السمك ومقاطعته !    «الزراعة»: تطوير بحيرة البردويل بسيناء بما يساهم في رفع إنتاجية الأسماك    حلم الكفراوى    وزارة التخطيط تشارك في المنتدى الأفريقي للتنمية المستدامة بأديس أبابا    الأسواق الأوروبية تغلق على انخفاض .. وارتفاع أسهم التعدين 1.9%    اتصالات مصرية موسعة لإقرار الهدنة في غزة    سفير مصر في موسكو يشارك في اجتماع مبعوثي دول تجمع بريكس حول الوضع بالشرق الأوسط    تشكيل أهلي جدة الرسمي أمام الرياض في الدوري السعودي    تفاصيل جلسة أمين صندوق الزمالك مع قنصل مصر في غانا    جلسة تحفيزية لمدرب يد الزمالك قبل لقاء أمل سكيكدة بنصف نهائي كأس الكؤوس    موقف بيلينجهام.. قائمة ريال مدريد لمواجهة سوسيداد في الدوري الإسباني    ضبط 2.5 طن دقيق مدعم قبل بيعها بالسوق السوداء في الإسماعيلية    «القطر مش هيتأخر».. مواعيد القطارات المتحركة بالتوقيت الشتوي بعد تطبيق الصيفي    اللحظات الأخير في حياة مسعد رضوان صاحب أغنية «يلا بينا».. «كان بيضحك مع أبنائه»    فى ذكرى تحرير سيناء| النصر يأتى بطاعة الله والالتزام بتعاليمه    يمنحهم الطاقة والنشاط.. 3 أبراج تعشق فصل الصيف    أطلق حمامة بيضاء.. الملك فؤاد الثاني يزور القاعة الملكية باستاد الإسكندرية (صور)    خالد الجندي: مصر لن تفرّط في حبة رمل من سيناء    في اليوم العالمي للملاريا.. أعراض تؤكد إصابتك بالمرض (تحرك فورًا)    6 نصائح لوقاية طفلك من حمو النيل.. أبرزها ارتداء ملابس قطنية فضفاضة    طريقة عمل البيتزا والمقرمشات من بواقي الفينو.. «مش هتبطل تجربها»    سبب غياب حارس الزمالك عن موقعة دريمز الغاني بالكونفيدرالية    استجابة لشكاوى المواطنين.. حملة مكبرة لمنع الإشغالات وتحرير5 محاضر و18حالة إزالة بالبساتين    دعاء يوم الجمعة.. ساعة استجابة تنال فيها رضا الله    بعد إعلان استمراره.. ثنائي جديد ينضم لجهاز تشافي في برشلونة    وزير الرياضة يشهد انطلاق مهرجان أنسومينا للألعاب الإلكترونية    بيان مشترك.. أمريكا و17 دولة تدعو حماس للإفراج عن جميع الرهائن مقابل وقف الحرب    رئيس جامعة قناة السويس يُعلن انطلاق أكبر حملة تشجير بجميع الكليات    تفاصيل الاجتماع المشترك بين "الصحفيين" و"المهن التمثيلية" ونواب بشأن أزمة تغطية جنازات المشاهير    تفاصيل اجتماع المجلس الأعلى للمستشفيات الجامعية برئاسة وزير التعليم العالي    دعاء الاستخارة بدون صلاة .. يجوز للمرأة الحائض في هذه الحالات    حرب شاملة.. روسيا تحذر حلف الناتو من نشر أسلحة نووية في بولندا    مدرب صن دوانز: الفشل في دوري الأبطال؟!.. جوارديولا فاز مرة في 12 عاما!    التحقيق مع المتهم بالتحرش بابنته جنسيا في حدائق أكتوبر    جامعة حلوان توقع مذكرتي تفاهم مع جامعة الجلفة الجزائرية    الأردن يدين سماح الشرطة الإسرائيلية للمستوطنين باقتحام الأقصى    تحرير 498 مخالفة مرورية لردع قائدي السيارات والمركبات بالغربية    مصادرة 569 كيلو لحوم ودواجن وأسماك مدخنة مجهولة المصدر بالغربية    إصابة سيدة وأبنائها في حادث انقلاب سيارة ملاكي بالدقهلية    رد فعل غير متوقع من منة تيسير إذا تبدل ابنها مع أسرة آخرى.. فيديو    محافظ كفر الشيخ يتابع أعمال تطوير منظومة الإنارة العامة في الرياض وبلطيم    محافظ الأقصر يهنئ الرئيس السيسى بعيد تحرير سيناء    ضبط عامل بتهمة إطلاق أعيرة نارية لترويع المواطنين في الخصوص    الكرملين يعلق على توريد صواريخ "أتاكمز" إلى أوكرانيا    مشايخ سيناء في عيد تحريرها: نقف خلف القيادة السياسية لحفظ أمن مصر    أمين الفتوى لزوجة: اطلقى لو زوجك لم يبطل مخدرات    الرئيس السيسي: نرفض تهجير الفلسطينيين حفاظا على القضية وحماية لأمن مصر    «التعليم» تستعرض تجربة تطوير التعليم بالمؤتمر الإقليمي للإنتاج المعرفي    مستقبل وطن: تحرير سيناء يوم مشهود في تاريخ الوطنية المصرية    أبطال سيناء.. «صابحة الرفاعي» فدائية خدعت إسرائيل بقطعة قماش على صدر ابنها    فن التهنئة: استقبال شم النسيم 2024 بعبارات تمزج بين الفرح والتواصل    افتتاح وتشغيل 21 سرير عناية جديد بمستشفي الكرنك في الأقصر تزامنا ذكرى تحرير سيناء    الين يهبط لأدنى مستوياته في 34 عاما أمام الدولار    إصابة ربة منزل سقطت بين الرصيف والقطار بسوهاج    حدث ليلا.. تزايد احتجاجات الجامعات الأمريكية دعما لفلسطين    أول تعليق من ناهد السباعي بعد تكريم والدتها في مهرجان قرطاج السينمائي    أحمد موسى: مطار العريش أصبح قبلة للعالم وجاهز لاستقبال جميع الوفود    الزكاة على أموال وثائق التأمين.. الإفتاء توضح أحكامها ومتى تجب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ترتيب الأرفف
نشر في أخبار الأدب يوم 22 - 01 - 2011


حلمت أني عُدْتُ إلي مدرستي القديمة..
ليس في الأمر جديد، فكثير من الناس علي الأقل ممن تلقّوا تعليماً في مدارس يحلمون بأنهم عادوا، وهم كبار إلي المدارس التي ترددوا عليها صغارا. وعادةً ما تتواتر مثل هذه الأحلام علي الناس في فترات القلق، وسيما ذلك الحلم المتكرر بالمثول أمام لجنة امتحان صعب. أو بالتأخر عن الوصول إلي الامتحان، أو الحلم بأنك ذهبت إلي المدرسة عارياً، لتقضي يوم الدراسة الحلمي في محاولة خداع الآخرين بأنك ترتدي مثلهم الملابس أو في محاولات يائسة لستر العُري.
لكن حلمي بالمدرسة هذه المرة كان واقعياً في جانب منه. كنت في الحلم كبيراً، في عمري الحالي، وكنت أحاول إقناع الإدارة بقبولي في المدرسة مرةً أخري، ولو بصيغة انتساب أو استماع، كما في الجامعات، وفي نيتي أن أستعيد الزمن القديم لأصحح خطأً ما حدث في الماضي. وكان العام الدراسي علي الأبواب في الحلم، كما في سبتمبر 2008 الواقعي.
ماتم تهويمه في الحلم، أو قل ماتم "كلفتته" هو: هل كنت سألتحق، بعد موافقة الإدارة العسيرة، وقد حصلت عليها، بنفس دفعتي الدراسية، أم بدفعة حديثة من مراهقين أكون في وسطهم كالعم الخائب؟ انتهي الحلم قبل أن توضع إجابة علي هذا السؤال الذي لم أطرحه علي نفسي أثناءه. ولكن الغرض الأساسي والذي من أجله ذهبت إلي المدرسة يفترض أنني سألتحق بالمدرسة مجدداً مع نفس الدفعة لأصحح ذلك الخطأ المزعوم الذي وقع في الماضي، والذي يبدو أنه طبع حياتي من بعده بما يشبه اللعنة أو الوصمة أو علي أقل تقدير، نوع من سوء الحظ الذي كان يمكن تجنبه.
في تلك "الكلفتة" تكمن حلمية الحلم؛ فالتفاصيل التي تسبق طرح هذا السؤال، كلها، بإمكانها أن تتحقق في الواقع: فبإمكانك أن تذهب فعلاً وأنت كبير إلي مدرستك القديمة، وتقنع إدارتها بأن يقبلوا التحاقك مرة أخري تحت أي مسمي، وقد يقبلون فعلاً في نظم تعليمية متسامحة، وبعد أن تدفع لهم بالطبع الرسوم الواجبة. لكن أن تعود بعمرك الكبير لتلتحق في الزمن القديم ذاته، ومع نفس الزملاء القدامي، فهنا قد تَدَخل منطق اللامعقول الخاص بالأحلام ليقصَ عمراً انقضي، ويصل زمنين متباعدين، ويحرك إرادات متعددة لصالح رغبة غامضة لتلميذ قديم يحلم.
كمن يمزج الأسمنت بقليل من الجبس تقول الدكتورة سلوان طبيبتي النفسية وهي تمزج مدرستي الرخاوي وعكاشة المصريتين بشيء من الفرويدية ليكون خطابها العلمي أكثر تماسكا: إن الحلم يحتوي علي رموز تمثل أحداث أو معضلات مرت في حياتك علي فترات متباعدة، لكنها قد ترد متجاورة في الحلم علي هيئة هذه الرموز ليستطيع مستوي ما، غير واع تماماً من عقلك، أن يفك تلك الشفرة، فيساعد جهازك النفسي علي تجاوز تلك المعضلات.
تأملتني ملياً من خلف نظارتها وهي تنقل قلمها بين أصابعها وشفتيها علي هيئة سيجارة وقالت: أحلامك نفسها شديدة الدلالة في هذا السياق.. وذكرتني بحلم قديم كنت قد رويته لها، وفيه كنت قد حصلتُ عن طريق الصدفة علي شريط تسجيل يحتوي علي ثماني أغنيات بواقع أربعة علي كل وجه هي الأغاني الأقرب إلي قلبي علي مدار عمري. كان الشريط نفسه من نوع شديد الجودة، مصنوع من بلاستيك أسود في غير لمعة بلون وملمس يقارب خشب الأبنوس. كانت أغلب الأغنيات الموجودة بهذ الشريط وربما كلها موجودة بالفعل في مكتبتي، لكنها موزعة علي شرائط متعددة طواها النسيان بين الأرفف والغبار.. وكان العثور علي هذا الشريط في الحلم بمثابة استرداد لقيمة مفقودة، أو قل مبعثرة.. ولست أدري هل حدث في الحلم نفسه، أم في حلم لاحق أني فقدت الشريط في النهاية، واستيقظت وأنا أقلب بين الأرفف باحثاً عنه. وكنت مقتنعا في صحوي، وربما لا زلت، أن ذلك الشريط الأبنوسي وجِدَ بين يدي ذات يوم..
قالت: هل تذكر..كنت أعالجك من الاكتئاب وقتها.. وكان لديك إحساس أن حياتك تتبدد.. وأنك تفقد أصدقاءك الواحد تلو الآخر، لكنك لم تفقد سوي الشريط في الحلم وبضعة عشرات من جنيهات راتبك القليل علي جلسات العلاج وأقراص البروزاك..
وواصلتُ الحكي. كانت الدكتورة سلوان تقطع الغرفة جيئاً وذهاباً وهي تستمع لي. قلت لها إني خرجت من المدرسة في الحلم، وذهبت لأجلس بمقهي مجاور، وطلبت زجاجة مثلجة من مشروب "سينالكو" المنقرض، كما كنت أفعل في صباي بالثمانينيات، وأخذت أتأمل التلاميذ المتسكعين بالمنطقة كمن يتأمل ماضيه. وسألتها مجدداً عن دلالة ذلك.
قالت : العودة إلي مكان قديم هي فكرة جوهرية في حياتك وفي كتابتك.. ألم تكتب مرة قصيدةً عن مراهقين عادوا وبشكل قدري لمكان ارتكبوا فيه حماقة عنيفة..وتلك القصيدة الأخري عن شخص يشعر بالتورط في جريمة حدثت قبل أن يولد فيذهب لمسرحها كشريك قديم..بداخلك شعور عميق بالذنب تجاه أمر مجهول..وهو نوع غريب من الشعور بالذنب لا يخامره الندم..كأنك تلوم نفسك وتتواطأ معها في نفس الوقت..
عادت الدكتورة سلوان وجلست علي مكتبها، وخطت شيئاً بالقلم في دفترها، وقالت إن الأمور كما تبدو لها ليست سيئة، وإن علي أن أبدأ بالكف عن تعاطي دواء القلق تدريجياً.. وحددت موعد الزيارة التالية في الشهرالقادم.
عدت سيراً علي الأقدام من الزمالك حيث عيادة الدكتورة سلوان، إلي مقر عملي بمبني الإذاعة والتلفزيون علي كورنيش النيل في ماسبيرو. في هذا المساء، كانت نسائم خريفية لطيفة تهب من جهة الشمال فوق النهر وأنا سائر علي "كوبري مايو" أفكر بكلام الدكتورة حول طريقة الذهن في معالجة نفسه عن طريق الأحلام، وخطر ببالي بيت "وإن كواني الهوي وطارَ..كانت رياح الدجي طبيبي" من قصيدة النهر الخالد بصوت عبد الوهاب، ورحت أردده طوال الطريق جهراً بصوتي تارة، وتارة بترديد اللحن فقط، أو الصفير به. وبدا لي وانا أسير فوق الجسر أدندن بهذه الأغنية، ومن حولي أضواء المدينة بانعكاساتها علي "النهر الخالد" أن ثمة معني يلف حياتي كلها في تلك اللحظة، أو كأن تطابقاً غامضاً يجري بين تصور مجرد من معاني الحياة الكبري وحركتي الآن كمواطن يقطع الجسر ليلاً ذاهباً إلي عمله.
كانت لدي الليلة سهرة في حجرة المونتاچ بالدور الرابع لتوليف حلقة من برنامج"سينما المؤلف" الذي أقوم بإعداده. لم أهبط من الجسر باتجاه مبني التلفزيون مباشرة، لكني آثرت اختراق حي بولاق أبي العلاء لشراء بعض سندويتشات الفول والطعمية، لي وللمونتير الذي سيسهر معي، ثم دخول مبني التلفزيون من الباب الخلفي.
كانت الحلقة التي سنعمل علي مونتاچها الليلة عن المخرج الأمريكي "روبرت زيمكس". بادرني المونتير، وهو من النوع المثقف قياساً لبني مهنته: هل يعتبر روبرت زيمكس مخرجاً مؤلفاً؟؟ كنا قد استنفدنا في حلقات سابقة اسماء نحو دستة من المخرجين المؤلفين: من الكاهن السويدي، للرسول الروسي، للسحرة الطليان الثلاثة، للسوريالي القطالوني، لأرباب الموجة الجديدة في فرنسا، مرورا بتيار السينما النقدية في أمريكا؛ حتي نفدت سبل الحصول علي مادة فيلمية لمخرجين كلما ازدادوا ايغالاً في شعرية السينما كلما صاروا أقل شهرة. قلت له إن زيمكس ليس مخرجاً مؤلفاً بالضبط، لكن المُضطر يركب الصعب، وزيمكس رغم كونه مخرجاً تجارياً بوضوح، إلا إنه كتب بنفسه أشهر أفلامه وأنجحها، أي فيلم"العودة للمستقبل" وهو فيلم شديد الإتقان بمعايير السينما التجارية.. في النهاية أفهمته أن البرنامج لابد وأن يستمر لتكتمل دورته، ولنجد قوت يومنا. وهو ما كان ليجادل، فقط يدلي بدلوه في المادة، بدلاً من أن يعمل علي مونتاچها كالحمار يحمل أسفاراً. وبالطبع، كان هو علي حق.
جلسنا في البداية، وأكلنا سندوتشات الفول والطعمية، وشربنا كوبين من الشاي مع سيجارتين،
علي الرغم من حظر الإدارة الصارم لتناول الأطعمة والمشروبات والتدخين داخل وحدات المونتاچ، وبدأنا العمل في نحو الواحدة بعد منتصف الليل. كان الشغل علي الحلقة لا يحتاج إلي مجهود ذهني كبير مني، فقد أديت عملي مسبقاً، فقط عليّ أن أتابع رصّ ما تم تصويره وفقا ل"سكريبت المونتاچ" الذي أعددته. مما يعني تسجيل كلام المذيعة تقرأ ما كتبته لها، ثم يلي ذلك تسجيل مقطع من فيلم. وتتكرر نفس المسألة نحو ثلاث او أربع مرات وتكون لدينا حلقة
من فئة 30 دقيقة جاهزة للبث. وهو ما لا يتطلب أيضا مهارات فائقة من المونتير، هو فقط يقص ويلصق بالمنطق القديم. كانت تقديمات المذيعة كلها مسجلة علي شريط، والمقاطع من أفلام زيمكس كلها علي شريط آخر، وما عليه سوي دمجهما معاً علي الشريط"الماستر" أي الشريط الذي يذهب بعد عدة اجراءات بيروقراطية لوحدة البث.
الفيلمان الأساسيان اللذان تناولتهما في الحلقة هما فيلما "العودة للمستقبل" و"فورست جامب". في الفيلم الأول يلعب الممثل الأمريكي ذو البيبي فيس "مايكل جي فوكس" دور تلميذ مراهق في ثمانينيات القرن الماضي يؤرقه ضعف شخصية أبيه. ويستطيع عن طريق آلة زمن اخترعها صديقه العالم المخبول، أن يرجع في الماضي إلي حقبة الخمسينيات، حين كان أبوه وأمه في مثل عمره وبنفس مرحلته الدراسية. للمصادفات المشينة، تكاد أمه أن تقع في حبه هو، وتبتعد عن طريق التلميذ الخائب الذي يشاغلها: أباه في المستقبل. يدفعهما جي فوكس دفعا في طريق بعضهما، وإلا تهدد احتمال وجوده هو الشخصي في المستقبل في حالة فشل العلاقة. وتذوي ملامحه من صورة عائلية يحملها من زمن الثمانينات، كلما ابتعد أبوه المستقبلي عن طريق أمه المستقبلية في زمن الخمسينيات. في أحد المشاهد يعزف جي فوكس الجيتار في حفل بمدرسة أبيه وأمه، فتأخذه الجلالة ويندمج فيسرٍّع العزف حتي يقارب أسلوب الهارد روك الذي لم يكن معروفاً وقتها. يسمعه أحد العاملين السود بالمدرسة، فيسارع بالاتصال بقريبه الذي لم يكن سوي "تشاك بيري" مبتكر الروك أند رول ويخبره أنه عثر له علي النغمة التي كان يبحث عنها. زائر المستقبل يُلهم المعاصرين بما سيكون طليعياً. نفس التيمة استعملها زيمكس في فيلمه الأنجح "فورست جامب" حين جعل المشية المعاقة لفورست الطفل تلهم إلفيس بريسلي رقصته الشهيرة. أبطال زيمكس العاديون يتدخلون دون أن يشعروا في صناعة التاريخ؛ وهكذا يعود فورست من الصين بعد زيارتها كلاعب تنس طاولة في فريق المصالحة التاريخي، ليقابل جون لينون في برنامج تلفزيوني ويلهمه كلمات أغنيه "تخيل" من حيث لا يدري. وقلت إن فيلم فورست جامب هو إعادة صياغة أمريكية لرواية "كانديد" أو الساذج لفولتير: البطل الناييف الذي يطفو علي سطح التاريخ كالريشة التي جعلها زيمكس في أول الفيلم تطير فوق الموجودات. وقلت إن الولايات المتحدة في القرن العشرين هي ألمانيا وفرنسا القرن الثامن عشر في تصور فولتير. كانديد وجامب مرّا بكل تقلبات عصرهما وخاضا الحروب، وأحبا امرأة واحدة منذ البداية، ليجدا المحبوبتين في النهاية وقد تدهورتا بفعل تصاريف الزمن؛ فيعثر كانديد بعد السنين علي حبيبته كونيجوند في منفاها التركي وقد صارت قبيحة بشعة. فيما يعثر جامب علي جين حبيبته في نهاية الفيلم بعد رحلة موازية، في ولاية ثالثة وقد أصيبت بالأيدز. قال لي رامي المونتير: " لكن فولتير كان يقصد من وراء قصته توصيل الحكمة التي أوردها علي لسان مؤدِب كانديد في قلعة عمه بويستفاليا، تلك الحكمة القائلة إن ذلك العالم الذي نحياه هو أفضل العوالم الممكنة، وهو مالم يظهر في الفيلم اطلاقاً. مرةً أخري يبهرني رامي بثقافته التي لا محل لها من الإعراب، ولن أجد رداً أبلغ من أن أردد علي مسامعه حكمة فولتير بفرنسية سليمة: " لو ميور ديه موند پوسيبل" متجاهلاً ملحوظته.
انتهينا من المونتاچ نحو السادسة صباحاً، فنزلنا إلي الشارع شبه نائمين، وافترقنا علي باب المبني، فأخذت تاكسي استلم الطريق بمحاذاة النيل لنحو ثلث الساعة حتي انحرف داخلاً نحو بيتي في المعادي. بدلت ملابسي وشربت كوبا دافئاً من الحليب واستسلمت لنوم عميق. ثم كنت فجأة وبدون مقدمات، مرةً أخري في عيادة الدكتورة سلوان، أقص عليها تلك الواقعة البعيدة التي كنت قد نسيتها. كانت جالسةً أمامي علي مكتبها تنصت، وكنت أقول إني خرجت من المدرسة في نهاية ذلك اليوم البعيد، في الصف الثاني الثانوي راكباً دراجتي، وقد وضعت كتبي مربوطةً علي المقعد الخلفي. وفي الشارع، ما إن بلغت اول منعطف حتي وجدتهما واقفين: خالد شقيق داليا طالب الكلية الحربية وصديقه العملاق ماجد الأبراشي. قطعا علي الطريق وأجبراني علي التوقف. وما إن نزلت من علي الدراجة حتي بادرني ماجد بلكمة عنيفة في وجهي أطارت نظارتي، وجعلت أنفي ينزف، ثم دفعني بكل قوته فسقطت أرضاً، فركلني خالد في جنبي وقال لي: "مش قلت لك تبعد عنها"، ورأي أصدقائي المشهد لدي خروجهم من باب المدرسة فجاءوا ركضاً ؛ لكن خالد وماجد كانا قد فرا هاربين علي ظهر موتوسيكل. أقامني الأصدقاء من علي الأرض، واصطحبني هشام ومحمد تركي إلي بيتنا، وسحب هشام الدراجة طوال الطريق مشكورا.
قامت عندها الدكتورة سلوان من علي مكتبها، وسارت حتي وصلت خلف الكرسي الذي أجلس عليه، وشعرت بيدها فوق كتفي بلمسة تعاطف مع اتكاءة ناعمة. وقالت لي تعال معي. خرجت معها من غرفة الكشف فتأبطت ذراعي، وسرنا بدهليز طويل علي جانبيه أبواب موصدة و لم أكن أعرف أبداً أن عيادتها بهذا الحجم حتي دخلنا غرفة في النهاية لم تكن سوي وحدة مونتاچ عملاقة. كان جهاز المونتاچ الذي بها أشبه بأورغون كاتدرائية صرحية في مدينة قروسطية، ثلاث شاشات بحجم "هوم ثيتر" محترم وأزرار ذهبية وفضية علي لوحات مفاتيح من خشب أسود.
أجلستني الدكتورة سلوان علي مقعد وأخرجت شيء من حقيبتها لم يكن سوي شريط فيديو من بلاستيك بملمس يشبه خشب الابنوس، وقالت لي: سنتجاوز تلك العلقة وما تركته في نفسك من جروح. ثم وضعت الشريط في المُشغل وضَغَطَت علي زر فظهرتُ علي إحدي الشاشات وأنا أسير جريحاً ممزق الملابس وسط هشام ومحمد تركي، ثم ضَغَطَت علي زر آخر فتوقفت الصورة، ثم زر ثالث فأخذت الصور تتلاحق في اتجاه التراجع للخلف، وعند لحظة معينة، فرقعت الدكتورة إصبعيها وأوقفت الجهاز بحركة مفاجئة وقالت من هنا نبدأ. ثم داست زري التشغيل والتسجيل معاً.
رأيتني في نفس يوم العلقة، ولكن في لحظة سابقة عليها، في ساعة مبكرة من ساعات اليوم المدرسي ربما كانت بعد الحصة الثانية وقد قررت "التزويغ" من المدرسة. أخذت كتبي تحت إبطي ومضيت نحو دراجتي المركونة بجوار السور، وربطتها في العارض الخشبي بالسلسلة والقفل، عازماً علي أن أبيّتها الليلة في المدرسة، علي أن آخذها غداً في المرواح، ثم قفزت من فوق السور، وخرجت إلي "رحابة الحياة". اشتريت علبة سجائر كليوباترا بخمسة وأربعين قرشاً، ثم ذهبت إلي مقهي "القمر السياحي" بمنطقة "الثكنات" قرب المدرسة. طلبتُ قهوةً مضبوطة، وأخرجت دفتري وقررت أن أعمل علي الرواية التي انا بصدد كتابتها: "ثقب في الرأس". كانت الرواية عن شخص يشبهني، جعلته يعيش في زمن حرب 1967، مجنداً عائداً من الحرب بعد ست سنوات ليجد حبيبته التي تشبه داليا كثيرا قد تزوجت، فيقضي الوقت جالساً علي المقهي مستشعراً أن برأسه ثقباً لا يعرف سببه. كنت افكر فيما سيفعله البطل بعد ذلك، وقد تقدم به العمر دون أن يبدأ الحياة. عندما انتبهت لرجل في نحو الأربعين يجلس بجواري يتأملني.
ارتبكت وأغلقت دفتري عن تطفله، فوجدته يبتسم ويقول لي: اطمئن ستكون كاتباً فعلاً، لكنك لن تري داليا ثانيةً. سألته بارتياب: من أنت وكيف عرفت ذلك؟ قال لي بابتسامته: هل نسيت الدرس القديم. قلت له: أي درس؟ قال: لو ميور ديه موند بوسيبل أفضل العوالم الممكنة. قلت له من أنت؟ قال: هنا فقط، وفي هذا الزمن الافتراضي بإمكانك أن تراني، ولوح في وجهي بزجاجة السينالكو التي كان يشربها قائلا: في صحتك... ثم غامت الشاشة حتي أظلمت تدريجياً.
انتبهت لجسد الدكتورة سلوان الملتصق بجسدي مع إظلام الشاشة، ثم انقلب التصاقنا عناقاً حاراً وانقلبت معها علي الأريكة و...
استيقظت بنشوة هائلة. كانت الساعة في تليفوني المحمول تشير إلي الواحدة ظهراً. مضت نحو ست ساعات علي عودتي للمنزل. كان أول ما فعلته أن طلبت الدكتورة سلوان في التليفون وقلت لها: أريد تحديد موعد عاجل، حدثت أشياء عظيمة لا بد أن أحكيها لك. قالت لي إن عيادتها تنتهي في الحادية عشرة مساء، وستنتظرني بعدها بعشر دقائق في المكتب. أغلقت التليفون في قمة الابتهاج، وذهبت لأصنع قهوة الصباح بالحليب وقلبي يرقص فرحاً. وفي المطبخ تسرب لي خيط رفيع من الأسي: أين ذهبت دراجتي في الحقيقة؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.