فلم يكن ممكنا مثلا أن يكتب الراحل الفلسطيني الكبير غسان كنفاني (ما تبقي لكم) بدون هذه الترجمة. كان لهذه الترجمة تأثير كبير علي الرواية العربية، سرعان ما عمقه جبرا بإبداعاته الروائية: (صيادون في شارع ضيق)، و(السفينة) و(البحث عن وليد مسعود) و(عالم بلاخرائط) و(الغرف الأخري) و(يوميات سراب عفان) وغيرها. ناهيك عن ترجماته المهمة لروائع شكسبير. لكن جبرا لم يكن مترجما مهما، وروائيا كبيرا فحسب، ولكنه كان أحد عناصر تغيير الرؤي والحساسية الأدبية الفاعلين في الثقافة العربية لأمد غير قصير. كانت هذه الدارة الجميلة والزواج الموفق عنصران فاعلان في انطلاقة جبرا القوية وفي إرهاف دوره الفاعل في الثقافة العربية الي الحد الذي جعله رائدا كبيرا من رواد الحداثة العربية، يوشك أن يكون مؤسسة ثقافية كاملة: يكتب الشعر والنقد والقصة والرواية ويترجم عن اللغة الانجليزية كما ذكرت مجموعة من النصوص العلامات. وترجماته لمآسي شكسبير الكبري تستحق وحدها وقفة متأنية. وكان جبرا الناقد بحساسيته النقدية وزاده المعرفي الوفير هو الحجر الذي بني عليه جبرا مؤسسته كما بني يسوع كنيسته علي بطرس. فعلي العكس من كثير من الذين يزاوجون بين الإبداع والنقد، مثل أدونيس أو إدوار الخراط، ويجعلون النقد نشاطا لتكريس رؤيتهم الإبداعية ونفي ماعداها من رؤي ومغامرات، كان جبرا واسع الأفق، رحب الحساسية بكل المعايير. كان ناقدا طليعيا يفتح أمام المبدعين آفاقا جديدا، ويحثهم علي جوب الأصقاع المجهولة التي لم يسمع فيها وقع لقدم إبداعية من قبل. ولا يقتصر علي تكريس الأفق الذي فتحه لنفسه أو الطريقة التي اختطها في كتابته. لهذا أصبح الرجل بحق مؤسسة ثقافية وحده، فكيف يلحق الخراب بتراثة ودارته الجميلة تلك بسبب مصر؟ هذا ما سنتعرف عليه في الأسبوع القادم الذي سنتتبع فيه جنيولوجيا الخراب.