عز الدين نجيب تتفق معظم المراجع العلمية في أن التعريف الدقيق للديمقراطية هو حكم الشعب بالشعب ، وهو مايؤكد أن حركة التاريخ ومعطيات الجغرافيا ودفء العقيدة هي ملك خالص للجماهير ، وبما أن تلك العناصر هي المكون المعرفي الأساسي للشعوب ، لذا فالتعريف المنطقي للثقافة في هذا السياق هو تثقيف الشعب بالشعب ، وعليه فإن الحركة الثقافية المصرية الآن هي الأحق بذلك الفعل الثوري الذي يدعو إلي امتلاك تراث الأمم بأيدي أهلها علي المستويين العقلي والروحي ، وربما كان هذا هو جوهر مافعله الفنان الكبير سعد زغلول بتشييده لمؤسسته الثقافية الخاصة بمدينة أسيوط ، والتي تم افتتاحها يوم السادس عشر من إبريل الماضي ، بحضور نخبة من نجوم الحركة الثقافية المصرية الذين تباروا في مساندة المشروع واحتضانه بحب ولهفة وطنية بالغة ، إضافة إلي ذلك الإلتفاف الجماهيري اللافت الذي أحاط الإحتفالية بوهج منير ، حتي بدا المهرجان في يومين متتابعين وكأن الإبداع المصري قد بدأ يعود من خلاله رويداً إلي حضن الجماعة الشعبية .. وأعتقد أن مادعم هذا هو السمت الفكري الواضح لمنجز سعد زغلول ، والذي تلخص في الرؤية والرسالة والهدف ، حيث ذكر في مطوية الحدث أن المؤسسة تتطلع إلي مجتمع مصري يستكمل ملامحه الأساسية بوعي كامل لتاريخه وموروثه من القيم الإنسانية وإبداعاته في الثقافة والفنون والصناعات والحرف اليدوية ، علاوة علي أن الفن رسالة والإنتاج ضرورة ، علي اعتبار أن العمل التطوعي والمشاركة الشعبية من ألزم ضرورات المرحلة ، وهو ما يجعل رعاية كل المواهب الفنية من الأطفال والشباب نصب العين ، وقد أدي هذا بالضرورة إلي بلورة أهداف المؤسسة في تنمية المجتمع الصعيدي وتشجيع التعاون والتنسيق مع المؤسسات الأهلية المشابهة ، عبر الدراسات الميدانية والنظرية لرصد الحرف والصناعات التي اندثرت أو أوشكت علي الإندثار .. وقد ظهر الكرنفال بالفعل متنوعاً وثرياً بعطاءات جماعية وفردية ، حيث افتتحت الأمسية بمعرض تشكيلي ضخم ضم إبداعات لمجموعة من الحرفيين والمبدعين ، مثل حسن جابر وجلال وهمان ووجدي رفعت ودعاء المراغي ، علاوة علي حرفييي جمعية أصالة بالقاهرة ، التي يرأسها الفنان والناقد الكبير عز الدين نجيب ، إضافة إلي أبرز مافي العرض وهو جماعة " بدايات " التي ظللت تحت اسمها مجموعة واعدة من شباب الفنانين التشكيليين ، مثل أحمد مجدي وعماد أبوجرين ومصطفي خضر ومي عبد الناصر ومعتز كمال وإيناس ضاحي وعاصم عبد العزيز وعلاء هريدي ودينا محمد ، إضافة إلي الفنانين المخضرمين ممدوح الكوك ومنصور المنسي ، ومن المسرحيين عماد علواني وعبد الله سعد ونور الدين جمال وضياء المضيري ، ومن الموسيقيين زكي فرغلي وأمير مرزوق ومايكل نبيل ومحمد فرغلي وياسر مرزوق ، وهي الفرقة الموسيقية التي أحيت حفلاً تراثياً بديعاً عقب افتتاح المعرض الذي شهد كذلك عرضاً موازياً للفنانين سعد زغلول وبخيت فراج وعدلي رزق الله وهبة عنايت من أبناء أسيوط ، والفنان عز الدين نجيب كضيف شرف وأحد المكرمين في المهرجان ، إضافة إلي مجموعة أخري من فناني أسيوط ، وعقب الإفتتاح أقيمت ندوة ساخنة تحت عنوان " الفن والثقافة في مصر بعد 25 يناير " تحدث فيها :عزالدين نجيب وسعد هجرس ود. محمد عبد الحافظ وكاتب هذه السطور ، وأدارها د. محمد إبراهيم منصور ، والمدهش أن الحضور كان مكثفاً ومتفاعلاً مع المحاضرين ، بخاصة أن الطرح تناول الفساد في السنوات الثلاثين الماضية علي الأصعدة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والإبداعية ، وقد تم التركيز علي الجانب الثقافي ،لا سيما سلوك فاروق حسني خلال أكثر من ثلاثة وعشرين عاماً خرب فيها الحركة الثقافية المصرية كما لم يحدث في تاريخها من قبل ، وقد اقترن الحوار ببعض إضاءات علي المستقبل القادم في حياة مصر بشكل عام ، علاوة علي إشارتة إلي كاتب هذه السطور للفنان رضا عبد الرحمن الذي كان أحد ضيوف المهرجان بصفته صاحب أول عمل تشكيلي عن الثورة ( هدير الثورة ) ، حيث طرحه في ميدان التحرير يوم الثامن عشر من فبراير لتحتشد حوله جموع الجماهير ، موقعين عليه بحمأة وطنية ، وفي هذا السياق ألقي المحاضرون الضوء علي مشروع سعد زغلول كنواة لما يجب أن يكون في الفترة الزمنية القادمة ، وقد اختتمت الليلة بحفل لفرقة الموسيقي العربية بأسيوط تحت قيادة المايسترو حسام حسني ، تجلت من خلاله مجموعة مدهشة من المواهب الفذة .. أما اليوم التالي فقد كان أكثر توهجاً وجماهيرية ، حيث بدأ بعرض لكورال أطفال أسيوط بقيادة المايسترو ناصر محمد ، حيث شدوا بأعذب الأغاني الثورية المصرية ، تلته أمسية شعرية ملتهبة لمجموعة من كبار شعراء أسيوط ، مثل درويش الأسيوطي الذي أدار المنصة باقتدار ، وسعد عبد الرحمن الذي تعامل مع الليلة كشاعر فقط وليس كرئيس لهيئة قصور الثقافة, وعزت الطيري ، إضافة إلي الشاعر الكبير ماجد يوسف والكاتب السياسي جمال أسعد ، وعدد من شباب شعراء أسيوط ، حيث انطلقوا جميعاً في نثر بهجة الحرية الثورية علي الحضور المتحمس الذي اشتعلت مشاعره أيضاً مع المطرب والملحن أحمد أسماعيل الذي استحضر التراث الثوري الوطني للشاعر الكبير فؤاد حداد .. وخلال الأمسية تم تكريم ثلاثة من المبدعين الكبار هم الناقد والفنان عزالدين نجيب والشاعران درويش الأسيوطي وسعد عبد الرحمن ، علاوة علي أحد ضباط الشرطة الشرفاء الذين قدموا فعلاً استثنائياً في حماية الأهل والممتلكات أثناء الثورة .. ومع نهاية هذا المهرجان المشرف كان فيض من الأفكار قد اختمر في ذهني ، وبات حتمياً الانتباه له ، بل إدخاله حيز التنفيذ , وهو ما أوجزه في الآتي : أولاً : أثبت المهرجان أن الكيان الأهلي يملك القدرة التنظيمية للفعل الثقافي وتكريم رموزه ، وهو مابدا في إصرار وإرادة الفنان سعد زغلول علي إتمام الاحتفالية بهذا المظهر المشرف . ثانياً : لم يقتصر الأمر عند الفعل المهرجاني فقط ، بل كان مسنوداً بقاعدة انطلاق فكرية تتمثل في أهداف ورسالة المؤسسة التي أرسي دعائمها سعد زغلول . ثالثاً : كشف الحدث عن قدرة علي التواصل بين الأجيال ، حيث ساند الشباب الأسيوطي هذا الكيان الوليد بحماسة لافتة تكاملت مع خبرة الكبار . رابعاً : لم يكن المهرجان معتمداً علي الإبهار الاحتفائي بقدر ماكان مرتكناً إلي فعل إبداعي حقيقي في معظم صنوف الفن . خامساً : أكمل بهجة المهرجان ذلك التفاعل الجماهيري الملحوظ علي صعيدي الرعشة الوجدانية والوهج العقلي ، بما أكمل الدائرة الإبداعية القائمة علي البث والتلقي . لذا ومن أجل كل ماسبق فإننا نخلص إلي حقيقة لاشك فيها ، وهي أن العمل لابد أن يتحول إلي نطاق المبادرة الشعبية ، حيث الحراك الجماهيري الفاعل الذي يحفظ ثقافة الأمة من التلاعب بمصيرها ،وبخاصة أن الدولة لم تقدم إلا فشلاً جلياً في العقود الأربعة الماضية التي كانت فيها الثقافة في خدمة النظام الفاسد وليس الشعب المشتاق إلي تراثه الأصيل ، لذا أمست مؤسسة سعد زغلول بمثابة البشري للإبداع المصري بأنه سيعود رويداً إلي حضن الجماعة الشعبية .