تمضي الحياة بنا رتيبة كما يمضي نهر النيل, دون أن نسأل أنفسنا: أين نحن.. ومن أين جئنا.. وإلي أين؟.. تلك الأسئلة الوجودية التي تحدد للأمم الناهضة خريطة الطريق لتقدمها... إن النيل في تدفقه علي مر التاريخ, وبما يوفره لنا من أمان واستقرار, وبما يعكسه من ثقافة نهرية أفقية تدعو إلي التواكل والصبر, يعفينا كثيرا من طرح الأسئلة أو من البحث عن إجابات لها, أو الاكتفاء بإجابات بسيطة لكنها غير شافية, فنسلم مصائرنا للمقادير أو لحركة القصور الذاتي أو لرد الفعل المنعكس, لكن ذلك يفقدنا الوعي بضرورة اكتساب ثقافة المساءلة وإرادة التغيير, بدءا من الفهم الصحيح للواقع والإمساك بأسبابه حتي نعمل علي تغييرها.. ولا يعني ذلك قصورا في جيناتنا الوراثية, فقد استطعنا بالفعل امتلاك إرادة التغيير وتحقيقه في محطات متفرقة من تاريخنا الحديث, ومنها تغيير مجري النيل نفسه عندما أردنا بناء السد العالي, ما يعني أننا نستطيع.. لو أردنا!. والحركة التشكيلية المصرية في مصر قد تبدو أسهل من غيرها كحالة تستدعي الفهم ومن ثم التغيير, بيد انها في الحقيقة من أصعب الحالات, لأنها جزء من الثقافة في مستواها العلوي المتصل بالذائقة البصرية للفن, والثقافة بشكل عام هي مشكلة المشاكل بالنسبة لقضايا التغيير, لأنها ترتبط بالانسان نفسه, بمجموعة القيم والتقاليد والأذواق وأنساق المعرفة المتراكمة في وعيه ووجدانه عبر الأجيال, ولأنها ترتبط كذلك بالتاريخ والجغرافيا والعقيدة, وهي بالنسبة للمصريين ركائز راسخة في أعماقهم كالقواعد الخرسانية, لكن الوضع قد يختلف كثيرا بالنسبة للثقافة والفنون الحديثة, لأن بذورها وأنماطها جاءتهم في معظمها من أوروبا منذ قرن مضي, مع إنشاء الجامعة الأهلية ومدرسة الفنون الجميلة ومسرح العلبة ذات الستارة, وربما سبقه قرن آخر من التمهيد البطيء لذلك كله خلال الحملة الفرنسية علي مصر وفترة حكم محمد علي وأسرته, خاصة الخديو اسماعيل, وربما استطاعت هذه الثقافة المتأوربة أن تدخل البلاد وتستقر في المؤسسات التعليمية والثقافية عبر شريحة من أبناء الطبقات العليا والمتوسطة, لكنها لم تدخل ناهيك عن أن تسكن عقول وأفئدة الطبقات الشعبية, التي بقيت قانعة بثقافتها التقليدية القائمة علي ثوابت تقف حائلا دون قبول الثقافة والفنون الجديدة حتي الآن, رغم كل الانجازات الهائلة من جانب الدولة والمثقفين, وبات من الحقائق المستقرة علي الأرض: أن للمثقفين ثقافتهم الخاصة المرتبطة بالحداثة الغربية غالبا, وأن للجماهير ثقافتها الخاصة الممتدة نحو جذورها التاريخية, إلي جانب ما يتداخل فيها من عناصر خارجية تزيدها انغلاقا. وها قد مر قرن جديد دون تحقيق تقدم يذكر نحو اجتياز الفجوة بين الثقافتين أو التزاوج بينهما.. والسؤال هو: هل العيب في الجماهير؟.. وهو يشبه سؤالنا عن تفشي الأمية: هل العيب في الأميين؟.. وقد نجد الاجابة سهلة وهي لا, لأن من البديهي أن المسئولية تقع علي الفاعل لا علي المفعول به, لكن سؤال الثقافة بالغ التعقيد, فإن الجماهير تعيش علي الثقافة الشعبية أو علي ما تتلقاه من مواد سطحية عبر أجهزة الاعلام, مما يجعلها راضية بحالها دون شعور بأن شيئا ينقصها, علي عكس حال المثقفين وعلي رأسهم الكتاب والفنانون والناشطون الثقافيون إذ يشعرون بالأزمة, لغياب الطرف الضروري من أجل اكتمال الحالة الثقافية وهو الجمهور, فبدون طرف يتلقي منتجهم الثقافي لا تكتمل دائرة التواصل. علي أنه لا يمكن تبرئة هؤلاء المثقفين من أسباب تلك الأزمة, فهم وإن من حقهم, بل وواجبهم, التطلع إلي الحداثة ومواكبة مستجداتها في الفنون والآداب المختلفة, انطلاقا من أن الفن والأدب في النهاية لغة عالمية, خاصة في عصرنا الذي تجاوز كل الحواجز بفضل ثورة الاتصالات التي جعلت العالم قرية كونية إلا أنهم قد نسوا أن الفن والأدب ينطلقان من المحلية, وأن الحداثة في هذه الحالة ينبغي أن تنبع من جنس الأصول والمكونات, مستفيدة في ذلك بمنجزات التطور الجمالي في الفنون والآداب الحديثة, وهنا يصبح من السهل أن تلتحم حداثتهم المحلية بالحداثة العالمية, وهذا ما أثبتته تجارب كثيرة عبر العالم خاصة في الأدب, ومنها تجربة رائدنا نجيب محفوظ, التي أهلته بحق للعالمية, لكن قلة نادرة من فنانينا عامة, ومن فنانينا التشكيليين خاصة, قد أثبتت هذا المعني وانطلقت إلي العالمية. إن علماء الحضارة لا يزالون في حيرة من أمر الفنون الجميلة( التشكيلية) في الحضارة المصرية القديمة, ولعلي شخصيا أري أن مصر القديمة هبة الفنان مثلما رأي هيرودوت أنها هبة النيل.. فالفنان رساما ونحاتا هو الذي صاغ محتوي الرسالة الحضارية بحسه العبقري وهو الكاهن أيضا وأهداها للخلود.. وأتساءل: ماذا كان يمكن أن يصبح عليه شأن الفن في مصر الآن لو لم تتكالب عليها موجات الغزاة الأدني تحضرا منها؟.. وماذا لو لم تكن أخذتها بعيدا عن سماحة الدين بعض المفاهيم الضيقة الآتية من الصحراء, فحرمت ما أحله الله لغذاء القلوب والأرواح, أو قصرت أغراضه علي الزينة والمنفعة؟.. وعندما أفاقت من غيبوبتها منذ مائتي عام وراحت تلملم خيوط وعليها بذاتها, كان العالم في الغرب قد سبقها وأسس مفاهيم وقيما جديدة للفن, نابعة من تراثه اليوناني ورصيده العقلاني ومن واقعه المادي أيضا, ولأن مصر كانت الطرف المغلوب وكان الغرب هو الغالب, لم يكن أمام طليعتها الا الاقتداء بمفاهيمه وقيمه, حتي لو اختلفت عن مفاهيم الأمة وقيمها وذائقتها الجمالية. هكذا دبت الحياة في شرايينها المتيبسة بعد ألفي عام من الانقطاع الحضاري, لكن بدماء أجنبية, وقد حاول الجسم الثقافي أن يستوعبها وأن يشكل بها حركته ومصيره منذ قرن من الزمان, فتأرجحت الثقافة بين الصعود والهبوط, بين ولاء التلميذ للأستاذ الأجنبي, وصحوة الهوية المصرية تعبيرا عن عبق المكان وحس التاريخ والمزاج والمعتقد, أو عن المادة والروح.. وبين إشباع حاجة القصور للجمال علي النسق الأوروبي, وحاجة البسطاء للجمال علي النسق الشعبي.. وانتهي الأمر اليوم إلي صراع داخل الجسم الثقافي والفني نفسه, بين قبول الدم العولمي في العروق ورفضه, حيث أثبت التاريخ بعد مائة عام من الانفتاح والعزلة معا, أن الثقافة والفن علي عكس العلم لا يتقدمان بجراحة نقل الدم والأعضاء, بل بالتطعيم الجيني بين عناصر متكافئة من الجانبين. ولأن الطبقة الوسطي كانت المفرخة والحاضنة للفن منذ نشأته الحديثة مع افتتاح مدرسة الفنون الجميلة بالقاهرة1908, مثلما كانت الحاضنة للأدب بالفكر الجديدين وللجامعة الأهلية وللاقتصاد الوطني بل للاستقلال السياسي وللممارسة الديمقراطية, كونها القاطرة لقطار التحديث والتقدم والنهضة, فلم تكن لدي طليعتها مشكلة ثقافية في العلاقة مع الآخر( الغرب), لا من حيث التعارض القيمي أو من حيث النظرة الدينية إلي الفن, إذ كان الايمان بالنهضة نابعا من مفهوم شامل لا يتجزأ, وكان العلم عماد هذه النهضة, وكان التحرر من التخلف والجهل والظلم الاجتماعي هو الوجه الآخر للتحرر من الاستعمار البريطاني, لذا كان من السهل أن ينتقل ذوق الفنون الحديثة, من لوحات وتماثيل وعمارة, من قصور الطبقات العليا وقصور الأجانب المقيمين بمصر, إلي بيوت الطبقة الوسطي من التجار والأعيان( ملاك الأراضي) وضباط الجيش, وأن تنتعش هذه الأنماط الفنية عبر الطليعة المستنيرة من المثقفين فيما سمي بمصر التنوير بين أواخر القرن19 وأوائل القرن20.. وهنا لم يقف أحد كثيرا ليسأل سؤال الهوية حول منهج في إرساء النموذج الوطني الخالص للفن والفنان أمام قادة النهضة وقادة الطبقة الوسطي, فلم يترددوا في السماح لأبنائهم بالالتحاق بالمدرسة, خاصة بعد التفاف جميع أبناء الأمة لإقامة تمثال نهضة مصر لمختار بالاكتتاب الشعبي من أجله. كان ذلك خلال الربع الأول من القرن الماضي.. فانظر وياللمفارقة! إلي ما انتهي إليه الأمر خلال الربع الأخير منه, فقد تغيرت نظرة المجتمع للفن, ومن ثم إلي المدرسة التي أصبحت كلية جامعية, وأصبحت النظرة الدينية المغلقة إليها نظرة حذر وتربص, وإن لم تكن نظرة عداء, فضلا عن الحملة ضد الفن وبث الكراهية نحوه عبر الفضائيات!وما بين الربعين الأول والأخير من القرن الماضي وحتي اليوم جرت مياه وأحداث ومتغيرات, من بينها تآكل الطبقة الوسطي التقليدية, وظهور أخري بديلة لا تؤمن بشيء مما آمنت به الأولي, وها نحن نري آثار هذا التحول في الثقافة والفن, كإشكاليات معقدة, منها ما يرتبط بالفراغ السياسي وبالمفاهيم الملتبسة للحرية والهوية والحداثة, ومنها ما يرتبط بالعلاقة السلبية للمثقفين بالمجتمع, وبالتعصب الديني, وبصراع المصالح بديلا عن الحوار أو حتي الصراع علي أرضية الفكر, وهو ما ينعكس في النهاية في المشهد الثقافي المرتبك الذي يشبه المتاهة. لقد أصبح التحدي أمام الفنان والمثقف الجاد مضاعفا عما كان يواجههما في بدايات القرن الماضي, وسط كل هذه الالتباسات والمتاهات, ولأن غياب جسور مفتوحة بينهما وبين الجمهور يجعل كلا منهما حبيس عزلته وحصاره المادي والمعنوي, ومن ثم يصبح عليه أن يبادر بمناقشة الأسئلة التي بدأنا بها المقال, وأن يناضل لشق الطرق كي يخرج من عزلته.. وذلك هو البديل عن الموت الثقافي!.