قرأ أسامة الرحيمى زميلنا فى الأهرام «الفاتحة»، وقرأ سامح سامى زميلنا فى «الشروق» (أبانا الذى)، ثم وارياه التراب بمساعدة سائق سيارة نقل الموتى وأحد أقاربه. هكذا ودَّع فاروق عبدالقادر الدنيا بالحد الأدنى من حاملى الخشبة، دون تعديد لمآثرة أو دعاء بالرحمة، برغم أن كثيرين من أهلنا يهرولون خلف الميت حتى لو لم يعرفوه، لينالوا ثواب «الدفنة»، وبرغم أن كثيرين من أهلنا يتحسبون للحظة مثل تلك، فيوصون ذويهم بما يفعلون، كأن يوصى بعضهم بإضاءة قبره كى لا تجزع روحه من هول الظلمة، أو يضع آخر قائمة بمن كره فى الحياة، ويحظر عليهم أن يمشوا فى جنازته أو يرافقوه إلى قبره، كى يواصل كراهيته لهم بعد الممات. رحل الناقد الكبير إذن مستغنيا عن المشيعين كما عاش مستغنيا عن الوظيفة والزوجة والأولاد. كنت أدعوه «مثقف الهواء الطلق»، أعجبته التسمية التى أطلقتها عليه حين التقينا لأول مرة فى مقهى على بابا بميدان التحرير عام 88، بعدها صرت من روَّاد جلسته الأسبوعية بمقهى سوق الحميدية بباب اللوق، قبل أن أنقطع عنها لانشغالات الحياة.كانت المرة الأولى التى أعرف فيها عن قرب كاتبا لا ينتمى لجهة ولا تحميه مؤسسة. بعض مثقفينا الكبار أدركوا باكرا، ألا قدرة لصمود مشروعك إن كان لديك مشروع بعيدا عن هذا الكائن الخرافى الهائل، الدولة. وتأرجحت خياراتهم حتى استقرت فى حضنها، وسايروها وسايرتهم كزوجين بورقة عرفى، طه حسين هنا هو نموذجى الأثير، وإن شئت: نجيب محفوظ ويحيى حقى ويوسف إدريس وأم كلثوم وعبدالحليم وتوفيق الحكيم ويوسف السباعى وصلاح عبدالصبور..، وحتى العقاد، وهو الحالة الأقرب لحالة الراحل الكبير، كان كاتب الوفد الأول حين كان الوفد ينازع بسلطة الجماهير، سلطة الملك الشكلية وسطوة الإنجليز الفعلية من بوابة فاروق عبدالقادر عرفت أدباء عرب كبار: عبدالرحمن منيف والطاهر بن جللون ومحمد ديب وعبدالكبير الخطيبى وهدى بركات وإلياس خورى وكاتب ياسين وأميل حبيبى وجبرا إبراهيم جبرا وعبدالله العروى ومحمد زفزاف وغيرهم، وتجادلنا ساعات حول رواية الطاهر وطار «اللاذ»، التى كان يراها الأهم بين أعماله، وكنت أوثر عليها «عرس بغل». وبرغم تفضيله للعزوبية، فقد فاجأنى حين اتصل بى مهنئا على زواجى منذ 15 سنة «هذا أفضل شىء تعمله فى حياتك، أن يكون لك بيت وأسرة وأولاد». أسعد الله صباحك يا عم فاروق. من «أثر الفراسة» لمحمود درويش: الفارق بين النرجس وعباد الشمس، هو الفرق بين وجهتى نظر: الأول ينظر فى صورته فى الماء ويقول: لا أنا إلا أنا، والثانى ينظر إلى الشمس ويقول: ما أنا إلا ما أعبد.
