حمل ديوان صبحي موسي الأخير عنواناً ملتبساً، إذ يبدو من القراءة الأولي وكأنه نوع من مفارقة المحبة، وترحيباً بالكراهية، لكنه في الحقيقة الأمر رثاء لهذا الفعل الإنساني الجليل الذي فقد بين أضراس المدنية القاهرة لكل من فيها ، هذا ما دلتنا عليه القصائد السبعة والعشرون التي حملها بين طياته ديوانه"في وداع المحبة"الصادر عن دار الحضارة في القاهرة، بدءاً من دفاتر الحضور التي ترصد حالة من القهر شبه المتعمد للعاملين في أروقة الأضابير الحكومية، حيث موظف الدفتر الذي لا أهمية له سوي أنه حامل الدفاتر المقدسة، ولا يتمني إلا أن يخطئ أو يتأخر الجميع كي يقوم بمعاقبتهم علي الطريقة المعروفة في صلاحية الكشف الطبي، ومن ثم تنتهي القصيدة بكلمات أشبه بالبيان الصادر عن مجموعات الموظفين الواقعين تحت نير التوقيع اليومي (من هنا نبدأ كل يوم/ كقصيدة منعزلة عن العالم/ لا يقرأ كلماتها أحد/ ولا تصبو إليها نفس/ ويحرص الغبار الناعم دائماً/ ألا يقترب من عناوينها ولو عابر/ في الطريق الخطأ). وتستمر هذه الحالة من الرثاء ذي التنويعات المتعددة وصولاً إلي القصيدة الأخيرة التي حملت عنوان"كيف ينجب الموت أطفاله"، والتي بدأها موسي بما يشبه بيان آخر قال فيه"أعلم الآن/ بعد كل هذه الخطوات علي الدرب الطويل/ أين يذهب الأصدقاء/ وكيف يتناسل الموتي)، هذه القصيدة التي يبدو فيها الشاعر كما لو أنه يرصد علاقة البشرية بالموت من ظهورها علي الأرض حتي وقتنا الرهن، هذا التاريخ الطويل المليء بالكراهية والعنف والصراع بين البشر، والمحاولات المستمرة لنفي الآخر من أجل إثبات الذات وتحقيقها لأدني شبهة نصر، ولا تبتعد قصائد الديوان في مجملها عن هذه الحالة من الرثاء للمحبة المفقودة سواء في هيئة الحبيبة التي أخرجته من غرفة الإنعاش لتلقي الأحبة وحدها، أو الأصدقاء الذين خانوا ما تعاهدوا معه عليه، أو المدينة التي مسخت أبنائها علي شاكلتها، فجعلت منهم قاهرين مقهورين في نفس اللحظة، ولا حاكمية بينهم إلا لعامل لعامل القوة والقهر، ومن ثم لم يعد للمحبة مكان في هذه المدينة/ الحياة التي يعش ناسها في حالة أشبه بالحرب التي لا يخمد أوارها. تتنوع القصائد بين شكلين أساسيين، الأول هو الشكل المعتاد لقصيدة الشعر الحر، أو ما يعرف بقصيدة التفعيلة، والثاني هو الشكل الذي يجيء علي هيئة ملء بياض الصفحة، وهو الذي ارتبط بقصيدة النثر الفرنسية، أو ما عرف لدينا بالنص المفتوح، لكن ثمة ما يمكن أن ندعي أنه شكل ثالث وهو القصائد القصيرة، التي لا تزيد عن صفحة واحدة، والتي تقوم بنيتها الأساسية علي المشهد المتوالد لغوياً وصورياً إلي أن ينتهي بالمفارقة شبه الفلسفية، ورغم أنه من حيث الشكل ينتمي إلي الحالة الأولي، غير أن البنية الفنية التي قام عليها تجعلنا نتعامل معه كما لو أنه قصيدة هايكو علي الطريقة العربية، ورغم أن البنية الأولي لنصوص موسي هي السرد، غير أنه في الشكل الأول يعد أخف حضوراً من الشكل الثاني الذي اعتني بالروح الأسطورية والثقافة الشعبية أكثر من المجاز والاستعارة اللغوية، وقد جاءت بنيته السردية في بعض النصوص أقرب إلي طريقة الحكي الشعبي المليء بالخيال والروح الأسطورية والقدرة علي تنمية المشهد الشعرية لبلوغ أقصي تفجيراته الإنسانية، ليضعنا أمام حالة شعرية مكثفة قلما تحتفي بها أعمال شعراء قصيدة النثر، كما في قصائد"عجوز لا يصدقها أحد، لأننا لا نحب الأشباح، ذات موقد مشتعل، بيان ختامي لرجل علمته المدينة، الملاك السارق، حامل الكوالين". وفي الوقت الذي مازال بعض كتاب قصيدة النثر يركز طاقته الشعرية علي الهامشي واليومي والأشياء الصغيرة فإننا نجد موسي يقدم نصوصاً منشغلة بالقضايا الكبري كالموت والحياة والهم السياسي والاجتماعي والحرب والصراع البشري من أجل الوجود والترقي وغياب الضمير ومأزق استخدام القوة ومحبة الناس للقهر، جاء ذلك واضحاً في نصوص مثل"وداع الدكتاتور، لأننا نحب الأشباح، طفل في مثل أعمارهم، أمنيات بسيطة، صاحب المعجزات، من بقية النبوة"وغيرها يقول موسي: (كثيراً ما حلمت/ أن أسوي معاشي/ وأحرر نفسي من عبودية العمل/ كثيراً ما أحصيت السنوات التي سأشتريها/ والقروش التي سأحوزها من مقامرة قد يجيئني الموت قبلها بسنوات). لعب ديوان"في واع المحبة"علي عدة أساليب في خطابه الشعري مستخدماً ضمير الغائب تارة، وضمير المخاطب تارة أخري، وفارضاً تكنيك الحكاية إلي جانب الحس الغنائي، ومنوعاً من موضوعات العمل الشعري ما بين الذاتي والعام، ومازجاً بينهما في كثير من الأحيان، غير أن الحس الغنائي كان الرابط الأكبر بين أجواء العمل ككل، مما يجعل الذات هي البطل الرئيسي للعمل، حتي فيما يسمي بالهم السياسي أو الاجتماعي العام، وكأن الذات كانت محور العمل ولكن بتنويعات تشبه القيام بأدوار متعددة. ولا تفارقنا فكرة الرثاء بدءاً من الإهداء أو التصدير الذي قال فيه"لا ألومها لأنها رحلت ولكن ألوم نفسي التي لم تستطع أن تمنعها عن الغياب"، وهو ما يمكن اعتباره الجملة المفتاح للعمل، فعلي أساسها يمكن إعادة تأويل العنوان"في وداع المحبة"، ومن ثم تتعدد حالة الرثاء بدءاً من الحبيبة والأب والأصدقاء وحتي المناخ السياسي والاجتماعي المؤمن بالدكتاتورية بدءاً من شكلها الواضح كالدكتاتور الذي تحول إلي شبح مختف في قصره حتي نسيه الجميع دون أن يجرأ أي منهم علي الرغبة في التأكد من موته لأنهم لا يحبون الأشباح ولا يعلمون كم يمكن لديناصور مثله أن يبقي علي قيد الحياة مصارعاً للموت، مروراً بحامل الدفاتر المقدسة الذي منحته سلطته القدرة علي قهر كل زملائه والمتعاملين معه، وانتهاء بالحرب التي فرضت علي الجميع، والمدينة التي علمت أبناءها القسوة والشر. يجيء ديوان موسي مغايراً لكل ما ينتج الآن من أعمال تتشابه في حديثها عن اليومي والهامشي، ليحتفي ليس بالذات وقضاياها ولكن بالعالم وما يدور به من صراع وجودي، مما يجعله حالة شبه متفرده بين ما ينتج في عالم قصيدة النثر، بمذاق خاص علي طريقة السرد الشعري لا الروائي الذي اضطلع موسي بالعمل فيه عبر عدد من الروايات التي لم ينتبه إليها الكثيرون، مما يجعلنا نتساءل عن العلاقة بين السرد النثر والسرد الروائي لدي موسي، لولا أن هذا السؤال يحتاج إلي مقال أوسع في وقت لاحق. الكتاب: في وداع المحبة المؤلف: صبحي موسي الناشر: دار الحضارة