لا تخلو قصائد المجموعة الشعرية الأولي لعزة حسين "علي كرسي هزاز" من غنائية، بل لعلها تعقد تصالحا مع الغنائية، التي خاصمها المتن الشعري لقصيدة النثر المصرية كثيرا. لا تخجل من اجترار لغة عاطفية، مؤثرة، منحازة وغير محايدة. لا تسعي لتهذيب حضور واضح للنوستالجيا، ولا لإضفاء قدر من البرود أو الجياد، حتي لو كانا كاذبين، علي لحظات متخمة بالرومانتيكية. لا تتملص من محاورة الميتافيزيقا، والتفكير في المفارق.. وكيف تفعل، وهي تواجه فضاء دلاليا يحتل مركزيته الموت؟ "كل رجل يبدأ موته بموت أبيه" .. هكذا تحضر عبارة الروائي التركي أورهان باموق كتصدير، لتوقظ مفارقة أولي. بطل التصدير الذي يتمحور حول موت الأب رجل، بينما بطلة القصائد التي تدور حول موت الأب: أنثي. التصدير أيضا ذكوري تبعا لنوع منتجه.أي حيرة أولي حيال ذلك؟ هل هو التأسيس لخصام ما مع الرؤية "النسوية"؟ كان من الممكن أن تحول الشاعرة كلمة "الرجل" إلي "المرء مثلا لتهرب من اقتصار المعني علي الرجل، نوعا وسنا، لكنها أبقت عليه. وبالتأكيد كان بإمكانها أن تهرب إلي تصدير آخر، وما أكثر ما يمكن أن يؤسس للموت، لكنها أبت. ثم.. هناك مفارقة جديدة، فالتصدير لروائي، بينما نحن أمام نص شعري. لماذا استعانت قصائد نثر بعبارة من سارد كي تقودها؟ هل هو تأسيس آخر ل"نوعية" القصائد التي ستواجهنا؟ هل هو تكريس أولي، مدروس، لعلاقة القصيدة بالسرد؟ لاتصالها بعالمه وآلياته؟ لانتمائها له كفضاء، خاصة وأنه يشاركها سمتها الجوهرية: "النثر"؟. كلها أسئلة أولي، تبزغ من التصدير، الدال، فضلا عن كل ماسبق، علي عالم المجموعة: الموت. عنوان المجموعة أيضا إحالة هامة، هو لافتة كبيرة تنضوي تحتها نصوص المجموعة ولا تحضر كعنوان لإحداها.العنوان يحيل لجسد يبحث عن لحظة استرخاء مترفة، لينفض عن نفسه غبار يوم أو حياة كاملة. والمشاهد التي ترقبها عينان يتحرك بهما جسد يهتز علي هذا النحو، للأمام وللخلف، تغدو بالضرورة متأرجحة، مهتزة مشوشة، تفقد ثباتها، ويصعب القبض عليها بدقة.. وهذه بالضبط هي مشاهد هذه المجموعة، تبدو كأحلام يقظة تنتمي للواقع بقدر ماتنتمي للحلم. يتنازعها الحضور والغياب، الطرفان الرئيسيان في المجموعة حسب تصوري. هذا هو حال جسد الذات الشاعرة هنا: ذات في وضع سكون وفي وضع حركة في الوقت ذاته. القصائد أيضا تبدو في قراءة شاملة، عبارة طويلة يتخلق إيقاعها من السكون والحركة. علينا أيضا ألا ننسي أن الحضور في العنوان يبقي للكرسي، للشيء، الذي يحيل للحضور الإنساني في خلفيته. سيمتد هذا الخيط في النصوص، بحيث نري الذات الشاعرة متوارية دائما خلف أشيائها. عبر هذين البابين، ربما يمكننا أن نخطو داخل عالم المجموعة. نحن، بداءة، أمام لغة شعرية ملتفتة للمجازات، لتحويل المشاهد العابرة إلي أخيلة مفارقة. تجيد اللغة غزل صور جزئية متتالية، وسيالة، علي مستوي السطر الشعري الواحد، "من قبيل: "صدأ الرعشة"،"تبغ الحنين"، " دخان روحك"، "منفضة شراييني"، "رذاذ الأمنيات".. لكن اللغة الشعرية تبدو أشد نضجا، عندما تلجأ لخلق صورة تتجاوز حدود السطر الشعري، أو المفارقة الجزئية، لتكوين مشهد موحٍ، منفتح علي التأويل: " سأغمز بعيني/ لزائر شفاف/يربت علي ضريح ثلجي/ وهو يتلقف دمعة برونزية".. أو" غرفتي/ التي تشبه أرملة قديمة/ تعودت أن يدوسها الوقت/ بنفس البصمات/ فتنزف أصابع/ تنبش القسوة". وبمقاربة اللغة الشعرية، نتبين ذلك الولع بخلق صور مركبة، من المشهد العادي أو التفصيلة المبذولة، في تجريد نهم لما هو متجسد، وفي تحويل المشهد الفيزيقي عبر اللغة إلي مشهد باطني، ما يجعل من النص الشعري في مجمله صورة باطنية واسعة تؤطرها المخيلة. "الذاكرة" حاضرة علي الدوام، تمارس استعادة دائبة لعالم فارقته الذات الشاعرة، لكن الذات رغم ذلك تلتقط خيط الاسترجاع لتقدم استشرافا، غالبا ما يغيب في القتامة. وكأن الذات، بالفعل، " مشدودة بين وهمين/ أستعذب كلاهما/ وأتعذب". تبدو الذات شغوفة مرة بعد أخري، بتعريف نفسها شعريا، وهي دوما بين خيارين، أو تتمثل صورتين متباعدتين ظاهريا. هي "فتاة تفاضل بين حبيب غامض وطعنة". بين التشيؤ والترمل تقطع الذات مسافة أخري في تقديم هويتها: " أنا دمية العشرين/ أرملة أبي" ، "كل إفاقة/ يعلقون وجهي/ في الفاترينات". لا تبدو الذات أكثر من شبح، بقايا وجود فقد تجسده وصار طيفا غير قادر تماما عن الإعلان عن نفسه، ولم يعد أمامه سوي أن يتشيأ، متخفيا بأقنعة صامتة أو موجودات تشبه البشر لكنها أبعد ما تكون عما تمثله كلمة"ذات"، كالدمي، التي تحضر في غير موضع مرتبطة بوضعية الذات الشاعرة في الوجود الإنساني. إنها تؤكد، عبر مجازات لا يصعب فض مغاليقها الدلالية ، علي "ادعاء الحياة". الغياب، الفقد،الوداع، وغيرها من الدوال، تتواتر ولا تكف الذات عن اختبارها بامتداد النصوص. غير أن ما أراه أفدح أشكال التقنع في التجربة، هو تقمص الذات الذكورية كصوت. تفاجئنا الذات الشاعرة بتلبسها صوت المذكر، في أكثر من قصيدة، وكأنها تحل محل غياب الذكر، بالبحث عن تجسده فيها، كأثر. "أحلم بزفرة أخيرة/ أنام بعدها/ عاريا منكم". هذه الاستعارة لصوت مفارق للذات الأنثوية، تؤكد علي أن الآخر المذكر محض واحد من وجوهها ومن ثم، من أصواتها، وهي في استعادة الصوت، تردم جزءا من هوة الانفصال القسري، بقدر ما تعترف ضمنيا باستحالة تعويضه عبر أي شبيه.