وماذا بعد؟.. وماذا بعد البعد؟ لعقدين ظل المثقفون يتحدثون عن "ما بعد الحداثة"، لا يهم إن كانوا فهموها أم لا. المهم أن الحديث عنها جعل المرء يبدو معاصراً. أصبحت "ما بعد الحداثة" هي الوعاء الذي نضع فيه كل ما نظنه معاصراً. ظننا أن التاريخ قد انتهي، حتي ونحن نهاجم طرح فرانسيس فوكوياما "نهاية التاريخ". كان هؤلاء هم المثقفون الطليعيون، أما المثقفون الأكبر سناً، الخارجون غالباً من أرضيات يسارية، فقد تمسكوا بانتقاد ما بعد الحداثة لأسباب تتعلق بتأثيرها علي أرض الواقع، وواحد من كتبهم الأساسية في هذا الصدد كان "أوهام ما بعد الحداثة" لتيري إيجلتون. كانت هذه ملامح المشهد في التسعينيات والعقد الأول من الألفينيات. الآن تفاجئنا دار نشر أروقة بكتاب لمعن الطائي وأماني أبو رحمة بعنوان "الفضاءات القادمة.. الطريق إلي ما بعد بعد الحداثة". يا إلهي! أمازال هناك شيء يقف فيما بعد بعد الحداثة. التاريخ لا يتوقف أبداً. مبدئياً، وكي يتفادي الكاتبان أي انتقاد متوقع جدا لفكرة الكتاب، انتقاد يتمحور حول إمكانية الحديث عن ما بعد بعد الحداثة في أوطان لم تصل إلي الحداثة أصلاً، فإنهما يردان، وبشكل قد يبدو دفاعياً: "وقد يعترض البعض علي هذا الطرح من زاوية أن المجتمعات العربية مازالت بعيدة جداً عن مجمل الظروف المادية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية والسياسية التي ساعدت علي ظهور وتشكل تلك الحركات الفكرية سواء في مرحلة ما بعد الحداثة أو بعد ما بعد الحداثة. ذلك أن المجتمعات العربية مازالت تصنف ضمن الدول النامية وأمامها شوط طويل لتصل إلي مرحلة الاقتصاد ما بعد الصناعي، ناهيك عن اقتصاديات المعرفة وتكنولوجيا المعلومات. ويقع هذا الاعتراض نفسه ضمن طرق التفكير الثقافي والاقتصادي التقليدية لما قبل العولمة، حيث كان العالم يقسم إلي دول عالم أول وثان وثالث. لقد فرضت التغيرات الجذرية في وسائل الاتصالات وانتشار الشبكة العنكبويتية العالمية.... علي صعيد الكرة الأرضية طرائق تفكير وتحليل مغايرة تماما، تمتاز بالمرونة والشمولية وعدم الالتزام بالمحددات الأكاديمية التقليدية". هكذا يتفادي الكاتبان الاتهام بكون كتابهما هذا نظريا تماما في عصر الثورات العربية الذي فشلت فيه غالبية النظريات المعرفية أمام فوران الواقع. هل هذا الدفع صحيح؟ نعم ولا، لا لإنهما يفترضان مبدئيا إن الجميع يتعاملون مع الإنترنت مثلاً، بينما بنظرة واحدة إلي التجمعات العشوائية الأكثر فقراً في القاهرة، ناهيك عن الصعيد مثلا، تثبت إن هذا غير صحيح. ونعم لأنه صحيح أن الإنترنت لا يتعامل معه الجميع، ولكنه يؤثر في الجميع. حكي القصص عن الفيسبوك الذي أشعل الثورة في مصر سيكون بديهيا هنا. ينشغل القسم الأول من الكتاب بطرح تجليات ما بعد الحداثة، ويأتي تحت عنوان "ما بعد الحداثة: عرض وتحليل"، نفهم فيه طريقة تفكير كثير من النقاد ما بعد الحداثيين، التجاور بين النظريات، الاهتمام بالفنون الشعبية والمنحطة، التشكيك في جدوي العمل الذي اهتمت به الحداثة، انفجار الحدود ما بين الأجناس المختلفة، قصة تحول النقاد البنيويين إلي ما بعد بنيويين بعد ثورة 1968، موت الناقد، موت المؤلف، وغيرها الكثير. هذا كله معروف ضمناً، أما الإضافة الحقيقية للكتاب فتبدأ من صفحة 195، في القسم الذي يحمل عنوان "بعد ما بعد الحداثة: اتجاهات ونظريات". هل هي موضة المابعد وقد وصلت إلي أقصي تجلياتها؟ هل سئم النقاد من "ما بعد الحداثة" فأرادوا تجاوزها ب"ما بعد" آخر؟ في عام 2006 نشر الناقد الثقافي البريطاني آلان كيربي في مجلة الفلسفة البريطانية مقالا بعنوان "ما وراء موت ما بعد الحداثة"، يجيب فيه عن هذا السؤال بالنفي. يدعي أن هناك أسبابا موضوعية وراء موت ما بعد الحداثة، التي تميزت "كما الحداثة والرومانسية من قبلها برفع المؤلف إلي مكانة صنم يُعبد حتي عندما كان المؤلف يتقصد أن يتخفي أو يمحو نفسه، أما الثقافة التي نعيشها الآن فإنها ترفع المتلقي إلي درجة العبادة والتقديس. المتلقي هنا هو جزء من المؤلف إن لم يكن المؤلف كله". والسبب كما يعتقد هو أن التكنولوجيات الجديدة تسببت في إعادة هيكلة طبيعة المؤلف والقارئ والنص والعلاقات بينهما بعنف بالغ وإلي الأبد. نظرة إلي تعليقات القراء علي المقالات المنشورة علي تثبت صحة هذا. يطلق كيربي علي ما بعد بعد الحداثة اسم "الحداثة الزائفة" أو "شبه الحداثة"، Pseudomodernism، وهو يري أنه في حين تقوم ما بعد الحداثة باستجواب فكرة الحقيقة والتشكيك فيها، فإن هذه الحداثة الزائفة تحدد الحقيقة أو الواقع صراحة بوصفه أنا نفسي، الآن. ولهذا فإن كل ما نقوم به وما نفعله هو الواقع بعينه. بل إنها تعزز أحيانا ما يبدو أنه واقع حين تعرضه بطريقة غير معقدة، مثل براج "الدكيوسوب" المصورة بكاميرا محمولة يبدو فيها الفرد واعيا بأن هناك من يصوره مما يمنع إحساسا بالمشاركة. ومثل ما بعد الحداثة، التي تتجاور فيها الاتجاهات اليمينية باليسارية، فهذا ما يحدث علي ما يبدو في "بعد ما بعد الحداثة" أيضاً. في فصل بعنوان "صوت من اليسار في الألفية الثالثة"، نقرأ عن مارك فيشر الذي حاول في كتابه "الواقعية الرأسمالية: ألا يوجد بديل" تحليل الرأسمالية الحديدة التي بمقدورها منح قيمة نقدية لأي منتج ثقافي، سواء كان دينا، أو موادا إباحية، أو رأسمال: "إن جولة في المتحف البريطاني تمكننا من رؤية الأشياء وهي تنتزع من عالمها الحي وتجمع كما لو أنها علي متن مركبة فضائية ضارية، وهذا سيكوّن لدينا فكرة عما يجري بالفعل: ففي عملية تحويل الممارسات والطقوس إلي كائنات جمالية فحسب، يسخر من الثقافات السابقة وتتحول معقداتها إلي تحف فنية"، وهو ما يشبه قول ماركس وإنجلز في البيان الشيوعي إن الرأسمالية قد أغرقت الرعشة القدسية للورع الديني في أغراضها الأنانية المجردة من العاطفة وحولت الكرامة الشخصية إلي قيمة تبادلية. التعليم كان من الأشياء التي حللها فيشر أيضاً، والذي ينقل عن جيل دولوز ملاحظته بأن مجتمعات السيطرة التي رسمها كافكا وفوكو تعمل من خلال تأجيل غير محدود، التعليم مثلا بوصفه عملية تدوم مدي الحياة. أما نتيجة هذا النموذج اللانهائي من السلطة فهو أن المراقبة الخارجية تنجح بفعل الشرطة الداخلية. بمعني أن السيطرة لا تعمل دون أن تكون متواطئا معها. وبرغم كل هذا، وبرغم هيمنة "مجتمع السيطرة" علي الإنسان الخاضع للسيطرة نفسه، فإن فيشر يبدو متفائلا بشأن التغيير ويختتم كتابه بعبارة شاعرية تقول: "لابد من اغتنام الفرصة الهائلة التي وفرها الليل المظلم الطويل لنهاية التاريخ. إن قمعية الواقعية الرأسمالية الواسعة الانتشار تعني بصيصاً من أمل في احتمالات اقتصادية وسياسية يمكن أن تؤدي إلي نتائج عظيمة غير متوقعة". وقصة أخري ذات دلالة، في عام 1999 وصفت الناقدة الفنية تريسي إيمن لوحات تشارلز طومسون بأنها "ملبّدة، ملبّدة، ملبّدة، لا شيء فيها غير الرسم". العبارة التي تبدو غامضة، كانت تغني أن الزمن تجاوز الرسم علي الفرشاة. وأننا الآن في عصر الفن المفاهيمي والتركيب وغيره، حيث أصبح بإمكان قطعة الصخور الملقاة بإهمال أن تتحول إلي عمل فني. ومن هنا، ورداً علي شتيمة الناقدة للفنان، نشأت الحركة التلبيدية Stuckism. وأصدر الملبدون بيانهم الأول في الرابع من أغسطس وتتصدره الشتيمة نفسها "أنت ملبد، ملبد، ملبد". تضمن البيان عشرين بندا، منها مثلاً: "الفنانون الذين لا يرسمون ليسوا فنانين. الفن الذي يشترط معرضاً ليكون فناً ليس فناً. يرسم الملبدون الصور لأن رسم الصور هو الأهم. الملبد ليس فناناً مهنياً، بل هو هاو محب للفن. إنه يخاطر بالرسم ولا يختبئ خلف أجسام جاهزة كالنعجة الميتة. إذا ما كان هاجس الفنان المفاهيمي هو الحرفية والمهارة ودقة الصنعة فإن همّ الفنان الملبد هو أن يكون مخطئا علي الدوام". هذا بالإضافة لبند آخر، دال ومكثف، وربما يمكنه أن يشكل سببا جوهرياً لحالة الضجر من ما بعد الحداثة: "لقد وصلت ما بعد الحداثة، في محاولاتها البلهاء المراهقة لتقليد مهارة وحرفية وبراعة الفن الحداثي، إلي طريق مسدود. وما كان في يوم من الأيام محرضاً ومثيراً واستشكافياً، كالدادائية مثلاً، غدا بفضل ما بعد الحداثة وسيلة بارعة للاستغلال التجاري. ولذلك تدعو التلبيدية إلي فن حي علي كافة أصعدة الخبرة الإنسانية. وتتوق إلي توصيل أفكارها من خلال توظيف الأصباغ البدائية، وإلي اعتبار نفسها بوصفها ليست براعة أو حرفة علي الإطلاق".