النفط يسجل مكاسب أسبوعية وسط مؤشرات على تحسن الطلب    البيت الأبيض: يجب فتح الجانب الفلسطيني من معبر رفح فورا    منظمة الصحة العالمية: لم نتلق أي إمدادات طبية في غزة منذ 10 أيام    غارات إسرائيلية تستهدف منازل بعدة مناطق في قطاع غزة    عملاق الدوري التركي يزاحم موناكو على ضم محمد عبد المنعم    قمة الدوري السعودي.. الهلال يخطف «نقطة» من النصر بمشاركة رونالدو    إصابة 5 أشخاص في حادث تصادم سيارتين بالطريق الحر بالقليوبية    محطات وقوف قطار «القاهرة – أسوان» الإضافي في عيد الأضحى المبارك    انتشال جثة شاب غرق فى مياه النيل بقرية الجعافرة في أسوان    دعاء حلمى: عادل إمام نجم تلاحم مع جمهوره من خلال أعماله    ما علاقة الزعيم عادل إمام بكرة القدم؟.. أعمال خالدة ولقطات نادرة    أول ظهور ل ريم سامى بالفستان الأبيض في حفل زفافها (فيديو)    فيديو.. أحمد السقا: لما مصر تمر بظروف صعبة لازم نستحملها    طريقة عمل البيتزا من المنزل بأقل تكلفة    الري: الموافقة على 38 طلب بمحافظات البحر الأحمر وجنوب سيناء لتراخيص الشواطئ    انطلاق قوافل دعوية للواعظات بمساجد الإسماعيلية    تطوير محمية ودعم ب15 مليون جنيه.. بروتوكول تعاون بين وزيرة البيئة ومحافظ جنوب سيناء    مصطفى الفقي: غير مقتنع بالفريق القائم على "تكوين" وكلامهم مردود عليه    "مات بعد شهور من وفاة والدته".. نجوم الرياضة ينعون أحمد نوير    هل يمكن لفتاة مصابة ب"الذبذبة الأذينية" أن تتزوج؟.. حسام موافي يُجيب    تأثير الامتحانات على الطلاب ونصائح للتغذية السليمة    إعلام أمريكي: موقف أوكرانيا أصبح أكثر خطورة    وظائف وزارة الزراعة 2024.. تعرف على آخر موعد للتقديم    كوريا الجنوبية تتهم بيونج يانج بزرع الألغام في المنطقة المنزوعة السلاح بين البلدين    «هندسة مايو» يكرم الكاتب الصحفى رفعت فياض    في ذكرى ميلاده.. لماذا رفض عادل إمام الحصول على أجره بمسلسل أنتجه العندليب؟    هشام ماجد يكشف عن كواليس جديدة لفيلمه «فاصل من اللحظات اللذيذة»    ضمن الخطة الاستثمارية للأوقاف .. افتتاح مسجدين بقرى محافظة المنيا    طيران الاحتلال يغتال القيادي بحماس في لبنان شرحبيل السيد «أبو عمرو» بقصف مركبة    فيديو.. المفتي: حب الوطن متأصل عن النبي وأمر ثابت في النفس بالفطرة    حريق هائل يلتهم محتويات شقة سكنية في إسنا ب الأقصر    استمرار تراجع العملة النيجيرية رغم تدخل البنك المركزي    وزير الاتصالات يبحث مع سفير التشيك تعزيز التعاون بمجالات التحول الرقمي    حسام موافي يوضح أعراض الإصابة بانسداد الشريان التاجي    "بسبب سلوكيات تتعارض مع قيم يوفنتوس".. إقالة أليجري من منصبه    علماء الأزهر والأوقاف: أعلى الإسلام من شأن النفع العام    توخيل يؤكد تمسكه بالرحيل عن بايرن ميونخ    "بموافقة السعودية والإمارات".. فيفا قد يتخذ قرارا بتعليق عضوية إسرائيل    4 وحدات للمحطة متوقع تنفيذها في 12 عاما.. انتهاء تركيب المستوى الأول لوعاء الاحتواء الداخلي لمفاعل الوحدة الأولى لمحطة الضبعة النووية    تاتيانا بوكان: سعيدة بالتجديد.. وسنقاتل في الموسم المقبل للتتويج بكل البطولات    دعاء آخر ساعة من يوم الجمعة للرزق.. «اللهم ارزقنا حلالا طيبا»    تحذيرات الرئيس فى القمة    محافظ أسيوط ومساعد وزير الصحة يتفقدان موقع إنشاء مستشفى القوصية المركزي    وزارة العمل تعلن عن 2772 فُرصة عمل جديدة فى 45 شركة خاصة فى 9 مُحافظات    موعد عيد الأضحى المبارك 2024.. بدأ العد التنازلي ل وقفة عرفات    «تقدر في 10 أيام».. موعد مراجعات الثانوية العامة في مطروح    «المستشفيات التعليمية» تكرم المتميزين من فرق التمريض.. صور    المقاومة الإسلامية في العراق تقصف هدفا إسرائيليا في إيلات بالطيران المسيّر    بالصور- التحفظ على 337 أسطوانة بوتاجاز لاستخدامها في غير أغراضها    أوقاف دمياط تنظم 41 ندوة علمية فقهية لشرح مناسك الحج    إحباط تهريب راكب وزوجته مليون و129 ألف ريال سعودي بمطار برج العرب    الاتحاد العالمي للمواطن المصري: نحن على مسافة واحدة من الكيانات المصرية بالخارج    سعر جرام الذهب في مصر صباح الجمعة 17 مايو 2024    «الإفتاء» تنصح بقراءة 4 سور في يوم الجمعة.. رددها 7 مرات لتحفظك    أحمد سليمان: "أشعر أن مصر كلها زملكاوية.. وهذا موقف التذاكر"    بعد حادثة سيدة "التجمع".. تعرف على عقوبات محاولة الخطف والاغتصاب والتهديد بالقتل    «الأرصاد»: ارتفاع درجات الحرارة اليوم.. والعظمى في القاهرة 35 مئوية    استشهاد شاب فلسطيني برصاص الاحتلال الإسرائيلي شمال الضفة الغربية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الدين في عالم محفوظ
نشر في أخبار الأدب يوم 10 - 12 - 2011

يشبه نجيب محفوظ بطل روايته " قلب الليل": جعفر الرواي .حياته وكتابته رحلة بحث عن الحقيقة. ولكن لا يمكننا أن نبلغ أي حقيقة إلا بالعقل والعلم والعمل. وهذا هو الدرس الذي لا يعيه حفنة من ملاك الحقيقة المطلقة.
هنا قراءات ثلاث حول عوالم محفوظ الروائية.. وعلاقتها بالمطلق. رحلته بحثا عن الحقيقة.
أروع ما في فن الرواية هو هذا اللقاء بين القارئ وبين كلمات تحررت من عقل وضمير صاحبها لتزاوج عقل قارئها، وترتمي في أحضان ضميره؛ يصدق ذلك علي ما كتب نجيب محفوظ كما يصدق علي ما كتب غيره، ولا أعتقد أحداً يمكنه الحكم علي عقل نجيب محفوظ أو علي ضميره بشهادة كلمات كتبها هنا، أو ألقاها علي سمع محاوريه هناك؛ فمثل هذه الأحكام _ مهما يكون تجرد صاحبها _ إنما تعبر عن عقل الشاهد الذي فهم القول أو عن ضمير القارئ الذي ألبس الكلمات معانيها؛ بل ولا يملك كاتب الرواية نفسه حق تأويل ما كتب، اللهم إلا في إطار كونه قارئاً للكلمات، لا في إطار كونه مبدعاً لها؛ فالفرق بين لحظة الإبداع ولحظة التفاعل مع ما خلَّفته وراءها اللحظة الإبداعية إنما يشبه الفرق بين لحظة المعايشة ولحظة التذكر، كذلك الافتراق في المعني الذي عبَّر عنه الأستاذ الغيطاني في "مقاربة الأبد" بقوله أن "حتي لو مثل أمامي الآن كل ما أستدعيه بالمخيلة، فثمة شئ يحول؛ ربما انتفاء السياق، أو انعدام الظرف"!
عرجت إلي تلك المقدمة بسبب تلك الشهادة التي كتبها الدكتور أحمد كمال أبو المجد لتمنح رواية "أولاد حارتنا" صك المرور إلي ايدي قراء حرمتهم منها قراءات تعبر عن عقول وعن ضمائر أصحابها، لا عن عقل وضمير كاتبها، ولا عن عقول وضمائر غير هؤلاء من القراء؛ فقد كتب الدكتور أبو المجد عن زيارة قام بها مع جمع من أولي الاهتمام بأدب الأستاذ نجيب إلي منزل صاحب "أولاد حارتنا" بعد تعرضه لمحاولة قتله علي يد جاهل لم يقرأ له وإنما استمع لفتوي تبيح دم الكاتب لأسباب لم يناقشها القاتل إنما سلم بها تسليماً مادامت قد خرجت من فم شيخه، فهكذا "يفكر" أصحاب العقول المغلقة، إذا كان ثمة "تفكير" في اتباع المحرضين دون "تفكير"! ويذكر لنا الدكتور أبو المجد أنه صارح الأستاذ في زيارته تلك بما استقر في ذاكرته وفي وعيه عن الرواية أنها تعبر عن رأي كاتبها _ الذي يريد إيصاله إلي قرائه _ وهو الإعلان "الواضح" عن حاجة الحارة - التي ترمز للمجتمع الإنساني _ إلي الدين وقيمه التي عبر عنها الرمز المجرد (الجبلاوي) حتي وإن تصور أهل الحارة غير ذلك وهم معجبون ومفتونون بعرفة _ الذي يرمز إلي سلطان العلم المجرد _ والمنفصل عن القيم الهادية والموجهة لأهل الحارة.
وفقاً لرواية الدكتور أبو المجد _ وليس عندي ما يدعوني لتكذيبها، فصاحبها رجل نحترم أمانته _ فإن الأستاذ نجيب محفوظ لم يراجعه في قراءته تلك، وإنما هو سايره فيها، وإن كان قد اعتذر بأدبه المعهود عن الإعلان عن هذا التأويل الديني "المريح" للرواية في لقاء تليفزيوني اقترحه عليه الأستاذ أحمد فراج الذي كان حاضراً هذا الحديث، كما اعتذر عن أن يسجله في مقال مكتوب باسمه وإن تقبل أن يقوم الدكتور أبو المجد بكتابة مثل هذا المقال وان يضمنه ما يراه في هذا الشأن دون أن يراجعه فيما رأي من تأويل الرمز أو فيما استخلص منه من معان ... ثم دعونا لا ننسي أن الأستاذ نجيب كان قد أفلت لتوه من موت بدا محققاً بسبب فتاوي دينية، فكان نصيبه من رهبة اللحظة أكبر من نصيب طه حسين وهم يقتادونه للنيابة العامة بسبب آرائه في تحقيق الشعر الجاهلي وفي التحقيق التاريخي لغير الشعر الجاهلي من "مسَلَّمات" صارت تشكل حياتنا رغماً عنا.
أحتار في كيف رأي الدكتور أبو المجد أن الرمز في "أولاد حارتنا" بكل هذا "الوضوح" الذي صارحنا به بعد أن كان قد صارح به الأستاذ نجيب، ولا أنا عرفت كيف نقرأ عقل وضمير كاتب الرواية حتي نصل إلي الرأي "الذي يريد إيصاله إلي قرائه"؛ وما هو الفرق بيننا إذن وبين من رأوا في رأي الأستاذ إلحاداً "واضحاً" يستحق عليه العقاب في الدنيا قبل الآخرة؟ ففي الحالتين، حالة ارتياحنا لما استخلصناه من معني أراد الكاتب إيصاله لقرائه، وحالة رفضنا لما نراه من معان نرفضها فيما تحمله الكلمات من الرمز، إنما نكون مكافئين الكاتب أو معاقبينه علي ما شكله عقلنا نحن من المعني، وعما رتبته موازين ضمائرنا نحن من المقاصد والغايات؛ وحسناً فعل الأستاذ نجيب حين اعتذر بدماثة خلقه المعهودة عن أن يكون قلمه أو لسانه طرفاً في عملية التشكيل والميزان هذه، وقرر أن يموت الكاتب عن كلماته، فيكون لها بعد مولدها عالم غير عالمه، ومسار حياة غير مسار حياته، بل علها تكون عوالم ومسارات بعدد من تلتقيهم هذه الكلمات في رحلتها بين عقول وضمائر قارئيها لا قارئيه.
حين قرأت "أولاد حارتنا" لم أر فيها إلا رواية، قد تحمل سرداً لعالم متخيل كما هو حال كل الروايات، وقد تحمل من الرموز والإحالات ما يتضمنه أي نشاط عقلي حتي وإن كان أضغاث أحلام يحار المرء إن هو حاول فك رموزها ومعرفة مكنون عقله الذي "أبدع" هذه الأضغاث! أقول هذا عن الرواية إن أنا جردتها من افتتاحيتها التي أعتقدها كانت السبب في كل هذه الضجة التي اثارتها الرواية؛ فحين يقول عن "الجبلاوي" في الافتتاحية: "هو أصل حارتنا، وحارتنا أصل مصر أم الدنيا، عاش فيها وحده وهي خلاء خراب، ثم امتلكها بقوة ساعده ومنزلته عند الوالي" فإن "حارتنا" لا تكون رمزاً للمجتمع الإنساني كما ذهب الدكتور أبو المجد في تفسيره لرموز الرواية، وإنما يبقي السؤال مفتوحاً عن ماذا تراها تكون "حارتنا" التي هي "أصل مصر"، مع كون مصر هي "أم الدنيا"؟ ثم من تراه يكون الجبلاوي، جدنا هذا الذي هو "لغز كبير"؟ وما معني الإشارة إلي أنه "عمَّر فوق ما يطمع إنسان أو يتصور، حتي ضُرِب المثل بطول عمره؛ واعتزل في بيته لكبره منذ عهد بعيد، فلم يره منذ اعتزاله أحد"؟
من هو "الجبلاوي" الذي باسمه سُمِّيت حارتنا، التي هي _ كي لا ننسي _ أصل مصر أم الدنيا؟ ولماذا أطلق عليه صاحب الكلمات اسم "الجبلاوي"؟ ولماذا جعله صاحب "أوقاف الحارة"، وصاحب "كل قائم فوق أرضها والأحكار المحيطة بها في الخلاء"؟ لماذا هذا التأكيد علي رمزية "الوقف"؟ ثم هذه الكلمات عن حال الحارة _ التي هي أصل مصر _ حيث يقول أبناء الحارة: "هذا بيت جدنا، جميعنا من صلبه، ونحن مستحقو أوقافه، فلماذا نجوع؟ وكيف نضام؟"؛ دعونا نضع هذه التساؤلات بجانب قول صاحب السرد في افتتاحيته عن نفسه وعن أبناء حارته: "كنا وما زلنا أسرة واحدة لم يدخلها غريب (...) ومع ذلك فلم تعرف حارة حدة الخصام كما عرفناها، ولا فرَّق بين أبنائها النزاع كما فرَّق بيننا (...) حتي اعتاد الناس أن يشتروا السلامة بالإتاوة، والأمن بالخضوع والمهانة، ولاحقتهم العقوبات الصارمة لأدني هفوة في القول أو في الفعل بل الخاطرة تخطر فيشي بها الوجه"!
أكاد أجزم أن هذه العبارات الأخيرة عن "حارتنا" _ التي هي أصل مصر _ هي التي دفعت الأستاذ هيكل _ رئيس تحرير "الأهرام" التي نشرت الرواية وقت ظهورها _ لأن يقرأ الرواية قراءة سياسية دفعته للإسراع بنشر الرواية قبل أن يتنبه إليها الرقيب؛ ولكن هل كانت مقاصد الكلمات بالفعل مما يمكن وصفه بالسياسة؟ وهل في هذه الصفات التي خلعها صاحب السرد علي "الجبلاوي" ما يشي بأنه يرمز للدين، كما ذهب الدكتور أبو المجد في تأويله لرموز السرد، أو بأنه يرمز للإله، كما ذهب غير الدكتور أبو المجد في تأويلهم؟ بطبيعة الحال يمكن لمن يريد هذه القراءة أو تلك أن يجد في حديث السرد ما يقطعه من سياقه فيدعم حكمه علي معاني الكلمات؛ ولكن إذا كان "الجبلاوي" يرمز بالفعل إلي "الإله"، فإلي أي شئ يرمز "الوالي" الذي بسبب منزلة "الجبلاوي" عنده تمكن هذا الأخير من امتلاك الحارة والسيادة عليها بقوة ساعديه؟
فك هذه الرموز يدفعنا للصعود مع نهر عطاء نجيب محفوظ إلي منابعه الأولي، وإلي روافده التي راحت تغذي نهر العطاء هذا علي طول مساره؛ فقد بدأ النهر رحلته بخمسة أو ستة كتب علي امتداد أكثر من عقد من الزمان، بدءاً بمصر القديمة في بداية ثلاثينات القرن العشرين، وانتهاءً بكفاح طيبة قرب منتصف الأربعينات، وجميعها يتناول التاريخ الفرعوني القديم؛ وإذا جاز لي أن أستعير بعض كلمات الأستاذ الغيطاني _ أحد حواريي نجيب محفوظ _ فقد أستعير قوله في "متون الأهرام" إن "للبدايات دائماً شأن عظيم، والبدايات لا تتكرر ابداً (...) أو قوله في "مقاربة الأبد" إن "للمذاقات الأولي متانة المرجعيات".
هل تشي بدايات نهر العطاء بأن ماء النهر الذي تركه لنا نجيب محفوظ قد شكلته هواجس الدين وهواجس الجنس، أم هي تشي بأن ماء النهر قد شكلته هواجس التاريخ والبحث عن الأصول البعيدة؟ وهل يمكن أن نري علي صفحة نهر العطاء صورة البدايات والمآلات تسيطر علي ما عداها من صور الحياة؟ هل يمكن أن نري في "بداية ونهاية" صورة أبناء الأصول الذين رحل "عزيزهم" عن دنيانا تاركاً وراءه أبناءً ينزلون من الطابق الأعلي إلي "البدروم" فيكون منهم الصالح والطالح والشقي والساقطة؟ هل يرمز هذا "السقوط" لهواجس الدين، أم لهواجس الجنس، أم لهواجس التاريخ صعوداً بأبناء الأصول وهبوطاً بهم؟ كيف نقرأ بطل الثلاثية - السيد عبد الجواد _ بهيبته التي تجعله "السيد" بين الناس، وبنزواته التي تجعله "الضائع" بينهم؟ هل نري فيه، وفي نهر الحياة التي شكلها وشكلته، هواجس الجنس في بيوت العوالم، أم هواجس الدين عند الأحفاد الذين تفرقوا ذات اليمين وذات اليسار، أم هي هواجس التاريخ الذي امتد بالأجيال هبوطاً وارتفاعاً؟ هل هي نزوات البشر التي سيطرت علي نهر العطاء الذي تركه وراءه نجيب محفوظ، أم هي نزوات الزمن؟ هنا فقط، مع هذا السؤال الأخير، يمكن لهاجس الدين ولهاجس التاريخ أن يجتمعا في هاجس واحد هو هاجس "القدر".
هل يمكن أن نري في "الجبلاوي" صورة التاريخ، لا صورة الدين ولا صورة الإله؟ أم هو رمز نري فيه صورة "القدر" الذي لا راد لحكمه؟ أم تراه يكون القدر الذي صنع التاريخ؟ أم هو التاريخ الذي صنع قدره بإرادته، فكافأه علي سعيه الإله؟ وهل يمكن أن يكون "الوالي" في هذه الحالة أو تلك هو "الإله" الذي أنعم علي هذا "الجبلاوي/التاريخ" بتلك الصفات التي أوردها صاحب السرد في افتتاحيته؟ "كان رجلاً لا يجود الزمان بمثله، وفتوة تهاب الوحوش ذكره [...] لكنه لم يكن كالفتوات الآخرين، فلم يفرض علي أحد إتاوة، ولم يستكبر في الأرض، وكان بالضعفاء رحيماً (...) ثم جاء زمان فتناولته قلة من الناس بكلام لا يليق بقدره ومكانته، وهكذا حال الدنيا" ... هل تنطق هذه العبارات بهواجس الدين والجنس، أم هي تنطق بهواجس التاريخ والبحث عن البدايات وفضح المآلات؟
منذ أيام، خرج علينا واحد ممن ألقته إلي صحن الدار نزوة الأيام، فنضح بما فيه من هواجس ليصف "أدب" نجيب محفوظ بالدعارة، ويصف الحضارة الفرعونية بالحضارة "العفنة"! وهكذا هو حال الأيام!! لم ير صاحب "العفن" في "الجنس" إلا الدعارة، وحسب أن الدعارة لا تكون إلا بالجنس! وما أحسب الباحث عن البدايات كان ليسقط في مثل هذا الماخور العقلي، وما أحسب صاحب الماخور وهو يترنح من خمر السياسة التي أسكرته كان ليحسن قراءة الرموز ... ودعونا نذهب لواحدة من نساء نجيب محفوظ علَّنا نري إن كان ما كتبه عنها صاحب السرد "دعارة" أم هو شئ آخر لا يحسن قراءته سكاري التاريخ، وما أكثر ما يتقيؤه ليل التاريخ ممن أسكرتهم حاناته.
"بسيمة عمران"، صاحبة بيت الدعارة في رواية "الطريق"، قد تصلح مثلاً لما قد يحمله الرمز من معني لا علاقة له بساقط الحديث ... فالبسيمة حلوي مصرية أصيلة، و"اللي بني مصر كان في الأصل حلواني"! هذا البنَّاء الذي بني مصر لم يغفل صاحب "الطريق" رمزية اسمه ... "عمران" ... أما "صابر"، ابنها الشقي المدلل، العائش أبداً عالة علي أمه، فهو هذا الشعب الذي يوصف دائماً بالصابر؛ وكانت بسيمة في شبابها زوجة لرجل من أشراف القوم، ثري، ذي أصول عريقة، لكنها هجرته لينتهي بها الحال إلي أحضان من هم دونه شرفاً ومكانة، بل هم دونه ثروة وعزوة، فانحدرت معهم إلي الحضيض، وصارت بعد أن غاب عنها بهاؤها وشبابها تدير بيوت الهوي، ثم سقطت لتمضي أكثر ما تبقي من أيامها وراء القضبان، وتنتهي إلي الفقر والمهانة فتصارح ابنها الشقي بأصله الطيب، وتطلب منه أن يبحث عنه عله ينتشله مما هو فيه من شقاء ... هل هي هواجس الجنس والدين _ كما ذهب البعض _ ما تشير إليه رموز "الطريق"، أم هي هواجس التاريخ وأخطاء البدايات؟ ربما كان اسم الأب _ "الرحيمي" _ هو ما جعل الكثيرين يربطون بينه وبين الإله، وهو نفس الالتباس الذي حدث مع شخص "الجبلاوي" في "أولاد حارتنا" الذي "كان بالضعفاء رحيماً"، وكأن تاريخ مصر كما أراده البعض لابد وأن يكون شقياً وبالضعفاء "عتريساً"!!
دعونا نقارن بين حال "صابر" في "الطريق" وبين حال "أولاد حارتنا" كما سردها صاحب الكلمات في افتتاحيته إذ يقول "وأعجب شئ أن الناس في الحارات القريبة منا (...) يحسدوننا علي أوقاف حارتنا ورجالنا الأشداء، فيقولون: حارة منيعة، وأوقاف تدر الخيرات، وفتوات لا يُغلَبون. كل هذا حق، ولكنهم لا يعلمون أننا بتنا من الفقر كالمتسولين، نعيش في القاذورات بين الذباب والقمل، نقنع بالفتات (...) ولا عزاء لنا إلا أن نتطلع إلي البيت الكبير ونقول في حزن وحسرة: هنا يقيم الجبلاوي، صاحب الأوقاف، هو الجد ونحن الأحفاد" ... كي نعرف من هو "الجبلاوي" علينا أن نعرف ما هو "الجبل" الذي ينتسب إليه ... هل هي إشارة للهرم باعتباره رمز التاريخ؟ أم هي إشارة للجبل الغربي حيث يرقد التاريخ؟ الشئ المؤكد في رواية صاحب السرد هو أنه "كلما ضاق أحد بحاله، أو ناء بظلم أو سوء معاملة، أشار إلي البيت الكبير علي رأس الحارة من ناصيتها المتصلة بالصحراء وقال في حسرة: هذا بين جدنا، جميعنا من صلبه، ونحن مستحقو أوقافه، فلماذا نجوع؟ وكيف نضام؟"
هل تعبر هذه الكلمات عن هواجس الدين وهواجس الجنس، أم أنها تعبر عن هواجس التاريخ والبحث عن البدايات تعبيراً "واضحاً"؟!
هل تراني وقعت في نفس الفخ الذي وقع فيه الدكتور أبو المجد حين استنطق صاحبَ الرواية رأياً "واضحاً" أراد إيصاله لقرائه؟ لا أعتقد! فأنا لا أتناول نجيباً أجالسه في بيته المطل علي نيل العجوزة، ولا أنا أستنطق محفوظاً بعينه؛ وإنما أقرأ خرائط نهر الأفكار التي رسمتها في عقلي كلمات تحررت معانيها من عقل كاتب الكلمات ومن ضميره، وصارت لها بعد أن تحررت ألف ألف صورة في مرايا عقول الناس وضمائرهم؛ أو علني كغيري أكاد أقرأ عقلي وضميري في مرآة نهر الكلمات بعد أن تحررت من صاحبها، حتي وإن بدا لي أني أقرأ نهر هذه الكلمات في مرآة عقلي؛ فكل ما أستدعيه من المعاني إنما يحول بينه وبين ما قصده صاحب الكلمات "انتفاء السياق أو انعدام الظرف"!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.