إبراهيم عيسى: لو 30 يونيو اتكرر 30 مرة الشعب هيختار نفس القرار    ب800 جنيه بعد الزيادة.. أسعار استمارة بطاقة الرقم القومي الجديدة وكيفية تجديدها من البيت    يوسف الحسيني: إبراهيم العرجاني له دور وطني لا ينسى    سؤالًا برلمانيًا بشأن عدم إنشاء فرع للنيابة الإدارية بمركز دار السلام    سعر الذهب اليوم بالمملكة العربية السعودية وعيار 21 الآن ببداية تعاملات الثلاثاء 7 مايو 2024    مصر للطيران تعلن تخفيض 50% على تذاكر الرحلات الدولية (تفاصيل)    العمل العربيَّة: ملتزمون بحق العامل في بيئة عمل آمنة وصحية كحق من حقوق الإنسان    أسعار النفط ترتفع عند الإغلاق وسط ارتباك حول الهدنة في غزة    5 شهداء.. قصف إسرائيلي لمنزل في رفح جنوب قطاع غزة    في المساء مع قصواء يناقش مصير الهدنة بين إسرائيل وحماس    الشرطة الإسرائيلية تعتقل ثلاثة متظاهرين في تل أبيب وتقول «المظاهرات غير قانونية»    «الصحة العالمية» تحذر من أي عملية عسكرية في رفح: تفاقم الكارثة الإنسانية    القاهرة الاخبارية: تبادل إطلاق النار بين حماس وإسرائيل بالقرب من بوابة معبر رفح    القاهرة الإخبارية: أنباءً عن اغتيال قيادي كبير في حركة حماس في رفح الفلسطينية    3 مراحل حاكمة للاتفاق الذي وافقت عليه "حماس"    اللواء سيد الجابري: مصر الوحيدة اللي مكملة في حل القضية الفلسطينية.. فيديو    شعرت بالقلق.. ندى مرجان لاعبة طائرة الزمالك بعد الفوز بالبطولة الأفريقية    هل تقدم كابونجو كاسونجو بشكوى ضد الزمالك؟ اللاعب يكشف الحقيقة    نجم بيراميدز يخضع لعملية جراحية    كريم شحاتة: كثرة النجوم وراء عدم التوفيق في البنك الأهلي    لأول مرة.. كواليس جديدة في أزمة أفشة وسر ضربة جزاء كهربا    بعد بيان الزمالك.. جهاد جريشة: لا يستحقون ركلة جزاء أمام سموحة    "يا ليلة العيد آنستينا وجددتي الأمل فينا".. موعد عيد الأضحى المبارك 2024 وأجمل عبارات التهنئة بالعيد    مائلا للحرارة على القاهرة الكبرى والسواحل الشمالية.. الأرصاد تتوقع حالة الطقس اليوم    كان وحداني.. أول تعليق من أسرة ضحية عصام صاصا    محافظة الإسكندرية: لا يوجد مخطط عمراني جديد أو إزالة لأي مناطق بالمدينة    ياسمين عبد العزيز باكية: أنا بعشق أحمد العوضي    مبعرفش أكون لوحدي.. رأي مفاجئ ل ياسمين عبدالعزيز في زواجها مرة أخرى    فيديوهات متركبة.. ياسمين عبد العزيز تكشف: مشوفتش العوضي في سحور وارحمونا.. فيديو    فرح حبايبك وأصحابك: أروع رسائل التهنئة بمناسبة قدوم عيد الأضحى المبارك 2024    ياسمين عبدالعزيز عن أزمتها الصحية الأخيرة: كنت متفقة مع العوضي إني أحمل بعد "اللي مالوش كبير"    لا تأكل هذه الأطعمة في اليوم التالي.. نصائح قبل وبعد تناول الفسيخ (فيديو)    بالأسماء، إصابة 16 شخصا في حادث الطريق الصحراوي الغربي بقنا    في 7 خطوات.. حدد عدد المتصلين بالراوتر We وفودافون    كانوا رايحين الجامعة.. ارتفاع مصابي حادث صحراوي قنا ل 16 شخصاً    عصام عبدالفتاح: كلاتنبرج فاشل مثل بيريرا..ولن أعود لرئاسة لجنة الحكام في مصر    كريستال بالاس يضرب مانشستر يونايتد برباعية نظيفة في الدوري الإنجليزي    تعرَّف على مواصفات سيارات نيسان تيرا 2024    "أداب عين شمس" تشارك في احتفالية عيد الشجرة المصري    رغم إنشاء مدينة السيسي والاحتفالات باتحاد القبائل… تجديد حبس أهالي سيناء المطالبين بحق العودة    ياسمين عبدالعزيز: كنت برفض آخد مصروف من جوزي    حظك اليوم برج الميزان الثلاثاء 7-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    ياسمين عبد العزيز: «كنت بصرف على أمي.. وأول عربية اشتريتها ب57 ألف جنيه»    هل يحصل الصغار على ثواب العبادة قبل البلوغ؟ دار الإفتاء ترد    حي شرق الإسكندرية يعلن بدء تلقى طلبات التصالح فى مخالفات البناء.. تعرف على الأوراق المطلوبة (صور)    بعد الفسيخ والرنجة.. 7 مشروبات لتنظيف جسمك من السموم    للحفاظ عليها، نصائح هامة قبل تخزين الملابس الشتوية    كيفية صنع الأرز باللبن.. طريقة سهلة    أستاذ قانون جنائي: ما حدث مع الدكتور حسام موافي مشين    هل يجب تغطية قَدَم المرأة في الصلاة؟.. الإفتاء توضح    الأحرار الاشتراكيين ل صدى البلد: الحركة المدنية تتخذ اتجاها معاكسا لمفهوم استقرار الدولة    شبكة القطار السريع.. كيف تغطي جميع أنحاء الجمهورية؟    ضحايا احتفالات شم النسيم.. مصرع طفل غرقًا في ترعة الإسماعيلية    في 6 خطوات.. اعرف كيفية قضاء الصلوات الفائتة    صانع الدساتير يرحل بعد مسيرة حافلة، وفاة الفقيه الدستوري إبراهيم درويش    مائدة إفطار البابا تواضروس    أمينة الفتوى تكشف سببا خطيراً من أسباب الابتزاز الجنسي    عقوبة التدخل في حياة الآخرين وعدم احترام خصوصيتهم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



د. محمد المهدي يحقق: انتحار الأطفال
نشر في الدستور الأصلي يوم 29 - 09 - 2010

طالب بالصف الأول الإعدادي شنق نفسه لعدم رغبته في الذهاب للمدرسة.. فكيف تهون الحياة علي أطفال في مقتبل العمر بهذه السهولة؟!
د. محمد المهدي يحقق في انتحار الأطفال
«انتحر طالب بالصف الأول الإعدادي (12سنة) بالإسكندرية لعدم رغبته في الذهاب للمدرسة، فقد قام بشنق نفسه بحبل مربوط في عرق خشبي بسقف حجرة أعلي سطح البيت».
حين قرأت هذا الخبر انتابتني مشاعر مختلطة منها الشفقة ومنها الدهشة ومنها الغضب ومنها الحيرة، إذ كيف تهون الحياة علي طفل في هذا السن؟... وكيف اختل توازنه النفسي حتي يصبح الموت عنده أفضل من الحياة؟.... وما الظروف الأسرية التي عاشها؟.... وما حجم الضغوط المدرسية والدراسية التي تعرض لها في السنوات الماضية؟.... وكيف أصبحت المدرسة منفرة والدراسة موحشة إلي هذا الحد؟ .... ومن المسئول عن وصول طفل إلي هذه الحالة من الإحباط واليأس؟... أهي الأمية التربوية لدي المدرسين والقائمين علي العملية التعليمية؟.... أهي الأمية النفسية لدي الأسرة والمجتمع بحيث لم يستشعر أحد معاناة الطفل حتي وصل إلي هذه الحالة؟.
ويطارد خيالي مشهد هذا الطفل وهو يصعد إلي سطح المنزل لا ليلعب أو يطيّر طيّارة ورقية - كما كان الحال من قبل- ولكن ليقف علي كرسي ويربط الحبل في العرق الخشبي، ثم يلفه حول رقبته، ثم يضرب الكرسي بقدميه الصغيرتين ليشنق نفسه هربا من جحيم المدرسة أو من جحيم الحياة التي يعيشها هو وأسرته.
وتتوالي الصور من حوادث انتحار الأطفال في السنوات الأخيرة: طفلة عمرها 9 سنوات انتحرت بسبب سوء معاملة زوجة أبيها لها، وتدهور مستواها الدراسي...... انتحار طفل في قرية للأطفال بالإسكندرية حيث وجد معلقا في سقف حجرته يرتدي كامل ملابسه، وقد قام بشنق نفسه بجنزير حديدي لمروره بأزمة نفسية قيل إنها بسبب سوء معاملة المشرفين والمشرفات علي الدار..... طالب في الإعدادية يلقي بنفسه من فوق سطح منزله لحصوله علي درجات متدنية وخوفه من عقاب والده.... طالبة في الصف الثاني الثانوي تلقي بنفسها من شرفة غرفتها بعد فشلها في الحصول علي المجموع الذي تريده وتريده أسرتها للالتحاق بإحدي كليات القمة..... طفلة في الحضانة تتحدث لأمها عن رغبتها في أن تموت لأنها لا تستطيع فهم دروسها بالشكل الذي يرضي أباها... طفلة في الصف الثاني الابتدائي تقف علي كرسي لتقفز من فوق سور البلكونة وينقذونها في اللحظات الأخيرة والسبب هو ضغط الدراسة والواجبات.
قد نري مثل هذه الأحداث في بلدان أخري ولكنها تكون متناثرة ولا تشكل هذا الزخم الانتحاري المقلق في هذا السن، فمن المعروف أن الانتحار يكون نادرا في الأطفال، حيث يقضون وقتهم في اللعب واللهو والمرح، ولا يتحملون مسئوليات كثيرة، ولا يدركون من مشكلات الحياة وضغوطها كما يدرك الكبار، وأنهم في حماية ورعاية من والديهم ومن المجتمع.
فهل ياتري انتقلت الضغوط والمعاناة من الكبار إلي الصغار حسب نظرية الأواني المستطرقة، أم أن وعي الأطفال زاد عن ذي قبل وأنهم كبروا قبل الأوان وعانوا ما يعانيه الكبار؟... أم أن العملية التعليمية يشوبها خلل هائل أحدث ضغطا علي الأسرة حين استنزف جهدها ومالها ووقتها بلا عائد وأحدث ضغطا علي الأطفال بلا مبرر؟
قد نفهم بسهولة لماذا تضاعفت نسب الانتحار في مصر فزادت خمسة أضعاف في عام 2010م مقارنة بعام 2005م، ولكن لكي نفهم الزيادة في انتحار الأطفال ربما نحتاج إلي مزيد من القراءة والتحليل للظاهرة وخاصة في ارتباطها بالعملية التعليمية.
منذ سنوات والجميع يشهد بتدهور العملية التعليمية في مصر بدءا بالمقررات ومرورا بالمدرسين وانتهاء بنظام الامتحانات (ولا أحد يفعل شيئا ). ولا يخفي علي أحد دخول الدروس الخصوصية علي الخط بحيث كانت في فترة نوعاً من التعليم المساعد، ثم تحولت إلي نوع من التعليم الموازي ثم أصبحت الآن تعليمًا بديلا للمدارس، وأصبح الذهاب للمدرسة بلا جدوي في نظر الطلاب، وحين يذهبون فهم يفعلون ذلك مرغمين لتفادي تجاوز نسب الغياب والفصل من المدرسة. وقد أصبحت المدارس خالية من الطلاب خاصة في مرحلتي الثانوية العامة حيث يجد الطلاب أن من الأجدي لهم أن يذهبوا إلي الدروس الخصوصية، وأن وقت المدرسة يعتبر وقتا مضيعا. ولم يتوقف ضعف دور المدرسة علي الجانب التعليمي بل ظهر هذا الضعف أكثر جلاء في الجانب التربوي الذي كاد يتلاشي في المدارس الحكومية والخاصة علي حد سواء، حيث لم يعد أحد يهتم به أو حتي يشعر بجدواه فالمدارس تضع أمام عينيه إذا وضعت درجات آخر العام، تلك الدرجات التي تهيئ للطالب في الثانوية العامة دخول ما يسمي تجاوزا وخطأ بكليات القمة. ولما أصبحت الدرجات هي الهدف (وليس العلم) استعان أولياء الأمور بالمدرسين الخصوصيين المحترفين ليصنعوا من أبنائهم وبناتهم «كائنات امتحانية» تحقق درجات تتجاوز الدرجات النهائية (في مشهد لا يحدث في أي مكان في العالم أن يحصل طالب علي 105%)، وراحت قيمة العلم وتلاشت أهمية التربية، وأصبح الجميع يعيش حالة تنافسية ضاغطة علي أعصاب الطلاب وأولياء الأمور والمدرسين.
ولما كانت الدرجات هي الهدف حاول الطلاب بتأييد ومباركة من أولياء الأمور وإغماض عين من لجان المراقبة، الحصول علي الدرجات بالغش، أو الحصول علي الامتحان قبل موعده، وهكذا تلوثت العملية التعليمية بما تلوث به الشعب المصري في السنوات الأخيرة من الغش والتزوير والتلفيق علي مستويات أعلي، وقد باءت كل المحاولات إن كان ثمة محاولات جادة بالفشل لوقف تسريب الامتحانات إلي الدرجة التي تقرر فيها هذا العام نقل امتحانات الثانوية العامة بواسطة طائرات عسكرية!!!!! وهو أمر مثير للدهشة والحيرة، إذ لم يعد أحد مؤتمناً علي أسرار الامتحانات. وقد أحدث هذا ضغطاً هائلاً علي الشرفاء من الطلاب وأولياء الأمور واختل ميزان العدل، إذ قد يحصل طالب ضعيف المستوي علي الدرجات النهائية بالغش ويأخذ فرصة طالب مجتهد رفض أن يغش، ومن هنا بدأ الخلل في الحياة المصرية حيث يتعلم الطالب مبكراً أن العدل مفقود في هذا المجتمع، وأن الحياة فيه تحتاج إلي طرق ملتوية وغير شريفة لتحقيق الإنجاز المطلوب، وأن النجاح ليس مرتبطا بالضرورة بالعمل الجاد والصدق والأمانة والإخلاص، بل قد تكون تلك القيم الإيجابية غير مجدية في هذا المجتمع... كل هذا يسبب خللا هائلا في ميزان القيم في وعي الطلاب في هذه السن المبكرة. ومن ينجح بالغش يستمر في حياته علي هذا المنهج فيرتشي بعد ذلك ويلفق القضايا ويزور الانتخابات ويسرق أموال البنوك بلا ضمانات ويشكل قاعدة واسعة للفساد.
وهذا ما يطلق عليه الكتّاب والمفكرون «انهيار العملية التعليمية»، وهو في الحقيقة ليس انهياراً فقط في العملية التعليمية بل «انهيار في العملية التربوية» و«انهيار في بناء المنظومة الأخلاقية» و«انهيار في المنظومة النفسية» و«انهيار في المنظومة الوطنية» و«انهيار لقيمة العدل وتكافؤ الفرص».
وعلي الرغم من كل تلك الانهيارات التي يسببها الخلل متعدد المستويات في العملية التعليمية، فإن تلك العملية تشكل استنزافاً لموارد الأسرة المصرية بلا عائد حيث يتخرج الطالب ويحصل علي شهادة لا تتيح له فرصة عمل ويحصل قبل ذلك علي تعليم لم يمنحه مهارات تؤهله لسوق العمل فيحدث إحباط للطالب وإحباط للأسرة ولكن الجميع لا يجد بديلاً متاحاً لهذا التعليم المتدهور فيستمر التنافس للوصول إلي اللاشيء، ويظهر التعليم الخاص ليعطي الناس أملاً، ولكنه لظروف خاصة يتحول إلي وهم. وتبقي الوظائف مرهونة بعوامل أخري مثل الرشوة والوساطة والمحسوبية. كل هذه العوامل أهدرت العلم كقيمة واستبدلته بدرجات امتحانية بلا معني، وأهدرت التعلم كقيمة واستبدلته بشهادة ورقية لا تسمن ولا تغني من جوع.
ولنعد مرة أخري إلي انعكاس هذه السلبيات علي الحالة النفسية للطلاب وأولياء الأمور، فنري عزوفا من الطلاب عن الذهاب إلي المدارس ثم بالتالي احتياجا شرها للدروس الخصوصية. وإدراك الطلاب لانعدام أو ضعف قيمة الشهادة التي يحصلون عليها في النهاية يجعل الدافع للدراسة ضعيفا لديهم مما يستلزم ضغوطا متوالية من الآباء والأمهات لكي يذاكروا ويحققوا أعلي الدرجات (لاحظ أنه لم يعد أحد يفكر في العلم أو في القدرات والمهارات ولكن فقط في الدرجات والتي أصبحت هي الهدف)، ومن هنا اضطربت العلاقة بين الأبناء من ناحية وبين والديهم من الناحية الأخري حيث أصبحت هذه العلاقة تتحدد بمدي التزام الطلاب بما يريده منهم آباؤهم في الأمور الدراسية، ومن هنا تراجعت تلك العلاقة الأبوية الفطرية الدافئة في البيوت واستبدلت بعلاقة محورها المذاكرة والامتحانات وتحصيل الدرجات، وهذا يفسر حالات العناد والتمرد من الأطفال في كل البيوت تقريبا والشكوي المزمنة من الآباء والأمهات من أن هؤلاء الأطفال لا يسمعون الكلام ولا يحرصون علي مصلحتهم.
ثم ننتقل إلي المدرسة لنري حالها في الوقت الحالي:
فمن ناحية البنية نجد أن كثيرا من المدارس تخلو من الحدائق والملاعب وصالات الأنشطة، بينما تتكدس بالفصول الأسمنتية الكئيبة والمظلمة، وإذا انتقلت إلي دورات المياه فإما أنك تجدها محطمة أو تجدها مليئة بالقاذورات. قد تكون هناك استثناءات في بعض المدارس الخاصة عالية المصروفات، ولكن القاعدة تميل إلي أن تكون البنية المدرسية منفرة أو علي الأقل غير جاذبة.
أما من ناحية البنية البشرية من إداريين ومدرسين فنري أنهم في حالة لا تتيح لهم أداء وظيفتهم وهم منشرحو الصدر مرتاحو البال فالمرتبات غالبا متدنية، والأحوال الاجتماعية متدهورة، والظروف النفسية ضاغطة، وربما يخرجون معاناتهم في حياتهم في صورة معاملة فظة في بعض الأحيان أو في صورة لا مبالاة بالعملية التعليمية في أحيان أخري.
والجو العام في المدارس عموماً يخلو من اللمسات الوجدانية الإيجابية، فالمدرس في حالة «زهق» و«قرف»، وهو مضغوط من الإدارة لإنهاء المناهج الكثيفة في موعدها، ولهذا السبب ولغيره تقلصت الأنشطة المحببة إلي نفس الطلاب مثل الأنشطة الرياضية، أو المسابقات أو الرحلات، أو الأنشطة الفنية، وأصبح المتاح هو التعليم الجاف الخشن المنفر، علما بأن سن طلاب المدارس يحتاج لعمليات تلطيف للمادة التعليمية وأن تكون مقترنة بأنشطة استمتاعية وترفيهية، ومقترنة قبل ذلك بعلاقة ودودة محبة من القائمين علي تلك العملية وهو ما يغيب بشكل كبير عن مدارسنا أو عن معظمها.
وتظهر صورة الاضطرابات جلية في فترة الامتحانات حيث تشاهد حالات الإغماءات وتسمع الصراخ والعويل في اللجان وتظهر الأعراض الهستيرية في الطالبات والطلاب، وقد حدث في بعض اللجان أن قام عشرات الطلاب بتمزيق أوراق الأسئلة وأوراق الإجابة احتجاجا علي صعوبة الامتحانات. وقامت طالبة في محافظة البحر الأحمر بمحاولة إلقاء نفسها من الطابق الثالث أمام لجنة الامتحانات، وطالب آخر من الإسكندرية حاول الانتحار داخل لجنة الامتحان بعدما كسر الشباك الزجاجي وتم إنقاذه في اللحظات الأخيرة. كما قام أولياء الأمور باقتحام أحد مقار الامتحان في لجنتين بمدرستين في القاهرة بعدما سمعوا صراخ بناتهم في الداخل، ووقف عشرات من أولياء الأمور يتظاهرون أمام ديوان عام وزارة التربية والتعليم مرددين هتافات ضد الوزير ومطالبين الرئيس بالتدخل لإنقاذ أبنائهم. ويقوم الإعلام بعملية تسخين قبل الامتحانات وأثنائها وبعدها بما يوحي أننا نعيش حالة طوارئ شديدة الوطأة علي الجميع.
هذا الجو المضطرب يجعل درجات القلق ترتفع كثيرا قبل الامتحانات مما يجعل كثيراً من الطلاب غير قادرين علي التركيز وتظهر لديهم أعراض التوتر النفسي فتقل ساعات نومهم أو تزيد بدرجة ملحوظة ويصبحون أكثر انفعالاً وحساسية وتزداد لديهم الأعراض السيكوسوماتية مثل الصداع والقيء والإسهال، وتزيد لديهم السلوكيات الهروبية فيقضون أوقاتاً طويلة أمام التليفزيون أو علي الإنترنت أو يقررون عدم دخول الامتحانات. وهنا يزداد ضغط الأسرة علي الطالب علي اعتبار أنه مستهتر ولا يحرص علي مصلحته فيزداد توتره وهروبه من المذاكرة والامتحانات، وربما يود لو يهرب من الحياة نفسها.
ونعود لما بدأنا به: كيف تتكون الفكرة الانتحارية لدي طفل وكيف يصل إلي قناعة بأن الموت أفضل له من الحياة؟
باختصار شديد فإن الآباء والأمهات يشعرون أنهم مرهقون ومستنزفون في التعليم والدروس الخصوصية وأن أبناءهم لا يقدرون ذلك ولا يشعرون بالمسئولية، وتتحدد علاقة الأبوين بما ينجزه الطفل في المدرسة بحيث يشعر الطفل أن أبويه لا يحبانه لذاته وإنما لما يحققه من تفوق دراسي، وهنا تختزل العلاقة علي الأقل في عقل الطفل في مسألة الإنجاز الدراسي.
وقد يكون الطفل غير قادر علي تحقيق توقعات أبويه في التفوق الدراسي أو حتي الاستمرار في المدرسة، وهنا يشعر الطفل بأنه أغضب أبويه وأنه سبب لتعاستهما وأنه فاشل وسيئ. وعاق، وهنا يتوجه إحباطه وغضبه نحو ذاته فيدمرها في لحظة يشعر فيها أنه قد خسر الحياة مادام قد خسر حب والديه، خاصة أن الوالدين بالنسبة للطفل هما العالم كله. ويساعد علي خيار الانتحار ما يشاهده الطفل عبر وسائل الإعلام من حالات انتحار لدي الكبار تزداد يوما بعد يوم تحت وطأة الحياة القاسية والضاغطة علي الجميع بلا رحمة.
بعد هذا الاستعراض لأزمة الطفل وأزمة الأسرة وأزمة التعليم في بلادنا فإن الأمر يستدعي مراجعة لدوائر ومناطق كثيرة في حياتنا... فمثلا نحن نحتاج أن نمحو أميتنا التربوية فنفهم احتياجات أطفالنا في مراحلهم المختلفة، وأن نمحو أميتنا النفسية فنستشعر معاناة الطفل وأحاسيسه خاصة أنه في هذه السن لا يستطيع التعبير عنها بشكل مباشر بل تظهر في صورة اضطرابات سلوكية كاضطراب النوم والشهية أو العصبية الزائدة أو العنف والتمرد. ويحتاج الأمر دورات تربوية للوالدين للإحاطة بكل هذا.
أما العملية التعليمية والتربوية في المدارس فهي تحتاج لرؤية مختلفة تماما عما هو سائد في الوقت الحالي بحيث يعود الطلاب إلي حب مدارسهم واحترام مدرسيهم في مدرسة جاذبة لهم من حيث الشكل والأنشطة ومعاملة البشر. ولو أنفقنا كشعب وحكومة غالبية مواردنا وجهدنا في إصلاح التعليم فإننا نكون قد حققنا أهم هدف وبدأنا مسيرة التنمية الصحيحة فكثير من نماذج النهضة لدي الأمم المختلفة بدأت بإصلاح التعليم، أما لو استمر الحال كما هو الآن فسيتوالي انتحار الأطفال والكبار بما يشكل حالة انتحار لوطن بأكمله.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.